LOADING

Type to search

عن الضحك ووهن نفسية الأمة

رأي موضوع العدد

عن الضحك ووهن نفسية الأمة

بديع صنيج
Share

منذ زمن طويل، وما زال أصحاب السلطة يضحكون على لِحى الشعب المسكين، لا بل إنهم يُقهقهون في كثير من الأحيان، بينما يقف ذاك الشعب عاجزاً، مُستكيناً، إلا في بعض فئاته التي أوجدت سلاحاً فتَّاكاً في وجه جبروت السلطات والسلاطين، سلاحٌ قادرٌ على أن يُحوِّل، مَن يُحسِن استخدامه، من مفعول به إلى فاعل، أي أن ذاك السلاح له إمكانية جعلِ الضَّاحِك مضحوكاً منه، والقادِر مقدوراً عليه. والفريد فيه أنه قد يُهتِّك السُّلطة، ويجعلها “سَلَطة”، وكي لا أطيل عليكم سأحدِّثكم عن تاريخية نشوء ذاك السلاح، وماهيته، وكيفية استخدامه، وأبرز ساحات المعارك التي قلب فيها الموازين.

منذ القرن الثالث قبل الميلاد، جاء على لوح بردي مصري، بأن الرَّبَّ بسلطانه العالي، لم يتفوّه بالكلمة أولاً، ولم يلفظ أي لفظة محددة، بل إن العبارات والجُمَل أتت من الخالق بعد زمن متأخر جدًا، فهو لمواجهة الفوضى في بدايات تشكيل الكون، أطلق عالمًا من البهجة والسرور وذلك كالتالي: “عندما ضحك الرب، ولد سبعة آلهة كي يحكموا العالم. وعندما انفجر ضاحكًا كان الضياء. وعندما انفجر ضاحكًا ثانية تفجرت المياه، وعند سابع ضحكة وُلِدَت الروح”، ويُرجِّح الدارسون أن سُلْطة الضَّحك انتقلت من الخالق إلى المخلوقات، ولذلك بات كل من يمتلك سُلطانًا أو سطوة ما، سواءً أكان ملكًا، أو شيخ قبيلة، أو على رأسه عمامة، أو يرتدي قفطانًا،… يُطلِق ضحكاته على من يسود عليهم، فيرضخون، لكنه عندما يُصبح مُتجبِّرًا، فإن هناك فئات لا ترضى بالضَّيم، تتمرَّد وتردُّ عليه ضحكاته كسلاح من جنس السلطة ذاتها.

يقول “مارك توين” في كتابه “رسائل من كوكب الأرض” تأكيدًا على هذه الفكرة: “إن جنسكم، في فقره، لديه سلاح مؤثر واحد لا جدال فيه، وهو الضحك. أما السلطة والمال والاضطهاد، كل هذه يمكن أن تُشكِّل كمية ضخمة من الهُراء لا أكثر. لا شيء يقف أمام بطش الضحك”. ومن الذين انتبهوا مبكرًا إلى أثر الضحك في خلخلة النظام السياسي الفيلسوف اليوناني “أفلاطون”، إذ اعتبره خصمًا عنيدًا للسلطة، قائلاً: “إن ضحكة واحدة بإمكانها أن تمنح كل مواطن، مهما كانت منزلته، قوة أولية يمكنها تفكيك الأشياء”، وفي مكان آخر أوضح أن “الضحك الساخر، يلعب دور المحكمة القانونية”، ولذلك حذر من قدراته وأثره على هيبة الدولة وكفاءتها.

لذا منذ أقدم العصور نُلاحظ تضييق السلطات السياسية على الضحك، ومن ذلك ما فعلته الكنيسة الصاعدة في العصور الوسطى، إذ بنت جدران سجنها حول ذاك الفعل الإنساني المرذول على قاعدة الآية الرابعة الإصحاح السابع 7 من سفر الجامعة “قلب الحكيم في بيت النواح، أما قلب الأحمق ففي بيت الفرح”، بمعنى أنها ربطت الفرح بالحماقة، تمهيدًا ليصبح الضحك معصية لا تدانيها معصية أخرى، واستكمالاً لهذه الرؤية ربط القديس فيكتور بين الضحك والشر.

