“كتائب دافيد’ تهاجم “دولة بن جوريون”
Share
أحمد أشقر
استراتيجية (بن جوريون)
صادق الكنيست الإسرائيلية في التاسع والعشرين من شهر كانون الأول لسنة 2022، على الحكومة السابعة والثلاثين في تاريخ الكيان. وبات واضحاً أن مسار هذه الحكومة، يعدُّ خليطاً من اليهودية المتطرفة، الفاشية السياسية والاجتماعية والنازيّة (الفاشنازية دون تحفظ). وفيها يبرز دور أساسيّ للأحزاب الصهيونية الدينية واليهود الـ(حريديم)، الذين تصهينوا وباتوا ينافسون بقية الأحزاب اليهودية الأخرى على عدائهم وعدوانيتهم تجاه العرب، ويتصدرون المشهد السياسي في الكيان. الأمر الذي فوجئ به حشد كبير من السياسيين الذين يختلفون معهم، وحتى الصحفيين والنخب الإعلامية المختلفة. وكأن هذه الأحزاب والقوى انقلبت على الحكم بين ليلة وضحاها، و”سرقت” منهم دولتهم ومستقبلها في عزّ الظهر.
إن تحليل صعود الـ(حريديم( والقوى الدينية الصهيونية إلى سدّة السلطة والحكم، يختلف كثيراً عمّا تنشره وسائل الإعلام المختلفة، تحديداً صحيفة (هآرتس)، وكيلة الفكر الليبرالي في السياسة والاقتصاد والأدب والأخلاق، التي يحلو للإعلام والإعلاميين العرب الاقتباس عنها والاعتماد عليها لفهم ما يدور في الكيان. بكلمات أخرى: يعيش الإعلام العربي على هوامشها لدرجة أن بعضهم قبل بالكوتا “الساحة”، التي خصصتها على موقعها لهم فقط.
في مقال بعنوان (كتائب الحروب الديموغرافية، من سنة 2010) كتبتُ عن بداية العلاقة الخاصة بين الكيان الوليد بقيادة (دافيد بن جوريون)، قلت: كان بإمكان (بن جوريون) الذي فاز حزبه (المعراخ/ العمل) بـ46 عضواً في انتخابات الكنيست الأولى سنة 1949، تشكيل حكومة مع شريكه الطبيعي (المبام) الذي فاز بـ19 عضواً، والقوائم العربيّة وبعض القوائم الصغرى التي فازت بعدة مقاعد، إلا أنه لم يقم بذلك، بل فضل التحالف مع المتدينين الوطنيين (المفدال) وقوائم الحريديم لسببين اثنين:
“الأول: يعدّ بن جوريون أكثر الزعماء الصهاينة «العلمانيين» وعياً وإدراكاً، لأهمية الدين في المشروع الصهيوني والحياة الاجتماعية في الكيان الوليد، كي يعطي «شرعية دينية تاريخية» للكيان، ويبني وحدة المجتمع الوليد على القيم الدينية، التي لا يختلف على جوهرها المتدينون ولا العلمانيون بكلّ ما يتعلق بمشروعهم الاستعماري في فلسطين. لذا أراد تثبيت هذه القيم من خلال التحالف مع الأحزاب الدينية.
والثاني: كان يدرك أيضاً الأهمية الديموغرافية في الصراع، والتي أطلق عليها أهمّ تلامذته، شمعون بيرس: المشكلة الديموغرافية. وبما أنّ المتدينين يتكاثرون بأعلى المعدلات، ليس في الكيان، بل في العالم كلّه، لأنّ الشريعة اليهودية تأمرهم بذلك وتحظر عليهم تحديد النسل، أرادهم منتجين للشرعية الدينية– التاريخية للكيان وجنوداً فيه أو كتائب ضدّ العرب.” هذا بالفعل ما أراده (بن جوريون) وما حققه على أرض الواقع.
