مخاطر التتريك-حسان يونس
Share
مقدمة :
تصنف تركيا الحديثة ضمن الدول الممزقة التي تعاني ضياعا في الاتجاه والهوية بين الشرق والغرب. هذا التمزق ظهر منذ مائة عام مع حركة الاتحاد والترقي التي تبنت القومية التركية العلمانية وأعلنت الحرب على الهوية العثمانية الإسلامية وتكرس تماما مع مصطفى كمال أتاتورك مؤسس الدولة التركية الحديثة ذات التقاليد العلمانية المصانة دستوريا بقوة الجيش .
إذا نظرنا إلى التاريخ ابعد قليلا أو كثيرا من الدولة التركية الحديثة ,نجد أن الدول التي تتالت على الجغرافية التركية (آسيا الصغرى ) كاليونانيين والرومان والبيزنطيين ومن ثم العثمانيين لطالما وجدت في الهلال الخصيب امتدادا إقليميا لها وخاضت في سبيل السيطرة عليه كليا أو جزئيا حروبا طاحنة مع الإمبراطوريات الشرقية المهيمنة في حينه كالدولة الفارسية والدولة الإسلامية في أطوارها المتعددة ومن ثم الدولة الصفوية الفارسية مرة أخرى .
يمكن القول أن هذه المنطقة وفقا لوعي النخب الحاكمة في تركيا قديما أو حديثا هي “حق تاريخي” لذا فجدلية صراع هذه النخب من اجل التمدد جنوبا وإحكام سيطرتها لم تتوقف ,وإنما استمرت بدرجات متفاوتة وفق توازنات القوى الدولية والإقليمية ,فمثلا في فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي انحسرت ادوار القوى الإقليمية وتحددت وفق احتياجات الأقطاب الدولية ضمن هامش ضيق تحدده تلك الأقطاب .
تركيا أتاتورك والتمدد جنوبا :
بالعودة إلى الدولة التركية الحديثة التي ارتسمت حدودها وفق معاهدة لوزان (1923) ،وهي المعاهدة النهائية والختامية للحرب العالمية الأولى ، والتي تم التوقيع عليها من قبل ممثلي تركيا (خليفة الإمبراطورية العثمانية) من جهة ، وممثلي الحلفاء في الحرب العالمية الأولى من جهة أخرى تخلت تركيا عن السيادة على قبرص وليبيا ومصر والسودان والعراق وبلاد الشام، باستثناء مدن كانت تقع في سوريا باستثناء مدن كانت تقع في سوريا مثل أورفا وأضنة وغازي عنتاب وكلس ومرعش أي مدن إقليم كيليكيا التي استولى عليها الأتراك وفق معاهدة أنقرة الأولى عام 1921 ، أما مدن سنجق لواء اسكندرون التي ظلت جزءا من الانتداب الفرنسي لسوريا وفقا لمعاهدة لوزان ، لكنها لم تكتسب استقلالها في عام 1938 كدولة هاتاي ، بينما انضمت في وقت لاحق إلى تركيا بعد استفتاء عام 1939 . سوريا لم تعترف بإضافة مقاطعة هاتاي إلى تركيا واستمرت في إظهار ذلك كجزء من سوريا على الخرائط وحتى عام 2000 .
وفقا لمصادر عدة تؤرخ وتعالج شؤون تلك الفترة وتلك المنطقة [1] استمر الزحف التركي قبل معاهدة لوزان على كيليكيا وبعد معاهدة لوزان على سنجق لواء اسكندرون بالترهيب والترغيب وبالتواطؤ مع الفرنسيين ومع عصبة الأمم المتحدة واللجان المنبثقة عنها، وبالتواطؤ مع بعض النخب السورية ذات الأصول التركية من بقايا الاحتلال العثماني.
في لواء اسكندرون حاول ذكي الارسوزي الشخصية اللوائية الشهيرة القيام بحركة مناهضة لتتريك اللواء في داخل اللواء من خلال حشد كافة القوى المناهضة للأتراك وخارجه في دمشق فكان أن اصطدم بالمصالح القومية التركية في مكتب رئيس الوزراء السوري جميل مردم بك الذي كان من العائلات التركية المؤسسة لما سمي بالكتلة الوطنية التي سيطرت على الوسط السياسي السوري إبان الانتداب الفرنسي وبعده .
