LOADING

Type to search

نكتبُ ونرسم ونصنعُ أفلامًا كي نؤنسِنَ الوحش!

ثقافة وفنون موضوع العدد

نكتبُ ونرسم ونصنعُ أفلامًا كي نؤنسِنَ الوحش!

جواد ديوب
Share
باسم سليمان

قد يتساءل البعض: ما فائدة الفن في العالم الواقعي المؤلم الذي نعيشه؟ بمعنى آخر: لَمْ يحدثْ أن وضعَ كتابٌ ما لقمةً في فم ِجائع… ولا أوقفتْ لوحةٌ رصاصةً في طريقها إلى جسد إنسان… ولا منعت روايةٌ أو مسرحيةٌ أو فيلمٌ أو حفلةٌ موسيقية قذائفَ الحرب من السقوط فوق رؤوس الأبرياء… فلماذا إذن نكتب ونرسم وننحت ونؤلف الموسيقا…إلخ إذا ما قارنا كل هذه الفنون بعمل الأطباء والمهندسين وعمال النظافة والكهرباء والفلاحين والحرفيين في كل المهن اليومية الضرورية وغيرهم؟

قلقٌ وجوديّ!

حاولنا بهذا السؤال أن نُحرّضَ الروائي باسم سليمان فأجابنا: “إنّ أسئلة من هذا النوع، تكشف لنا مقدار القلق الوجودي الذي نعيشه، ولكن في الوقت نفسه تثبت لنا أنّ الجدوى من الآداب والفنون ضرورة إنسانية على الرغم من أنّ الحروب والفقر تعمل على تغييبها. ولأنّ الكائن البشري يستضيء بالتاريخ الإنساني، كانت روايتي (جريمة في مسرح القباني) تكاد تطرح ذات السؤال: ما الذي تستطيع الفنون والآدب فعله في مواجهة عنف الحروب والفقر؟ أو كيف نسرد/ نُمسرحُ العنفَ حتى تكون هبته السلام! كما يقول رينيه جيرار: “السلام هِبَةُ العنف” في كتابه العنف والمقدس. من هذا المنطلق كتبتُ! كوني ضحية الحرب، وناجيًا، وشاهدًا، وأحد الشركاء فيها، سواء كان أمري فيها، محايدًا، أم إيجابيًا، أم سلبيًا. إذن على الرغم من الحرب والوضع الاقتصادي الخانق كنت أكتبُ لأنّها الوسيلة الوحيدة التي كنتُ أملكها لأنجو كإنسان”.

الشِّعر هو الصراخ الفائض عن الألم!

لجينة النبهان

ولعل البوابة التي لابد من عبورها للإجابة عن سؤال مثل: لما تكتبينَ الشعر؟ بالنسبة للشاعرة لجينة النبهان صاحبة ديوان “حرائق خضراء”، تكمن في سؤالٍ آخر أكثر أسبقية ألا وهو: لماذا كان الشعر؟

تُجيب النبهان مستضيئةً بقول للفيلسوف (هوسرل): “إذا أردنا أن نقترب من نسغ الحياة المنسيّ، من لطافتها غير المكتملة أبداً ولكن الجاهزة دائمًا؛ فإننا نحتاج شعرًا أكثر مما نحتاج إلى العلم والتفكير المجرد”، وكما تقولُ حنّا آرندت: “إذا كانت الفلسفة حارسة الحقيقة، فإن الشعراء يسهرون بفضل كلماتهم على الأصوات وثيقة الصلة بالحقيقة(…) إننا نؤنسنُ ما يجري في العالم بالتكلم.”

وتُكمل النبهان قولها: “هو الشعر إذن، الصوت الأكثر عمقًا في تاريخ هذا الكائن/الانسان، إنه حاجتنا للفهم والتعبير والوجود، هو السؤال الذي ينتهي إلى سؤال، وهو اللغة المستشرفة ذات الحدس الذي يرى ما لا يراه العقل، وبالعودة إلى سؤالك: لماذا أكتبُ الشعر؟ أقول: أكتبُ من إيماني أنه “زمكانُ” الممكن جدًا في “زمكانِ” المستحيل! الشعرُ صوتُ من لا صوتَ لهم في الأزمنة الكالحة! هو الصراخ الفائض عن الألم! هو ما يفيض عن الحب حين يُختَمُ عليه بالشمع الأحمر! هو المخلّص حين لا خلاص! يأخذنا في عوالمه مانحاً إيانا لذة الوهم، إنه قبسُ النور في وعينا حين نسقط في هشاشتنا… لأجل هذا والكثير غيره أكتبه…أظننا لا نختار الشعر، بل هو مَن يختارُنا، وعلينا أن نكون ممتنّين لهذا الحظ”!

حواريةٌ بين الكلمة واللون!

فيما يُعنوِنُ الفنان “محي الدين ملك” إجابته بـ”تشظّي الدلالة من الكلمة إلى الرسم” يقول فيها: “قلتُ في نفسي: ليس هناك ضرورة في البحث عن جواب إضافي عن السؤال، فمن الواضح أن الأسئلة لا تقتصر على “ما الفن؟”، بل تشمل أيضًا “لماذا وكيف ومتى وأين يستحق الفنُّ أن يكونَ فنًا؟” ويبدو من الواضح أن الفن محل إرباكٍ وقلقٍ، ليس في ممارساته الفكرية والنقدية، ومحدداته الذوقية والقيمية، وحسب، إنما إرباكٌ وقلقٌ بالمعنى العنيف، أي حين يحتفي الفن بنفي الآخر/الموت”.

