LOADING

Type to search

تدمير البيئة وإقصاء السكان عن فلسطين

ملف فلسطين موضوع العدد

تدمير البيئة وإقصاء السكان عن فلسطين

أحمد أشقر
Share

البحيرة المفقودة: الحولة كعلامة لتغيّر العلاقة مع البيئة في دولة إسرائيل

العنوان: مايه دواني

الناشر: معهد يد بن تسفي

سنة الإصدار: 2020

عدد الصفحات: 182 صفحة

اللغة: العبرية

تشكلّ البيئة والسكان في فلسطين، وحدة واحدة منسجمة ضمن المشروع الصهيوني منذ بداياته قبل أكثر من قرن إلى يومنا الراهن. فتدمير البيئة وطرد العرب منها سارا معاً يتقدم الواحد الآخر وفقاً لمقتضيات الحاجة.

عن طرد السكان العرب، كتب الباحثون العرب واليهود والأجانب الكثير من العناوين المختلفة. أما عن تدمير البيئة فإن الحقل البحثي- الذي بدأ بالتطوّر في الكيان بداية تسعينيات القرن الماضي- لا يزال حكراً على اليهود تقريباً، بينما بقيت مساهمات بعض العرب والأجانب محدودة.

الحولة بعد التجفيف

يعدّ تجفيف بحيرة الحولة أهم مشروع بين مشاريع ‘تجفيف المستنقعات’، التي قامت بها الحركة الصهيونية في فلسطين. فقد كانت تمتد على مساحة 60- 70 ألف دونم إلى الشمال من بحيّرة طبريا، لتصل حدود البانياس السوري ومرج عيون اللبناني، وجبل عامل اللبناني غرباً والجولان شرقاً. وقد بات واضحاً أنه أقسى مشاريع تدمير البيئة في فلسطين منذ النكبة حتى اليوم، لأنه أسفر عن إبادة مئات الكائنات الحيّة، منها أكثر من 30 كائناً ليس له مثيل على الكرة الأرضية، وتدمير أكثر من 20 ألف دونم من الفحم الحجري، ومنع ملايين الطيور المهاجرة من محطة راحة لاسترداد الأنفاس. كان تجفيف البحيرة جزءاً من الخرافة الصهيونية عن احتلال الأرض الخالية من السكان وتعميرها. وكانت تُعرف قبل النكبة بـ”بحر الغوارنة”، و”برّ الغرّ” والبابير. كما ورد اسمها في لُقيات رأس شمرا على الساحل السوري بـ”سمخو”.

يمثّل الكتاب الذي بين أيدينا، منهجاً في غاية الأهمية والتعقيد لأنه يتحدث عن مشروع التجفيف وخطابه، وإحياء جزء من الحولة سنة 1993 كمحميّة طبيعية ومتنزه وطني، دون الإشارة إلى طرد العرب منها في النكبة، والاكتفاء بعرضه كمشروع بيئي فقط.

يتكون الكتاب من مقدمة وخمسة فصول وخاتمة. تقول المقدمة: “كان مشروع تجفيف الحولة أثناء تنفيذه مصدراً للفخر الشعبي بقدرة دولة إسرائيل الشابة على تغيير نظام الخلق لصالح الانسان، لكنه ترافق عند قسم قليل من المجتمع الإسرائيلي بحزن على فقدان المنظر الأولي والعمل من أجل الحفاظ عليه” (ص 9- 19).

تضع الباحثة (دواني) في الفصل الأول- مستنقع الحولة: اكتشافه وخطط تصفيته ضمن سياق تاريخي يبدو محايداً أو بعيداً عنّا بدأ سنة 1871 في الولايات المتحدة الأمريكية عندما تقرر تجفيف المستنقعات والإبقاء على جزء كمحميات طبيعية ومتنزهات وطنيّة، بسبب تسارع استغلال المصادر الطبيعية وبداية دراسات الطبيعة ليعمل على زيادة الحفاظ عليها ويتحول إلى نموذج عالمي فيما بعد. وبما يخصّ الحولة فقد تم تقديم 14 تقريراً وتوصية بتجفيفها من الفترة العثمانية سنة 1872 حتى بداية الفترة اليهودية في خمسينات القرن الماضي وما من أحد منها تحدث عن مصير الحياة الطبيعية فيها وضرورة الحفاظ عليها. وبرز تقرير واحد يتحدث عن ضرورة إبادة هذه الحياة للقضاء على الملاريا التي لم يمت أحد بسببها (ص 19- 36).

