LOADING

Type to search

قليل من التواضع… رجاءً

شؤون حزبية موضوع العدد

قليل من التواضع… رجاءً

أحمد أصفهاني
Share

“إني لا أرغب في محو التنوع الفكري من تراثنا، بل أرغب في المحافظة عليه وتنميته لأني أرى أنه لازم لفلاحنا”. (1)

عدتُ إلى عبارة سعاده هذه بينما كنت أتابع المناقشات والمناوشات الدائرة بين بعض القوميين الاجتماعيين على وسائل التواصل الاجتماعي، حول احتفالية “المواكبة” التي أقيمت ليلة الثامن من تموز ذكرى استشهاد سعاده. وقد توقفت طويلاً وبانزعاج شديد عند مقال “هرهروها بالهزائم… وبهدلوها بالموبقات” للرفيق زيد قطريب، ونشرته “الفينيق” قبل أيام، وقد تجاوز فيه حدود النقاش وأدبيات الحوار القومي الاجتماعي، ربما من حيث لم يقصد. ولست هنا في معرض الرد الشخصي على عبارات شعرتُ بأنها مهينة، بل أريد التركيز على أسلوب تعاملنا الراقي مع نقاط قد تكون مثار خلاف أو أنها تحتمل أكثر من رأي.

ولعل مسألة انحراف فخري معلوف باتجاه التعصب الديني، وكيفية تعامل سعاده معه، تنيران لنا معالم الطريق عندما يواجه القوميون الاجتماعيون مستجدات ومعضلات لا يوجد إجماع قومي حولها، أو لا يملكون نصاً مرجعياً يمكن أن يساعدهم في التوضيح، وبالتالي التوصل إلى صيغة توافقية مقبولة. حاول سعاده معالجة وضع معلوف على مدى أشهر. ونجد في رسائله إلى غسان تويني تفاصيل مذهلة عن الجهد الذي بذله كي لا يخسر الحزب أحد أبرز مفكريه آنذاك. ويكفي أن نقدم مثالاً واحداً من فقرة واحدة حتى يتكشف لنا حرص سعاده وسعة صدره في تلك المواقف. يقول في رسالة إلى تويني بشأن معلوف (2): “أجبته على كتابه… أبديت له فيها سروري… وتطرقت إلى الإيمان… وأتيت بلمحة… وأوضحت الفرق… وذكّرته بالحدود… وبيّنت له أغلاطه… وشرحت له عدم…” إلخ. كلام إيجابي كلياً! ولكن عندما فشلت المساعي، أعلن سعاده النتيجة التالية: “ولست أرجو منه في الوقت الحاضر أي خير”.(3)

أعود الآن إلى نقاشات “المواكبة”، وهي على ما يبدو نقطة خلافية. بعضهم يراها خطأ لأنها بدعة، وبعضهم الآخر يعتبرها صواباً لأنها تقليد مُستجد. وفي هذه الحالة، من الطبيعي أن تكون موضوع حوار وبحث بين الطرفين. ولكي يُصبح الحوار مفيداً وناجحاً، يجب أن ينطلق من قاعدة أساسية لا غنى عنها، ويُسلم بها الطرفان: الثقة بين الجانبين. الثقة بأن حاملي الرأي الخطأ وحاملي الرأي الصواب يؤمنون بالعقيدة القومية الاجتماعية، ويعملون لمصلحة الأمة والحزب، وأن كل واحد منهم أهلٌ بالثقة ولا يعمل إلا بالثقة. أما إذا نظرنا إلى الآخر بعين الشك والريبة، فإن النتيجة الحتمية ستقودنا إلى الشقاق الذي سيفتح بدوره أبواب شيطنة الآخر وتكفيره تمهيداً لإفنائه!

وهذا بالضبط مصدر انزعاجي وإدانتي لمقال الرفيق قطريب. إليكم العبارات التي وردت في النص: “الكرادلة والمشنشلون بالأوسمة المستحدثة… معتمرو العمامات النهضوية… جثة الحزب تزكم رائحتها الأنوف… المتواطئون… الزحفطونيين… المكرسحين… المرفوسين…”. هذا الكلام لا يؤسس لحوار قد يُفضي إلى توافق، بل هو أوصاف ونعوت وإدانات وأحكام مبرمة ستنقل التباين في الأفكار من حيز التفاعل الخلاق إلى سراديب الإهانات الشخصية. إن الذي أطلق هذه العبارات وقع في مطب التعميم الذي هو نقيض التعيين، فراح يصوب على الآخرين من دون تحديد. لقد اعتبر أن بوصلته الفكرية هي الفيصل في حسم “الخلاف”، وكل من يحيد عنها يسقط من الملكوت كما يراه هو!

