LOADING

Type to search

بعد أن استعصت حلول الأرض.. المجتمع إلى الخرافات!

الوطن السوري مجتمع موضوع العدد

بعد أن استعصت حلول الأرض.. المجتمع إلى الخرافات!

أحمد سبيناتي
Share

كثرة المنجمين وضاربي المندل، والمدّعين في الفنون والأخلاق والعلم، ليست إلا دليلاً على هول الانهيار الذي يفتك بالمجتمعات، قالها ابن خلدون عام 1377 في مقدمته الشهيرة، ويمكن تلمّسها بكل وضوح في المجتمعات العربية التي غاب عنها الفعل وغرقت بالانفعال، وانحسر لديها العقل، فكانت التأويلات الغيبية ملجأها الوحيد. إنها دليل شرخ في الانتماء، نظرًا لغياب العقلنة فيها، وهي أيضاً علامة على اليأس بعدما فشلت التدابير والحلول. حالة تؤكدها مؤشرات لا تحتاج إلى كبير عناء للملاحظة. دور النشر التي تبيع كتب الأبراج والدين، أكثر من كتب العلم والفلسفة. العرافات اللواتي يملأن الإذاعات والشاشات. المبصّرون الذين يتوزعون في الشوارع كي يكتشفوا المستقبل الغامض للناس.

الباحث الاجتماعي محمد عبدو الفياض، يوصّف ذلك بالقول: “هذا أمر طبيعي في هذه المرحلة، فمن يستعرض مجريات القرن الماضي من حيث الأحداث والتطور العلمي والفكري الذي حدث في العالم، يكتشف أن الغرب كان همه على الدوام ألا تقوم حركات تنوير كبرى في هذه المنطقة، سواء كان قادتها أحزاباً أم أفراداً أم حركات أهلية، فالمطلوب بالنسبة للمستعمر هو وجود حالة تشرذم واقتتال وتأويل غيبي بين أبناء المجتمع، وهذا أمر تم التأسيس له من زمان طويل على الصعيد المعرفي، حيث كان الغرب يغذي حالة الحقد بين الطوائف بشكل هادئ وبطيء حتى يقوم باستثمارها كما يجري الآن، صحيح أن التربة الخصبة الموجودة في عقول الجاهلين جعلت قوى الظلام تنجح في نشر وتحقيق أهدافها لكن ذلك لم يكن يمنع من الإشارة إلى هذا العامل الخارجي الذي كان سبباً في إيقاف حركة التنوير بداية القرن الماضي والتي كانت ستضع البلدان العربية أمام عجلة التطوير المدني والديموقراطي، وهي حالة يرفضها الغرب لأنها تشكل خطراً عليه.. لنعد ولنستعرض ما جرى على أيدي رجال الدين المتنورين من محاولات تطوير وعلى أيدي القادة السياسيين والمفكرين، فالغرب عمل على القضاء على كل من كان يفكر أن ينشىء نهضة في هذه المنطقة لأن التخلف يعد عامل حماية للاستعمار وهو ما جرى حتى الآن للأسف!”

يقول العديد من الشباب الذين التقيناهم، إن الدين يقدم الحلول الكثيرة لمختلف ما نواجهه في الحياة، خاصة أن الاتجاهات الأخرى قد أخذت فرصتها في محاولات الحل والتنوير وإنجاز المجتمع الحديث لكنها لم تتمكن ذلك! يقول سامر، طالب سنة ثانية إنكليزي: “إن الدين الإسلامي يقدم نظرة شاملة للحياة ويقدم الحلول للدنيا والآخرة، لذلك كان من الطبيعي أن يتجه كل الشباب إلى هذه المبادئ لأنها ترتقي بالِإنسان وتجعله يميز الخير من الشر ومن الممكن أن تضع له الحلول لمختلف ما يواجهه كفرد وكمجتمع، خاصة أننا لم نجرب ما يمكن أن ينجزه هذا الدين إذا ما تم اتباعه بالشكل الصحيح والدقيق” وعندما أخبرنا سامر أن الدين يمتد عمره لأكثر من ألف وأربعمئة سنة وأنه ليس جماعة مؤتلفة من الناحية الاجتماعية والفكرية، فالمسلمون أنفسهم غير متفقين على المبادئ والتفسيرات، كما أن تجارب الإسلام السياسي لم تكن حميدة في العديد من الدول العربية مثل الجزائر ومصر وسورية، حيث كان العنف والإرهاب أبرز ملامح هذه الحركات بذريعة أنه جهاد! تردد سامر في الرد وكان من الواضح أن معلوماته ضحلة في هذا الاتجاه وهو أمر يراهن عليه دعاة الدين السياسي في مختلف الأماكن، إذ يحملون الترهيب من الآخرة في يد وإغراء المكافآت التي يمكن أن يحصل عليها الشخص بيد أخرى.