أربعة عناصر لتمكين الـ(حريديم)
دفعت استراتيجية (بن جوريون) تجاه الـ(حريديم) والمتدينين، إلى تطويرهم مبنى اجتماعياً مكوّنا من أربعة عناصر:
الأول- الخصوصيّة والأوتونوميا: شكل إعفاء الـ(حريديم) وغالبيّة المتدينين، تحديداً الفتيات من الخدمة العسكرية، ومنح مدارسهم الدينيّة خصوصيّة واستقلالية، إقامة أقسام خاصة لبعض الطوائف والفرق في جهاز التعليم الرسمي. أدى هذا الوضع إلى استثنائهم من “فرن الصهر” الذي كان جهاز التعليم الرسمي العام والجيش أبرز محرّكيه، لتحويل طوائف المستعمرين اليهود إلى “إسرائيليين”، الأمر الذي أبعدهم عن الاختلاط مع بقية أترابهم من بقيّة مجاميع الطوائف اليهوديّة. ومع مرور الوقت تمكنوا من بناء “أسوار القداسة” في حياتهم، مكونة من عنصرين، الأول ثقافي ديني لمجاميع الطوائف كي تعيش واحدة وفقاً لفتاوى فقهائها، والثاني ديموغرافي حيث تمكنوا من بناء أحياء ومستعمرات أوتونوميّة بعيدة عن بقية الأحياء، مثل (مِئه شعريم).. و(سانز) في القدس، والمستعمرات، مثل (بِني براك).. و(موديعين). والقوائم طويلة جداً. وبناءً على ما تقدم، صرّح السياسي والوزير السابق، (يوسي بيلين)، قبل عقدين ونصف من الزمن بضرورة منحهم “الأوتونوميا”، وقد علقتُ عليها وعلى الأتونوميا التي طرحها عزمي بشارة بالقول: إنها أوتونوميا التخلف (…)
الثاني- قيادة رجال الدين: استعارت سلطة الكيان مبدأ سلطة الـ”ميليت باشي” العثماني لإدارة شؤون الـ(حريديم)، أي أنها لا تختار أو تقبل أية شخصيّة دينية من كل جماعة من هذه الجماعات تكون مقبولة عليها وعليهن يكون مسؤولاً عن طائفته أمام السلطة المركزية (بالمناسبة: منح الباب العالي العثماني حقّ الإعدام للـ”ميليت باشي” اليهودي في بعض مناطق أوروبا الشرقية التي حكمها العثمانيون). وبسبب هذه العلاقة الخاصة بين السلطة المركزية وقيادات جماعات المتدينين الذين نشأوا في أحياء الفقر والبؤس ومدارس دينية ينعدم فيها التعليم الرسمي تقريباً، وشبقهم للسلطة، اقترف عديد منهم جنايات كبيرة أدين البعض منهم بالسجن مثل الوزراء (أهرون أبو حصيرة)، (آرييه درعي) و(شلمو بنزري).. وغيرهم من أعضاء (كنيست) وموظفين كبار.
الثالث- الانقياد والطاعة: بسبب تعقيد الحياة اليهودية، تمكن هؤلاء القادة من (ربانيم) وفقهاء مختلفين، من تشكيل مجتمعات لا يمكنها كجماعة أو فرد من القيام بطقوسها الدينية دون أن تستشير (راباي) وهو بمثابة “معلم روحي”، الأمر الذي أدى إلى إنتاج مؤسسات دينية ورجال دين فاسدين في المستويين المالي والأخلاقي. ولا يمرّ شهر تقريباً دون أن تكشف الصحف عن رجل دين فاسد أو متحرش جنسيّا، وليس فقط (موشِه إيش زهاف) رئيس جمعية “زاكا” لإسعاف الناس المتضررين من حوادث الطرق.. والحرائق الذي انتحر في محبسه أثناء اعتقاله. وقبل أيام تم إطلاق سراح المتحرش، الـ(رباي عزرا شانبرج)، وقبلها بسنوات تم إطلاق سراح الـ(الراباي التسعيني، إليعيز بيرلاند) من السجن لأنه اتضح أنه مصاب بالسرطان. كذلك لم تهدأ بعد عاصفة قضية التحرش الجنسي التي كشفت عنها خمس نسوة متدينات بحقّ الـ(راباي هانس طاو) البالغ من العمر 85 عاماً والقائمة طويلة جداً.
الرابع- مجاميع صغيرة السن وفقيرة: لا تزال طوائف الـ(حريديم) تطبّق فريضة التكاثر كما أوصاها (التناخ). لذا تُنجب المرأة منهم في المعدل العام سبعة أنفار في حياتها، أي ضعف العائلة “العلمانية”. الأمر الذي أنتج مجاميع صغيرة السن، إذ يشكل عدد الأفراد دون سن الـ20، 60% من عدد أفرادها. وبناء على ما تقدم في هذا العنصر وبقية العناصر التي سبقته (فصلهم عن بقية المجاميع “العلمانيّة”، التعليم الرسمي وسوق العمل) فقد تشكلت مجاميع (حريدية) ويهودية متدينة ومتشددة في أحياء أو مدن الفقر ستلعب (لأسباب سنشرحها فيما بعد) أدواراً في السياسة الداخلية وتعزيز الاستيطان في فلسطين مكنتهم من التحوّل إلى لاعبين مركزيين في هذه السياسات.
“يتبع”