هذا الموقف تكرر مع شخصيات وطنية أخرى حاولت لعب دور في منع سلخ اللواء عن سوريا مثل المفكر انطون سعادة ,وذلك ضمن مساعيه ولقاءاته المتكررة مع زعماء الكتلة الوطنية للم الشمل وبناء جبهة تواجه انتزاع لواء اسكندرون من سورية [2].
الشرق الأوسط الكبير والتمدد جنوبا :
كان من مفاعيل الحرب الباردة تجميد الطموحات والمصالح الإقليمية كما في الحالة التركية لان القطبين الدوليين كانا حاضرين بشكل مباشر ,ومع مطلع القرن الحالي وتولي جورج بوش الابن رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية سيطر المحافظون الجدد من خلاله على القرار الأمريكي وأعلنوا لاحقا مشروع الشرق الأوسط الكبير وجرت المحاولة الأولى لتطبيقه بوسائل عسكرية من ضمن ما سمي الحرب على الإرهاب ,وحين فشلت هذه الوسائل وتعاظم انتشار التطرف الإسلامي في سائر الدول الإسلامية وتمدد النفوذ الإيراني لجا الأمريكيون إلى العمل على استغلال الموجة الإسلامية المتصاعدة وهنا جاء الدور التركي ممثلا باردوغان لقيادة تنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير بعدما رفض سلفه اربكان لعب هذا الدور فعادت تركيا إلى التطلع جنوبا تحضيرا للتمدد من ضمن السياسة الدولية التي منحتها هذا الدور[3]
في هذا الإطار أو استشرافا له تم توقيع اتفاق أضنة الأمني عام 1998 بين سورية وتركية الذي شكل نقطة تحول في مسار العلاقة بينهما ،كما تم توقيع عدة اتفاقيات بدأت في 2004 ، عندما وقعت اتفاقية التجارة الحرة التي تسمح بتدفق البضائع في الاتجاهين وإقامة مشاريع مشتركة، إضافة إلى إبرام اتفاقيات عدة وبروتوكولات في 2009، تشمل مجالات الدفاع والأمن والاقتصاد والصحة والزراعة والري والبيئة والكهرباء والنفط والنقل
وفي هذا الإطار احتلت المسلسلات التركية المدبلجة مساحة واسعة من الشاشات العربية كنوع من حملة علاقات عامة تمهد للدور التركي المقبل ,ومن ضمن حملة العلاقات العامة هذه يمكن فهم تنامي شعبية أردوغان بعد حادثة أسطول الحرية قبل وصوله لشواطئ قطاع غزة، وقبلها تأنيب الرئيس التركي لنظيره الإسرائيلي شيمون بيريز في مؤتمر دافوس في كانون الثاني 2009.
تركيا اردوغان والتمدد جنوبا :
أسوة بما حدث قبل مئة عام اعتمد الأتراك مجموعة من الخطوات لاستغلال المناخ الدولي والإقليمي الناشئ من اجل العودة بالحدود التركية إلى الميثاق الوطني الذي أعلنه الأتراك خلال حرب الاستقلال مع الحلفاء 1920 ففي بداية تشرين الأول 2016، طالب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتعديل اتفاقية 24 تموز الموقعة في مدينة لوزان السويسرية في 1923، التي على أثرها تمت تسوية حدود تركيا القائمة حالياً، جاء ذلك بالتزامن مع نشر وسائل إعلام تركية مستندات عن اتفاقية تاريخية موقعة بين تركيا والانتداب البريطاني في العراق عام 1926 تسمى اتفاقية أنقرة الثانية [4] تعطي لتركيا الحق بالتدخل في الموصل لحماية التركمان ، بالإضافة إلى نشر[5] وكالة الأناضول الرسمية تقريرا باللغة التركية نقلته معظم وسائل الإعلام التركية جاء فيه إن الأرشيف الرسمي في تركيا يحتفظ بأكثر من 77 ألف و63 وثيقة تسجيل أملاك أصلية «طابو» تعود لفترة الحكم العثماني في مدينتي الموصل وكركوك العراقيتين وتمتد ما بين عامي 1847-1917 , كما يتضمن 32 دفتراً تحتوي على آلاف الوثائق المشابهة «طابو» تتعلق بمدينة حلب.