تتحدث الباحثة عن تجفيف المستنقعات من قبل أمريكا، والدولة العثمانية، والاحتلالين البريطاني واليهودي، كاستحقاق طبيعي نجم عن التطور العلمي واستغلال الطبيعة. إلا أنها لا تذكر أبداً السياقات الاستعمارية للمستوطنين في أمريكا وإبادتهم للسكان الأصليين، والاحتلالين العثماني والبريطاني والاستعمار اليهودي الذي طرد غالبية عرب فلسطين وقام بإقصاء ما تبقى منهم عن مصادر الثروات الماديّة والاجتماعية والمعنوية في بلادهم. أي أن الهدف كان استعمارياً أيّاً كانت تسويغاته. فالحولة ليست مستنقعاً نتيجة تجمع المياه، بل هي كبحيرة طبريّة من حيث التكوّن الجيولوجي.

وتشرح الباحثة في الفصل الثاني- تجفيف باسم الاحتلال تغيرات مواقف المستعمرين اليهود منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى اتخاذ قرار تجفيف البحيرة، واعتبارهم فلسطين خالية من السكان، لذا عملوا على تغيير بيئتها وطبيعتها، وبما أنهم فشلوا في علاقتهم مع العرب، طوّروا توجهاً عدائياً ضدّ البيئة. تغيّر هذا الموقف مع بداية مجيء أفواج المستعمرين من ألمانيا الذين تبنوا “علاقة عقلانية” مع الطبيعة وبدأوا بتحريج البلاد. في السنوات الأولى للكيان اليهودي تم اعتبار “إحياء القفار” العمود الفقري للخطاب المحلي اليهودي والعالمي والمشروع الفعلي على الأرض، وتنقل الباحثة عن رئيس الكيان الأول، (بن تسفي)، سنة 1953 قوله: “أثناء جلوة اليهود خربت البلاد وحان الآن ترميمها”. وفيما يخص تجفيف الحولة قام الكيان بتنظيم عشرات الندوات واللقاءات وتقديم المخططات الوردية عمّا ينوي فعله وإنجازه. في سنة 1951 أكمل الكيان طرد ما تبقى من أهالي قريتي كراد البقارة والغنامة إلى سوريا، ومحى اسم القريتين اللتين كانتا في المنطقة الشمالية للحولة من المخططات. وترافق تجفيف الحولة مع صراع بين الكيان وسوريا التي اعتبرت عملية التجفيف اعتداءً عليها وطالبت إسرائيل بإعادة المطرودين من البقارة والغنامة إليها، إلا أنها رفضت. وتم اتخاذ قرار التجفيف كمحاولة للقضاء على الملاريا، وتوسيع الأراضي الزراعية كما حدث في مناطق عدة في العالم [أمريكا وأستراليا] (ص 37- 77). تكثر الباحثة في هذا الفصل من عرض وتحليل الأرشيفات المختلفة ولا تحيد عمّا ورد فيها، علماً أن السبب الحقيقي وراء التجفيف عند الحركة الصهيونية كان تأهيل أراضٍ زراعية جديدة من أجل جلب أكبر عدد من المُستعمرين اليهود (وليس فقط تمكين مستعمري المنطقة كما تدعيّ الباحثة) ليستوطنوا في المنطقة المحاذية للحدود السورية وجزئياً الأردنية قرب منطقة الحمّة، أي حشد أكبر عدد من المُستعمرين اليهود على خطوط التماس مع سوريا التي رفضت المشروع وحاولت إفشاله إلا أنها لم تتمكن.

تشرح الباحثة (دواني) في الفصل الثالث- محمية صغيرة للذكرى الخلافات التي دارت بين (الصندوق القومي اليهودي/ كيرن كييمت ليسرءل N.J.F/) الذي تأسس سنة 1901 من جهة- ومجموعات الحفاظ على البيئة تتصدرها (شركة حماية الطبيعة) التي تأسست أثناء التجفيف من جهة ثانية. أسفرت هذه الخلافات عن إقامة محمية طبيعية بمساحة 4000 دونم من أصل 60- 70 ألف دونم، هي مساحة الحولة الأصلية. جرى هذا الخلاف و’الانجاز’ في الفترة التي كانت مشاريع ورسائل الصهيونية “معادية للبيئة بوضوح”، واعتبرت محاولة إقامة المحمية عملاً “معادياً للصهيونية بطريقة أو بأخرى”. تم الخلاف والاتفاق بصورة وديّة بواسطة مكاتبات واجتماعات مختلفة جرى تصعيدها بتنظيم جولة للصحفيين في الحولة في الثاني من حزيران 1952 (ص 78- 98). عند ذكر الـ(N.J.F) يجب التأكيد على أن هدفه لا يزال الاستيلاء على الأراضي العربية وكيف تمكن من نزع نحو مليون دونم من ملكية العرب في فلسطين التي تبلغ مساحتها 33 مليون دونماً. بعد النكبة ومصادرة غالبية أراضي فلسطين، منحت دولة إسرائيل الصندوق القومي اليهودي الحقّ بإدارة أراضي الدولة لصالح اليهود فقط. وهو الذي هدم مئات القرى العربيّة وأقام المستعمرات وشقّ الشوارع عليها. أما (شركة حماية الطبيعة) التي تبدو أهدافها وأعمالها الحفاظ على البيئة، فقد باتت هي الأخرى ذراعاً من أذرع الكيان في السيطرة على أراضي العرب باختيارها مناطق معينة والسيطرة عليها لإقامة محميات طبيعية، كانت بالأصل معدة لتطور العرب عليها.

