موسيقا الأطفال في سان بيترسبرغ
Share
منذ بضعة أيام، تلقت العائلة دعوة من معهد الموسيقا الذي يتعلم فيه ابني، لحضور حفلة موسيقية يحيها تلاميذ المعهد تحضيرًا للاحتفال بيوم المرأة العالمي في الثامن من آذار في احدى ضواحي مدينة سان بيترسبرغ الروسية. خرجنا زوجتي وولدينا وأنا مشيًا على الأقدام على بساط ثلج جديد أبيض ناشف، ورحنا نمشي باتجاه المعهد الذي يبعد بضع مئات الأمتار عن بيتنا. وكعادة الصغار حين تتسنى لهم الفرصة اثناء المشي، لا يتركون سؤالاً يمر في مخيلتهم إلا ويطرحونه بأسلوب البراءة المعتادة عندهم. وما عليك في حالة كهذه إلا أن تفكر مليًا بالإجابة على أي سؤال قبل أن يأتيك السؤال التالي. ولا يقطع حبل أفكارك في هذه اللحظات، الا رقعة ثلج صغيرة تنزل ببطء من أمام عينيك لتهدأ على القسم الصوفي من القبعة الروسية التي تغطي رأس أحد الصغيرين.
وصلنا الى الشارع المقابل للمعهد، وبدا أمامنا مشهد أهالٍ يمسكون أيدي صغارهم ويمشون نحو المعهد صفوفًا، وهم منهمكون أيضًا بالاستماع إلى اسئلتهم والبحث عن الجواب. دخلنا المدرسة وصعدنا الى الطابق الثاني حيث قسم الموسيقا، وبدأ ما لم أكن أتوقعه من نظام في ورشة عمل يقوم بها الجميع لمساعدة الجميع؛ الأهالي والأساتذة يساعدون الصغار على خلع ملابس الثلج وارتداء ملابس الحفلة، ومن الناحية الاخرى نساء يقمن باستقبال الأهل والحضور ويوصلونهم الى مقاعدهم.
جلسنا في مقاعدنا بانتظار ابتداء الحفل وكان الحضور يصل تباعًا، فترى هذا يسلم على ذاك وتعلو من هنا ضحكة تقابلها أخرى من الناحية المقابلة، والجميع يرتدي الملابس الانيقة الجميلة فتشعر وكأن الاطفال في هذه المناسبة هم من اشتروا ملابس العيد لأهاليهم.
وصل الجميع، امتلأت القاعة، ولم يبق سوى المعلمات والاساتذة يروحون ويجيئون كعاملات خلية نمل يحضرونها ويجهزونها قبل ابتداء المطر. دخلت مديرة المعهد، رحبت بالحضور ثم ألقت كلمة قصيرة أثنت فيها على جهود المرأة ودورها في المجتمع، وعلى واجب تكريمها ومن ثم أعلنت ابتداء الحفل متمنية للجميع وقتًا ممتعًا. بعد ذلك بدأ دخول الاطفال الى المسرح المزين كالربيع، وراح كل طفل يأخذ مكانه وكل طفلة تذهب الى آلتها. صفق الحضور لهم وبدأ العيد الذي لم أتوقع ان يكون هذا اليوم موسمه. باشر الاطفال بلعب أدوارهم وراحوا يعزفون ويتمايلون مع آلاتهم وكأنهم وتلك الآلات روح واحدة تولد منها ألحان الفرح وأنغام السحر الذي يدخل الى أعماق أعماقك ليحاكي وجدانك براقي الجمال. وعلى أنغام تلك الموسيقا الرائعة بدأت مجموعة من الاطفال بأصواتها النقية الملائكية تنشد اغنية المرأة، ومعها دخلت مجموعة من الفتيات بفساتينها وشعرها المجدول ترافقها مجموعة من الفتيان باللباس الابيض والاسود وراحوا يرقصون على أنغام موسيقا رفقائهم رقصات مروج الربيع.
كان المسرح كأنه بستان مزهر عطر نديّ يبشر بخيرات المواسم المقبلة…
أطفال كالعصافير تزقزق عزفًا وانشادًا
أطفال كالفراشات ترقص وكالأزهار تتمايل مع النسمات في ذلك البستان المفعم بالحياة
أطفال تعزف وتنشد للحياة
أطفال ترقص للحياة
أطفال للحياة وكالحياة.
في تلك اللحظة نظرت الى الخارج من خلال واجهة زجاج كبيرة، فاذا بالثلج ينزل مترنحًا كأنه يرقص على أنغام موسيقا الأطفال. كانت تلك القاعة مغمورة بالجمال والفرح والنظام. كان كل فرد يؤدي دوره بمسؤولية، والجميع يتعاون كفريق عمل متناغم يجمعه هدف واحد. وخطرت ببالي مقولة تستعمل في بلادنا للدلالة على فريق عمل متناغم يعمل بنشاط فيقال:”إنهم يعملون معا كعائلة متماسكة.” لكن ما رأيت لم يكن عائلة، بل مجتمعًا متماسكًا يعمل وينتج.