وفي 10تشرين الثاني 2017. قال أردوغان[6]، في ذكرى وفاة مؤسس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك : “عندما أتطرق إلى التطورات في سوريا والعراق فأنا أتحدث عن أمر مهم، ألا وهو ضرورة أن نحافظ على حدود ميثاقنا الوطني مجدداً”، مشددا على أن تركيا “لا يمكنها الوقوف موقف المتفرج أمام تعرضها للاعتداءات والهجمات من ضمن حدود ميثاقها الوطني وهي مضطرة لفعل ما يلزم”.
واستطرد قائلا: “هذا ما نفعله من خلال عملية درع الفرات وما نفعله في إدلب وعفرين أيضا، ونحن لا نستطيع البقاء متفرجين على ما يحدث ومجبرين على فعل ما يلزم”.
مع العلم أن حدود الميثاق الوطني لعام 1920 التي يتحدث أردوغان عنها تشمل أجزاء واسعة من العراق، “منها كركوك والموصل وإقليم كردستان العراق، علاوة على نحو ثلث مساحة سوريا الحالية “.
رغم فارق المائة عام بين الرئيسين التركيين اردوغان وأتاتورك الا ان حديث اردوغان المذكور أعلاه يعود الأدراج ليلتقي مع حديث شهير لأتاتورك : ” يجب دائما أن نضع في اعتبارنا أن المناطق المحيطة باسكندرون، انطاكيا، جبل سمعان (يسمى جبل دار العزة اليوم)، قطمة وكلّس هي مأهولة من قبل أتراك وأن ثلاثة أرباع مدينة حلب هم أتراك يتحدثون العربية وهذه قواعد سنستند عليها في كل مطالباتنا القادمة”. [7]
وانسجاما مع هذا الحديث الآنف الذكر والثابت في السياسة التركية عن تعديل اتفاقية لوزان 1923 والعودة إلى حدود الميثاق الوطني التركي 1920 ومع المناخ الدولي والإقليمي المؤاتي أطلق الجيش التركي في 14 آب 2016 عملية “درع الفرات” ضد تنظيم داعش والأكراد على حد سواء في شمال سوريا. وسيطر على جرابلس والراعى والشريط الحدودي بينهما وصولاً إلى مدينة الباب شمال شرقي حلب بمؤازرة الميليشيات المسلحة الموالية للحكومة التركية التي فرضت أبراج الاتصالات التركية والبريد التركي على تلك المناطق ,حيث قامت وزارة التربية التركية، بفرض جلاء مدرسي على المدارس المنتشرة في مناطق سيطرة قوات “درع الفرات” شمال حلب، يحمل العلم التركي من دون أي إشارة إلى اسم سوريا في كتاباته ,كما أطلقت وزارة التربية التركية أسماء ضباط أتراك، قتلوا في معارك عملية “درع الفرات”، على المدارس السورية وفرضت اللغة التركية كمادة أساسية في عملية التدريس، كما عمدت إلى تعيين المدرسين بحسب ولاءاتهم لتركيا وفي ذات السياق عمدت على تقديم المنح الدراسية لاستكمال الدراسة الجامعية داخل تركيا على نفقتها بحسب الولاءات أيضاً.
فى آذار 2018 أطلقت تركيا عملية عسكرية استمرت شهرين وتم فتح باب التجنيد أمام اللاجئين السوريين للمشاركة في هذه العملية ، أطلق عليها اسم “غصن الزيتون” كانت تستهدف طرد عناصر وحدات حماية الشعب الكردية من مدينة عفرين فأصبحت المنطقة الممتدة من جرابلس في أقصى ريف حلب الشمالي الشرقي مرورا بمدينة إعزاز شمال حلب وصولا إلى منطقة عفرين تخضع للغة وللمؤسسات وللعملة التركية حيث تؤمن الشركات التركية خدمات الهاتف الجوال والكهرباء في جرابلس وفي إعزاز وتنتشر صورة الرئيس التركي في مشفى جرابلس وفي مبنى المجلس المحلي في إعزاز بالإضافة إلى العلم التركي وحيث تم اعتماد مناهج جديدة للغة التركية بديلا عن اللغة الفرنسية كلغة أجنبية ثانية بالإضافة إلى الانكليزية .