وهناك الكثير من الأمثلة التي جعلت من الضحك جريمةً يُعاقب عليها القانون، فكما تثبت لنا رواية “المزحة” لميلان كونديرا التي نُشِرت عام 1968، أنه في نظام البيرسترويكا تم تصنيف النكتة على أنها جريمة كبرى، إذ يقول صاحب “حفلة التفاهة”: “إن الضحك ممكن أن يودي بنا إلى العقاب أو الهلاك، ولا أحد يحب أن يموت من الضحك”، ما يؤكد بجلاء، وبصورة لا يدانيها الشّك، أن الضحك الإنساني لن ينال الحرية المطلقة، خاصةً أنه يُعتبر من أشهر أشكال التَّمرُّد الصريح على السلطات، ونفوذ هذا الفعل النضالي كما يصفه البعض، يتأتى كما جاء في كتاب “الحوارات المتخيلة” لـ”ميخائيل باختين” من أن “الضحك يُدمِّر الخوف والقنوت إزاء أي موضوعة، ويجعلها قابلة للنقاش والتداول، ويفسح المجال للتحقق منها. إن الضحك عامل فعال في رفع حواجز الخوف، والذي من دونه يستحيل الوصول إلى العالم بواقعية”، بمعنى أنه لا إمكانية للتواصل بعمق مع العالم من دون إمكانية المساءلة الحرة التي يمنحها الضحك، وهو ما يضع الضحك والحقيقة كصِنوين متلازمين، ما يُذكِّرنا بوصية “فريديريك نيتشه” في كتابه “هكذا تكلم زارداشت” التي تقول “علينا أن نعتبر كل حقيقة كاذبة، إن لم تحتو على عنصر الفكاهة”.

من هنا تتعمد السلطات بأنواعها فرض الحظر على الضحك، وبث الذعر منه، فها هو البابا غريغوري الكبير في كتابه الذي يحمل عنوان “العناية الرعوية” يقول: “الضحك الآن، يجلب البكاء فيما بعد، والقدر ليس لعبة، لذا على الإنسان أن يكون مستعدًا لدفع الثمن، لأن الرب هو صاحب الضحكة الأخيرة”.

هكذا لاحظنا أن الرب هو صاحب الضحكة الأولى والأخيرة، وكل ما بينهما، ليس سوى ضحكٌ علينا، لذلك سعى الأديب “ميلان كونديرا” إلى خلخلة هذه الأصول الإلهية للضحك، فجعله فعلة من أفعال الشيطان، معيدًا ربط الضحك بالتمرد في كتابه “الضحك والنسيان” لأنه يحفز التفكير النقدي، والسخرية من لا معنى الأشياء، يقول: “الضحك مبدئيًا منطقة تعود للشيطان، وفي المرة الأولى التي سمع فيها أحد الملائكة ضحك الشيطان شعر بالرعب، فبينما كانت أصوات الملائكة مبتهجة تسبح بالكيفية التي نظمت عليها الأرض، وكيف أن كل شيء عليها طيب وجميل ومعقول، ألمحت ضحكة الشيطان إلى لا معنى الأشياء.”