يبدأ الرفيق قطريب مقاله بعبارة “يحتفل القوميون كل عام في ذكرى اغتيال الحركة”. إنها عبارة عامة تشمل “القوميين”، وأنا أحدهم. ولذلك سيكون من حقي أن أطرح على رفيقنا (وعلى غيره من الرفقاء المماثلين) أسئلة كاشفة: هل تعرف جميع القوميين في أنحاء العالم… فتعمد إلى التعميم؟ ما هي مبرراتك وأدلتك للحديث عن موت الحركة؟ على ماذا تستند في توزيع انتقاداتك على الآخرين؟ مَنْ منحك وكالة عامة في استعمال الألفاظ الساخرة والمهينة بحق أناس لا تعرفهم؟ وعلى أية إنجازات وخبرات وتجارب ذاتية تستند لتصوّب سهام إهاناتك نحو الجميع؟

في رسائل سعاده إلى تويني ومعلوف ترد عبارة “تفكيرنا المجموعي”، أي أن غاية الحوار بلوغ العقل الجمعي الذي يوحد الرؤى ويعزز وحدة الروح بين القوميين الاجتماعيين. أما الطرف الذي يرى نفسه على حق بالمطلق فهو الطرف الذي يسعى إلى إلغاء الآخر. لكن من أين حصل على وكالة حصرية للحقيقة، ومن نصبّه حكماً وحاكماً وجلاداً في آن معاً؟ من حق كل قومي اجتماعي أن يحمل أفكاراً متنوعة، ومن حقه بالتالي أن يعرضها ويناقش بشأنها. غير أنها تبقى أفكاراً ذاتية لا تصلح مقياساً للحكم على أفكار أخرى مختلفة. أما الذي يبيح لنفسه إطلاق النعوت والأحكام في كل الاتجاهات، فهو يرتكب خطيئة نحو رفقائه ونحو حزبه.

وعند هذه النقطة أتوقع احتجاجاً من أشخاص يقولون بتهكم وسخرية: “… وأي حزب تقصد؟”

هذا سؤال يتسلى بطرحه عدد متزايد من “الرفقاء”، لكنه في الواقع يخفي الكثير! فالحزب المقصود ليس فقط الوحدات الحزبية والإدارات التنظيمية التي نعرفها جميعاً، وإنما هو حالة نهضوية ذاتية تتطلب الالتزام بقيمها والعمل على نشرها في متحداتنا، بغض النظر عن الواقع المرير للأجهزة الإدارية. ونحن لا نجهل أو نتجاهل الركام الذي طمس جوهر العقيدة القومية وشوّه شخصيتنا المناقبية. إلا أن ذلك لا يمنح أحداً منا مجالاً مشرّعاً لإهانة الآخرين أو السخرية منهم والانتقاص من قدراتهم.

يقول سعاده في مقال بعنوان “المعركة السياسية التاريخية الأولى” نشره في “الزوبعة” بتاريخ 15 آذار 1944: “الحزب من حيث هو مجموع أفراد تتنوع مزاياهم ومواهبهم، لا يمكن تحديد تفكير كل فرد من أعضائه بطريقة تفكير زعيمه في جميع المسائل والقضايا الجزئية أو التفصيلية، أي أنه لا يمكن جعل تفكير كل فرد من أفراده نسخة طبق الأصل عن تفكير زعيمه. الحزب يجمع عناصر متنوعة ولا يمكن القضاء على هذا التنوع ولا يجوز قتله”.(4)

إذا كان سعاده يرفض بحزم أن يُقتل التنوع بين القوميين الاجتماعيين، ولا يقبل “تحديد تفكير” الأعضاء بتفكير الزعيم… فكيف يُجيز رفيق ما لنفسه ـ مهما كانت قدراته ـ أن يُقيّم القوميين ويحاسبهم ويدينهم؟ وتصل به الجرأة لاستباحة سمعة الرفقاء وتشويهها على وسائل التواصل المنفلتة!

على كل واحد منا أن يعرف حدّه ويقف عنده. المطلوب الآن القليل من التواضع والكثير من الاعتذار.

هوامش:

1 ـ رسالة إلى فخري معلوف، من كتاب جان داية “أنطون سعاده وحرية المعتقد”. صفحة 26.

2 ـ رسالة إلى غسان تويني بتاريخ 21 شباط 1946. “الأعمال الكاملة ـ الجزء 11”. صفحة 25.

3 ـ رسالة إلى نعمة ثابت بتاريخ 19 شباط 1946. “الأعمال الكاملة ـ الجزء 11”. صفحة 5.

4 ـ “الأعمال الكاملة ـ االجزء 7”. صفحة 19.

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
LinkedIn
Instagram0

3 Comments

  1. Avatar
    Simon Ibrahim 13 يوليو، 2022

    كما نقول بالعامية “يسلم تمك” امين احمد. وازيد: يسلم قلمك.
    سيمون ابراهيم

    رد

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.