صورة قديمة لفلسطينيين على ضفة بحيرة الحولة

تواصل الباحثة (دواني) في الفصل الذي يليه؛ أي الفصل الرابع- صغيرة صغيرة لكنها الأولى- الحديث والبحث في عملية إدارة المحميّة والخلافات التي دارت بين الصندوق القومي وشركة حماية الطبيعة والمستعمرين في المنطقة، حيث ادّعى كل طرف منهم أنه الأفضل لإدارتها لكن الأيدي الطويلة كانت للصندوق. وبعد الانتهاء من التجفيف سنة 1957 بدأت الكوارث الطبيعية تظهر. في البداية تم الحديث عن انقراض عدد من الكائنات الحيّة [إلى أن وصل إلى مئات فيما بعد]. وبما أنه لم يتم إتقان بناء المحمية فقد تقلصت مساحتها من 2000 إلى 200 دونماً فقط، وجرت بعدها محاولات عدة لترميم وإعادة بعض الكائنات إليها إلا أنها فشلت. لذا تقرر إعادة إغراق الحولة بالماء سنة 1993. وتم الاتفاق خلال هذه الفترة على إقامة (وزارة حماية البيئة) (ص 99- 126). ويمكن القول إن قيام المستعمرين اليهود بتجفيف الحولة والكوارث التي اقترفوها بحق البيئة جزء من العنف الكلاسيكي المعروف الذي يمارسه المُستعمرون، يُضاف إليه رغبة اليهود بالقضاء على البيئة العربيّة وبناء بيئة تنسجم من مشروعهم الإحلالي، إضافة إلى جهلهم بطبيعة البلاد.

لم تكن الحولة “المستنقع” الوحيد الذي جففه طلائعيو الاستعمار اليهودي في فلسطين. فقد اعتبروا كل ‘مناطق الغرق’ الممتدة من جنوب يافا إلى شمال غزة والحولة “مستنقعات” وعملوا على تجفيفها وبناء المستعمرات فيها، فألحقوا الدمار بها. وبما أن الطبيعة عنيدة وتدافع عن نفسها بوسائل لا نتوقعها، تُغرق الأمطار كل عام مئات البيوت في المستعمرات التي تم بناؤها وتُغرق أيضاً شارع (أيالون)، شريان حياة (تل أبيب) الذي تم شقّه في مناطق الغرق.

وفي هذا السياق نؤكد على أن اليهود حولوا قضية تجفيف مناطق الغرق (تجفيف المستنقعات) إلى ثيمة مركزية في سرديتهم الاستعماريّة، وقد تبين أنها جريمة بيئية. أما المستنقعات التي ادعوا أنهم جففوها في مرج ابن عامر فلم تكن أصلاً مستنقعات كما أثبت ذلك كل من الباحثين اليهوديين، (يورام بار جال) و(شموءل شماي) في مقال أكاديمي نشراه سنة 1982 مُستندين إلى خرائط ووثائق تعود إلى 225 و147 سنة خلت إضافة إلى مذكرات (مارك توين) الذي زار فلسطين سنة 1867.

أما (وزارة حماية البيئة) فقد انضمت هي الأخرى إلى المؤسسات التي تعمل على مصادرة أراضي فلسطين واعتبارها محميات طبيعيّة مما يُفقد العرب مساحات من الأرض صغيرة بالأصل لكنها تحاصر أو تمنع تطورهم. ونذكر قرار (شركة حماية الطبيعة) لسنة 2019 بهدم مخزن الصيادة حمامة جربان من جسر الزرقاء، بحجة أن المخزن غير مُرخص وموجود في منطقة لا يُصدر الكيان فيها تراخيص صيد وبناء للعرب.