أشرف الحفل على النهاية بالنجاح المطلوب، وبدأت علامات الاعتزاز تعلو على وجوه المعلمات والمدربين على المسرح، وعيون عاملات النظافة تزهو فخرًا بما أنجزته مدرستهم من نجاح في هذا الحفل، وكنّ طبعًا عاملات تنظيف روسيات من اهل البلد. ومن الناحية الاخرى بانت على وجوه الاهل علامات البهجة والرضا ممزوجة بالفخر والأمل بمستقبل مبشر يسير خطوة خطوة الى جانب اولادهم الصغار.
وما إن انتهت الحفلة وعلا التصفيق، حتى فتح الأهل أكياسًا أو حقائب صغيرة يحملونها، وانهالت هدايا الشكر والتقدير من ورود وحلوى على المعلمات والمدربين وعلى جميع العاملات والعاملين في ذلك المعهد.
توقفت لبرهة عن التفكير وذهب بي الخيال من مسرح الفرح والجمال والفن في ذلك المعهد إلى مسرح أطفال وأحداث بلادنا في جميع كياناتها، ماذا يفعلون؟ كيف يعيشون؟ أين يتعلمون ومن هم معلموهم؟ وماذا يتعلمون؟ وما هو دور أهاليهم وماذا يتابع الاهل من كل هذا التعليم؟ وهل يدعوهم معهد أبنائهم الذين يتعلمون فيه لحضور أية حفلة؟
إن أطفال وأحداث بلادنا يتعلمون في مراكز وظائف القاصرين، فيبيعون الأغراض على الطرقات، أو في محطات بيع المحروقات، يمسحون زجاج السيارات، أو في المتاجر حيث يقومون بنقل الأغراض من المتجر الى سيارة زبون كسول اشترى أغراضه وبقي في سيارته متكلاً على “الولد” ينقل له الأغراض الى السيارة… وكل هذه الاعمال تكون مقابل إكرامية أصغر من صغيرة يتقاضاها الطفل أو الحدث. إنهم يتعلمون الكذب وأساليب النصب والتدجيل من أجل كسب قوتهم وعيشهم غير الكريم. إنهم يتعلمون إن يقسموا أو يحلفوا بالباطل أو بشرفهم أمام من يتعامل معهم أو يشتري منهم ما يبيعون، من أجل ربح أكبر مما هو محلل، أو من أجل امكانية بيع ما هو غير صالح للبيع… إنهم يتعلمون فنون التدخين بكل أساليبه في هذه السن المبكرة. وكل عمليات التدريب والتعليم هذه تتم على أيدي مدربين محترفين.
والمؤلم أكثر مما سبق هو تكريم المعلمين في نهاية الحفل. فالتكريم في بلادنا لا يكون بمبادرة من الأهل طبعًا، بل بغيابهم. والتكريم لا يكون بتقديم الحلوى ولا بالورود من أجل الشكر والتقدير. فالمعلمون وأرباب عمل هؤلاء القاصرين، يفرضون الضريبة أو الجزية على هؤلاء الصغار في آخر النهار تكريمًا لأنفسهم، فيقاسمونهم الاكرامية بأكثر من نصفها ولا يتركون لهم إلا القليل مما حصلوا طيلة نهار عملهم، فيذهبون عند المساء بحسرة وقهر الى حيث ينامون وما بيدهم حيلة إلا الجهد والايمان بموضوع النصب والاحتيال واحتمال السرقة لتعويض ما خسروه ولصون ما سيحصلونه وحمايته من أنياب كبار الحيتان.
كل هذا ويبقى الاهل يصفقون لزعمائهم الممسكين بمقدرات البلاد وينتسبون الى أحزابهم وميليشياتهم. أما الدولة والقيمون عليها فإنهم لا يكترثون للخطر الواقع على الأجيال الطالعة في بلادنا. ومثلهم رجال الدين الذين بعد أن يجمعوا غلة المعبد في عطلة نهاية الاسبوع، وبعد أن يجمعوا محاصيل مدارسهم ومؤسساتهم الطبية، يصلّون ويباركون ويشكرون الرب على كل شيء خاصة على خيراته الفائضة عليهم. إن واجبات رجال الدين في بلادنا المحافظة على حصص طوائفهم في الدولة ومصالحهم مع المصارف وهم يقومون بواجبهم على أكمل وجه.
هؤلاء الأحداث هم جزء من مستقبل البلاد. ما يتعلمونه اليوم هو ما سيطبقونه غدًا، ومنهم سيكون رجال الدولة ورجال الدين “الأجلاء” في المستقبل القريب.