ثم يحيلنا الفنان “ملك” إلى بعضٍ من نداءات ورسائل متبادلة بين الكاتب عبد الرحمن منيف الذي أقام فترة من حياته في دمشق، والفنان مروان قصّاب باشي المقيم في ألمانيا، حيث يكتب منيف لمروان قائلاً: “المخاضُ الذي أعيشه منذ فترة لكي أكتب، يتعسر، يتعثَّر، يتلوى، يتباطأ، وبالتالي، لا بد من طريقة ما للتعامل معه. ليس ذلك فقط، ارتكبتُ حماقةً…”رسمتُ”، والكلمة الأخيرة كبيرة فضفاضة إلى درجة الاستفزاز، وكدتُ في اليوم التالي أنتزع الورقة المرسومة وأستبدلها، لكن، قلت لنفسي في لحظة معينة: لماذا يخجل الإنسان من حماقاته؟ لماذا يصرُّ على أن يبقى لابسًا ربطة العنق ومبتسمًا، وكأن لا همَّ لديه سوى التقاط صورة فوتوغرافية؟ تحويل اللوحة إلى كلمات مصيبة، وتحويل الكلمات إلى لوحة مصيبة أكبر.”

محي الدين ملك

فيرد عليه قصّاب باشي: “عزيزي منيف: إن الفن يمكن أن يفعل شيئًا مهمًا، يجعل البشر أكثر احتمالاً، إن لم أقل أجمل! كان لدي شك كبير وربما لايزال، أننا نخوض في مياه ضحلة، وبالتالي، لا حاجة للكلمات الكبيرة أو الأحلام حول المستقبل، ولهذا فإن الفن، أيًا كانت وسيلته، هراءٌ، لعبةُ مجانين، شيء زائد. ربما اللون -وللحياد الذي يميزه- لا يزال قادرًا على أن يقول الأشياء بشكل جديد ومختلف”!

هكذا يتأمل الفنان محي الدين تلك الحوارية ويعقّب: “لا يوجد لسانٌ مكتوب دون صورة، ولا توجدُ صورةٌ دون كلمات، وما يصحّ على وجوه “مروان” هو صحيح على أدبِ “منيف”، ويدلُّ على شكل فنيٍّ هو “عزلةُ لسانٍ شعائريًّ” على حدِّ قول رولان بارت، وبوسعه “أن يستثير المشاعرَ الوجودية المرتبطة بقاع الأشياء: كمعنى الخارق، والأليف، والمثير للاشمئزاز، والمريح، والمعتاد”، ويبقى أن الفنَّ تمرينٌ على الترويض…أو على الرفض!”

السينما تلمس المناطق الداكنة في شخصياتنا!

وإن كان الفن تمرينٌ على الرفض عند محي الدين ملك فإنه بالنسبة للمخرج السينمائي الشاب فراس محمد “قادرٌ بالعموم على التطهير، وفي نفس الوقت التفريغ، يجتر كل القيح الداخلي ويحوله لمادة تجمع بين الوعي بقيمة الأشياء وترتيب الأولويات، وبين لمس العاطفة والمناطق الداكنة في شخصياتنا تلك المناطق المُهملة التي لا نعيها ضمن دوامة الحياة وسرعتها الهوسية. لكن تكريس هذه الحالة لا يأتي سوى بالتراكم، ويعكس القيمة الثقافية للمجتمع. إن الفن يزدهر في المجتمعات المهيئة لتلقيه، حتى في ظل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، بدليل نشوء الموجات السينمائية العالمية الأهم زمنَ الحرب والكساد الاقتصادي”.

فراس محمد

المخرج محمد (كتب وأخرج ستة أفلام منها: تأويل، وخمسة وأربعون، والحرامي، والدائرة السحرية) يكمل فيحكي لنا عن علاقته بالسينما كيف أنها “بدأت كمشاهد تراكمت لديه التفاصيل السينمائية لدرجةٍ تجاوزتْ معها السينما زمنَ المشاهدة، وتحولت إلى صيغة تعبير مُريحة آمنة، رغم أن الفن الحيّ ينتج عن القلق الدائم، فتركيبات السينما السمعية والبصرية أصبحت أكثر إغراءً وخصوصًا أنها تتفنن في عدم تسمية الأشياء بمسمياتها. السينما قادرة دائماً على صنع المقاربات كي لا تتحول إلى فن يعتمد الاستثناء فقط، هي قادرة أن تروي قصة شديدة المحلية، والتفاعل مع الثقافات والمشارب المختلفة، وهذا فعلٌ مُغرٍ أيضًا في القول والتعبير، إضافة إلى تحول مفهوم المتعة عندي من المشاهدة إلى الكتابة إلى العمل في اللوكيشين والصناعة، ثم أصبحت جزءًا من عملي وخصوصًا بعد أن خضت مجال التدريس فيها.”

نِيّةٌ خيّرة!

الروائي سليمان يعلم جيدًا “أنّ الآداب والفنون والقراءة لا تردع رصاصة، ولا تملأ بطنًا، ولا تنقذ جريحًا، ولا تدفئ صغيرًا؛ وهذا قطعًا صحيحٌ من جانب، وخاطئٌ من جانب آخر”، لذلك ينهي مداخلته فيقول لنا:

“إنّ مَنْ يطلبُ مِن الآداب والفنون والقراءة أن تلعب تلك الأدوار، هو كمن يعتقد بأنّ ماءَ البحر سيرويه استنادًا إلى أن السائل الذي يملأ البحار أكثره ماء! لكن لنتوقف لحظة ونتأمّل الصيرورة التي يروي بها البحر الظمآنَ عن طريق تبخر مائه، وتشكّل الغيوم، وهطول الأمطار التي تغذّي الينابيع والأنهار… هذه هي النيّة الخيّرة والعمل المنتج للآداب والفنون والقراءة.”

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
LinkedIn
Instagram0

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.