بدأت المشاكل والعقبات تبرز أكثر فأكثر أثناء عملية التجفيف إلى أن تم الاستنتاج بفشل التجفيف وتدميره للبيئة. في الفصل الأخير، الخامس- غمرتها المياه باسم الحفاظ على البيئة تعرض الباحثة (دواني) ‘الإنجازات’ ومنها استيعاب 600 عامل من مستعمرة (كريات شمونه/ المقامة على أراضي قرية الخالصة العربيّة) وتشير إلى الآثار السلبيّة للمشروع مثل عدم ملاءمة أراضي البحيرة المفقودة للزراعة لأنها كانت عبارة عن فحم طبيعي يشتعل في فصول الصيف المختلفة وقد هبطت عدة مترات عما كانت عليه قبل التجفيف. وعندما اتضح أن المشروع يراكم الخسائر المالية بدأ الحديث عن ترميم البحيرة لأول مرة سنة 1983 ومن بين عدة خطط للترميم، تقرر الدمج بين إعادة غمرها بالمياه مجدداً، والحفاظ على البيئة والزراعة، وإقامة مشاريع سياحيّة مختلفة. وفي سنة 1993 بدأ العمل بتأهيل البحيرة المفقودة وإعادة غمرها بالمياه لإنقاذها. وتعّد الحولة اليوم منطقة سياحية.

نتيجة لما تقدم، اعترفت الأطراف البيئية في الكيان بفشل “الغطرسة العلميّة والتكنولوجيّة” التي “لم تعد مصدر فخر شعبي بقدرة الإنسان على التحكم بالطبيعة بل نموذجاً فاشلاً […]” (ص 127- 157). وتخلص الباحثة في خاتمة الكتاب إلى الاعترافبفشل التجفيف واعتباره جزء من الأخطاء التاريخية التي يمارسها البشر [المستعمرون] بحقّ الطبيعة (ص 158- 165). كان مشروع تجفيف الحولة وفشله آخر عمليات “تجفيف المستنقعات” التي هي عبارة عن أرض الغرق في فلسطين، لتبدأ فيما بعد عمليات التحريج الواسعة التي جاءت نتيجة الأزمة الاقتصادية والبطالة الواسعة قبل عدوان 1967 كمحاولة من الدولة لتشغيل الناس بأجور زهيدة وإشغالهم عن الأزمة الاقتصادية.

تواصل الباحثة (دواني) دراسة الممارسات التي بدأتها الحركة الصهيونية ولا تزال تمارسها. وإذا كانت الأخيرة تمكنت من السيطرة على أرض فلسطين وطرد العرب منها، كذلك تمكنت الباحثة من إقصاء العرب أصحاب هذه الأراضي الذين عاشوا منسجمين معها، ولم تذكرهم مرة واحدة. كما أنها استخدمت خرائط عدة وأكثر من عشرين صورة للبحيرة يُبحر فيها يهود فقط، علماً أنه تتوفر صوراً للبحيرة تعود إلى ثلاثينات القرن الماضي وتُظهر العرب حين كانوا يبحرون فيها.

ومن المهم أن نذكر أيضاً أن الحولة كانت توفر مصادر عيش مختلفة للفلسطينيين مثل: صيد السمك، وتربية الجواميس التي انقطعت من فلسطين بعد تجفيف البحيرة، والزراعات المختلفة منها زراعة الأرز والقصب في فترات مختلفة ودورة حياة زراعية متكاملة. هذا هو عمليّاً الاستعمار الإحلالي في فلسطين: استعمار اليهود فيها- مقابل طرد العرب منها. فإذا كانت الباحثة- كما تقول- تبحث في تطوّر الخطاب البيئي في إسرائيل، فإنه من المهم التأكيد بأن هذا الخطاب لا يزال يعبّر عن المشروع الاستعماري في فلسطين، لأن كل خطوة فيه تدمّر تاريخاً بيئياً وغنيّاً يؤكد ما قاله البروفيسور (عران فايتسون) من الجامعة العبرية أثناء الاحتفال بصدور هذا الكتاب في شباط 2021 حين قال: يَشّقّون شوارعاً وأنفاقاً ويبنون جسوراً لا تؤدي إلى أي مكان..! ومن يتجوّل في فلسطين يلاحظ التغيّرات الكبيرة والمستمرة على الأرض، ويرى تحوّل مساحات منها إلى شوارع إسفلتية سوداء وجسور وكتل من الخرسانة المُسلحة تشهد على عنف المستعمرين اليهود.

“المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الفينيق”

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
LinkedIn
Instagram0

1 Comment

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.