الخطوات التركية لتغيير النظام التربوي والقضائي والديمغرافي تتالى حيث أشرفت ولاية كليس التركية في 12/ 2018 ،على افتتاح تسعة مدارس بمنطقة إعزاز شمالي سوريا، بالتعاون بين إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد)، وجمعية “بيت السلام” الباكستانية ,كما أصدرت محكمة جزائية في مدينة الباب في 14اب 2018 قرار حكم على احد المواطنين السوريين مدة 6 أشهر مع غرامة مالية قيمتها 5000 ليرة تركية بتهمة تحقير رئيس الأمة الإسلامية والتركية العظيم رجب طيّب اردوغان.
وربما الحدث الأخطر في كل هذا المسار هو إعلان اردوغان في نهاية حزيران/2016[8] عن عملية تجنيس للاجئين السوريين ستشمل 300 ألف لاجئ من أصحاب الثروات والكفاءات، بالإضافة إلى قيادات وعناصر المعارضة السورية المسلحة التي تدعمها أنقرة بشرط أن يكونوا من المسلمين السنة[9] ,وفي الوقت الذي تم فيه الإعلان من قبل بعض أعضاء مجلس الشعب السوري عن طرح مذكرة لدى المجلس لمواجهة قرار التجنيس التركي ودرء مخاطره فان أي قانون جدي في هذا الصدد لم يتم طرحه بل ظهرت تبريرات من قبل أعضاء آخرين في مجلس الشعب لتمييع التعامل مع مخاطر قرار التجنيس التركي[10] في إشارة أخرى إلى أن جميل مردم بك لم يمت بعد.
مخاطر عملية التجنيس هذه تصبح أكثر وضوحا إذا ما تم استحضار عمليات التجنيس التي اتبعتها إيران اتجاه عشرات آلاف العراقيين الذين تم طردهم من العراق خلال حكم البعث العراقي وكانت البداية عام 1970 عندما قرر نظام حزب البعث العراقي تهجير عدد كبير من العوائل العراقية بحجة أصولهم الإيرانية، وبعد عقد من الزمن، أي بعد عشر سنوات تماماً، تكرر المشهد عندما أصدر ما يسمى بـ “مجلس قيادة الثورة” قراره رقم (888) القاضي بتجميد الجنسية العراقية من شريحة اجتماعية واسعة بنفس الحجة، وزاد عليها حجة معارضة النظام في شهر تموز عام 1979.
هذا التغيير الديمغرافي انعكس في العام [11]2003 عندما احتل الأمريكيون العراق واسقطوا النظام والدولة العراقيين واسقطوا العراق في الفوضى الشاملة حيث زج الإيرانيون بهؤلاء المجنسين -الذين اخضعوا لتدريب وتنظيم جيد- في خضم هذه الفوضى فأصبحوا إحدى الأعصاب المؤسسة للسلطة العراقية الجديدة وللنفوذ الإيراني في العراق وفي العام 2014 أعادت بعض كوادر هؤلاء المجنسين إنتاج وقيادة الحشد الشعبي الذي كان له دور بارز في التصدي لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق وإعادة إنتاج النفوذ الإيراني في العراق وتنظيمه .
بين لواء اسكندرون وادلب مئة عام من الرقص على الحبال :
على ضوء تطوّر الصراع الدولي بين ألمانيا وجيرانها الروس والأوروبيين ظهر تحالف الماني عثماني خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتصاعد هذا التحالف في فترة حكم السلطان عبد الحميد الثاني (الخليفة الاخير ) وأثمر خلال الحرب العالمية الأولى في مواجهة الحلفاء الفرنسيين والبريطانيين حيث هزِمت المانيا واجتاحت قوات الحلفاء الأراضي المتبقية بحوزة الأتراك في الجزيرة العربية وسورية والعراق وشرق أوروبا, وصولا إلى جنوب وغرب تركيا الحالية, فكان أن أطلق الأتراك حرب الاستقلال التركية ( 1919-1922 ) التي أجبرت القوات الأوروبية على الخروج من كيليكيا ومن غرب تركيا الحالية واستبدلت معاهدة سيفر بمعاهدة لوزان في العام 1923 وكانت المقاومة الوطنية التركية التي قادها اتاتورك تحظى بالدعم السوفياتي[12] في مواجهة الخطر الغربي المشترك .