ولعل العلاقة بين الضحك والفن هي التي صانته على طول مسيرة القمع والتحريم المستمرة حتى يومنا هذا، ففي عصر النهضة الأوروبية مثلاً برز مهرجو البلاطات، وبات لكل ملك مهرّجه الخاص، وهو أقرب إلى الرجل المجنون الذي يقدم للملك النصيحة والتسلية، وبالتالي فقد صورهم شكسبير كشخصيات حكيمة بارعة في اللغة، وفي السخرية المرة، فانتقد “آرتشي أرمسترونغ” مهرج الملك “جيمس” فَرْضَ الكنيسة لكتاب الصلوات على الناس، بينما وبّخ مهرج البلاط الملك “تشارلز الثاني” لخسارة الوقت في مراسم التملق دون النظر في قضايا الناس، ومنذ ذاك الوقت بات كلُّ كوميدي مُنتَهِكًا للقانون من الناحية الاجتماعية، لكنه في الوقت ذاته بعيدٌ عن المساءلة القانونية، وكأن الكوميديا حصَّنته نوعًا ما، ولذلك كاستمرار لدور المهرج في عصور النهضة، جاءت عروض الستاند آب كوميدي، حيث المهرج شخصية غريبة، تكسر القانون من دون أن تدفع الثمن، ويبرر علماء النفس الاجتماعي ذلك بأنه الشخص الوحيد في المجتمع الذي يولد المتعة لجمهوره من كسر القوانين.

ومن المحطات الهامة لعلاقة الفن مع الضحك تمثَّلت بفيلم “الديكتاتور العظيم” لـ”شارلي شابلن”، وحين عرضه لم يعلم الجمهور في الصالات الأوربية والأمريكية فيما إذا كانوا يخاطرون بالضحك على “الفوهرر”، إذ أثبت “شابلن” أن المهرج الهزلي الراقص والبهلوان هو القادر على السخرية من الديكتاتور، بينما كانت أوروبا غارقة بالخوف والصمت، ويضاف لذلك أن “شابلن” لم يكتف بمواجهة الديكتاتور بفنّه، بل أبدع باستخراج المهرج من الديكتاتور ذاته، إذ أظهر أن هتلر ليس ديكتاتورًا فحسب، بل هو مثير للسخرية كمهرج أيضًا.

يرى “بيري ساندرز” في كتابه “الضحك بوصفه تاريخًا هدامًا”، أنه بعد شابلن ونيتشه أصبحت كلّ ضحكة هي سياسية بوضوح، وموجهة ضد أي ديكتاتور وأي قانون لا إنساني مفروض على الناس، وهو ما شرحته كتب من مثل “جوهر الضحك” لـ”تشارلز بودلير” و”مقالة عن الكوميديا” لـ”جورج ميرديث”، و”الضحك” لـ”هنري برغسون”، إذ اعتبرت الضحك تعبيرًا عن إرداة السخرية والاحتجاج على التَّسلُّط السياسي، الذي جعل من الضحك مُميتًا في بعض الأحيان، قديمًا عندما كان يطلون بالملح أقدام المتمردين، ويتركون الماعز يلعقها حتى يموت المعذَّبون من الضحك، وحديثًا بحروبه الكيميائية التي يستخدم فيها غاز أكسيد النتريك المعروف بغاز الأعصاب، الذي يجعلك تموت وأنت تتدرج ضاحكًا، بحسب “الثعالبي”، من التَّبسُّم كأولى درجات الضحك، ثم الإهلاس “إخفاؤه”، ثم الافترار والانكلال، وهما الضحك الحسن، ثم الكتكتة أشد منهما، ثم القهقهة فالقرقرة فالكركرة؛ ثم الاستغراق فالخطخطة، ثم الإزهاق، وانتهاءً بالزهزقة، لا أوصلكم إليها أحد، إلا في حالات الزهزهة، والسلام عليكم.

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
LinkedIn
Instagram0

2 Comments

  1. Avatar
    ابراهيم عيتاني 22 أبريل، 2022

    مقالة رائعة ومعبرة ،ولكن لابد ان نذكر الفنان القدير دريد لحام الذي أنتقد النظام في مرحلة حكم الرئيس حافظ الاسد والذي كان ينتقد النظام بطريقة فكاهية وكان الجميع يضحك.
    الأهم من ذلك من كان يضحك على من؟؟؟؟
    هل كان دريد لحام وسيلة بيد النظام لتنفيس الاحتقان لدى الناس؟

    رد
  2. Avatar
    ناصيف رزق الله 23 أبريل، 2022

    اوافق التعليق الاول وازيد الفنان شوشو .تذكروا مسرحية و س وحين دخل السجن في اوائل السبعينات

    رد

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.