بالتزامن مع تخييم أجواء الحرب العالمية الثانية على العالم قايض الأتراك تحالفهم المفترض مع الألمان بحصولهم على دعم فرنسي فيما يخص مطالباتهم بلواء اسكندرون فيما يشبه إدخالا لتركيا بشكل غير مباشر في ترتيبات معاهدة سايكس_ بيكو_ سازانوف بديلا عن الطرف الروسي الذي خرج من المعاهدة تلقائيا مع قيام الثورة الشيوعية في روسيا , وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ودخول العالم في مرحلة الحرب الباردة قايض الأتراك تحالفهم المفترض مع السوفيات داعمي حرب الاستقلال التركية واختاروا الرهان على الحصان الأمريكي الصاعد بقوة, وأصبحوا عضوا في حلف الناتو العام 1952 وجناحا جنوبيا شرقيا لهذا الحلف, ومع انطلاق الحرب السورية عاد الأتراك إلى الرقص على الحبال وترتيب أولوياتهم فدخلوا في تفاهمات مع الروس والإيرانيين لإدارة الأزمة السورية, ثم ظهر أن هذه التفاهمات تتعدى إدارة المسالة السورية لتمس موقع تركيا في السياسة الدولية, حيث وضعت أنقرة نصب أعينها مهمة تنفيذ العديد من المشاريع الكبرى وإبرام عقود ضخمة، فبحلول العام 2023، ينتظر تشغيل أول محطة للطاقة النووية على الأراضي التركية التي تقوم “روس آتوم” ببنائها، وتوسيع خط أنابيب غاز السيل التركي، ليشمل أوروبا، واستكمال صفقة إس 400، وتوقيع صفقة إس 500 جديدة[13]. وهي في مجملها خطوات تحد من الاعتماد الاقتصادي والتكنولوجي والعسكري والسياسي على الغرب. فيما يشبه انعطافة الرئيس المصري جمال عبد الناصر حين أعلن في 27 أيلول 1955 عن صفقة الأسلحة التشيكية لمصر، وهي أسلحة سوفياتية الصنع جرى تمريرها عبر تشيكوسلوفاكية من الكرملين للرئيس المصري جمال عبد الناصر، وعنت فيما عنت بدء الطلاق بين الزعيم المصري والغرب الأوروبي ثم الأميركي (مع واشنطن بدءاً من عام 1964) وهو طلاق بدأت تظهر ملامحه في العلاقة التركية الأمريكية, خاصة أن صفقة أس 400 تتضارب مع الشراكة التركية الأمريكية لإنتاج مقاتلات جديدة من طائرة أف 35 لكن في المقابل يؤمن التذبذب بين الروس والامريكيين لتركيا الغطاء الإقليمي اللازم لشرعنة الأحلام والزحف التركي الممنهج في ادلب وفي شمال حلب وهي تجربة تعيد إلى الأذهان في حيثياتها وتقاطعاتها الزحف التركي في لواء اسكندرون وصولا الى ضمه .
استنتاج :
السياسات التركية تسير على هذا المنوال من حيث النفس الطويل والتدرج والتجزئة إلى خطوات منفصلة تتجمع في سياق متكامل لتحقيق أهداف بعيدة المدى ,وهي ذات السياسات التي اتبعت عند ضم كيليكيا ولواء اسكندرون من حيث التدرج ,إذ بدا الأتراك بعمليات التغيير الديمغرافي والمطالبة بالحكم الذاتي ومن ثم الدعوة إلى استفتاء والتلاعب بنتائج هذا الاستفتاء بالتواطؤ مع الراعي الدولي وابتزازه من خلال اللعب على حبال الصراعات الدولية ,ويمكن القول أن الأتراك اكتسبوا خبرات في ممارسة اللعب على المتغيرات الدولية فكما فكما استفادوا من دعم السوفيات في حرب التحرر الوطني التي خاضوها ضد الحلفاء في عشرينيات القرن الماضي عادوا ,وابتزوا الحلفاء قبل الحرب العالمية الثانية بالتهديد بالانضمام لدول المحور بين الحربين العالميتين كذلك هم يتراقصون اليوم على حبال التجاذبات الروسية الأمريكية .
إن السياسات التركية في التمدد جنوبا ثابتة سواء كانت تركيا علمانية يحكمها أتاتورك وخلفاؤه أو اخوانية يحكمها اردوغان وحزبه ,وهذه السياسات في مجملها ليس خطوات منفصلة أو تخبطا في الظلام وبمراجعة بسيطة للسياسة التركية البارعة في قضم الجغرافية والديمغرافية منذ مئة عام وفق ما جرى في كيليكيا ولواء اسكندرون يمكن إدراك السعي المحموم لترسيخ الوجود التركي في المدن السورية على المدى الطويل ,سواء انضمت المدن السورية إلى تركيا أم لا .
[1] حسان القالش , قطار العلويين السريع – الفصل الثالث , ويمكن العودة ايضا الى عبد الرحمن الكيالي , المراحل في الانتداب الفرنسي وفي نضالنا الوطني-الجزء الرابع .
[2] يرد في الاثار الكاملة ,الجزء السادس ,ص 66-67 ,انطون سعادة : “اجتمعت بنفسي برئيس الوزارة الشامية السيد جميل مردم ،ولم أكن أعلق أي أملٍ على الجانب الفرنسي ،ولكن الوزارة الكتلوية كانت في موقفها عوناً للسياسة الفرنسية ضد المصلحة القومية ,فقد قال لي رئيس الوزارة الشامية صراحة أن معاليه “لا يعد نزع لواء اسكندرون عن جسم الوطن خسارة لسورية بل يعده خسارة لتركية “”.
[3] http://gate.ahram.org.eg/News/2059806.aspx بوابة الاهرام 1 تموز 2019
[4] اتفاقية انقرة الأولى جرى التوقيع عليها 1921 بين الأتراك والفرنسيين بعد مناوشات واشتباكات بين الطرفين وحصلت تركيا بموجبها على إقليم كيليكيا السوري الذي يضم مدن كلس ومرعش واورفا وغازي عنتاب وما يسمى بالجزيرة العليا وكانت بدايات التوسع التركي جنوبا بعد توقيع معاهدة سيفر 1918 وهو توسع استمر ليشمل سنجق لواء اسكندرون 1939 ويستمر حاليا من خلال سياسات متعددة يناقشها المقال
[5] القدس العربي 5/10/2017
[6] أنقرة-سبوتنيك 10/11/2017
[7] مجلة الوثائق التاريخية العسكرية، العدد 27، رقم 695، الصفحة 921، عام 1959
[9] صحيفة «العقد» الموالية للرئاسة التركية رأت ، أن “تجنيس السوريين مخطط ذكي ،لأن أنقرة ستكون بحاجة لهؤلاء عندما تقوم بضم حلب وشمالها إلى تركيا ، في حال تقسيم سوريا” ,أما صحيفة «خبر تورك» نشرت في 7تموز2016 تقريرا مفصلا عن التجنيس واضافت “انه ستتم الاستفادة منهم مستقبلاً لأغراض استخبارية”.
[10] https://www.turkpress.co/node/41456 1 تموز 2019
[11] الجماعات شبه العسكرية تحدي لإعادة بناء دولة فعالة 30/7/2018 مجموعة الأزمات الدولية
[12] د .حنا العزو بهنان , العلاقات التركية – السوفياتية 1925- 1935 , ويمكن كذلك العودة إلى : الشرق ضد الغرب.. جذور التحالف بين الروس والأتراك ضد الأوروبيين , موقع ميدان الجزيرة https://midan.aljazeera.net/intellect/history/2018/10/8/%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%AF%D8%B9%D9%85%D8%AA-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%85%D9%8A%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%83-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%8A%D9%88%D8%B9%D9%8A%D9%8A%D9%86 .