نقاش ساخن نشأ مع الشباب حول الصراعات السياسية التي قام برعايتها الدين في مختلف الأماكن، وكيف أنه من الصعب التوفيق بين أصحاب الرؤى الدينية نظراً لأن كل طرف منهم يعتقد أنه يملك مفاتيح الجنة وصكوك الدخول إلى الفردوس المفقود، لكن ما يغيب العامل الموضوعي والعقل النقدي عن أولئك يبدو أكبر من مجرد نقاش سريع يمكن أن يجد الحلول لمختلف هذه القضايا، لكن وفي كل الأحوال لابد من نقاش علني جريء لا يقيم وزناً للعقل المتخلف مهما كانت تبريراته، خاصة تجاه أولئك المراهنين على استثمار الدين من أجل التغطية على عامل التخلف المعرفي الذين يعانون منه!

في الجامعة أيضاً وتحديداً في كلية الآداب، وأماكن عامة أخرى مثل الحدائق، صار بالإمكان العثور على أشخاص يقومون بالصلاة، وهي مسألة لا نقول إنها متنافية مع التطور، لكنها لم تكن لتشاهد في السنوات الماضية، وهو أمر يدل على اختلاف ما في تفكير المجتمع ومعتقداته وتعويلاته في الخلاص وإيجاد الحلول.. في هذا كله يبدو التداخل بين الغيبي الديني اللاهوتي، وبين العملي المؤسسات الحياتي، كبيراً جداً بالنسبة لأناس صاروا يعتقدون بإمكانية تحقيق كل أنواع الخلاص عبر الدين وليس العلم.. تقول سمر، طالبة سنة ثالثة أدب عربي:

“بعض الدول الإسلامية تمكنت من اللحاق بركب الحضارة والتطور ولم يمنعها الفكر الغيبي من الوصول إلى العلم والاختراعات الحديثة، لابد أن ننظر نظرة موضوعية إلى الدين ولا نطلق أحكاماً متسرعة، خاصة أن الدولة الإسلامية التاريخية منذ أيام الرسول صلى الله عليه وسلم قد تمكنت من تقديم إنجازات حضارية كبيرة والوصول إلى مساحات واسعة من الأرض، وما تمكن المسلمون من تأسيسه في الأندلس دليل على إمكانية تقديم الكثير والمختلف عن طريق الدين”.

كلام سمر أكد القراءة الجزئية للتاريخ، فالدين في المجتمعات التي تشكل لوناً طائفياً واحداً لم تظهر عليه أعمال العنف والصراعات بشكل واضح، فباكستان تشهد صراعات دائمة بين المسلمين أنفسهم وبين طوائف أخرى، وهي ليس بحالة تنويرية كبيرة كما يتخيل المرء، ربما تمكنت من صناعة القنبلة النووية، لكن ذلك كان برعاية أميركية من أجل توازنات معينة في العالم، لكن ما هو واضح أن هناك من يستغل صراعات الهند وباكستان من أجل إيجاد دولة بهذا النوع وهذا الشكل فهي ليست الفردوس المفقود قطعاً.. أيضاً في أماكن أخرى من العالم لا يمكن أن تكون المؤسسات الدينية التي قامت بواجبها عندما بنت دولاً في أماكن مختلفة من العالم، قد قدمت إنجازات هائلة تؤكد صحة الدين، فالدين بطبيعة الحال لم يكن موجوداً أيام الاختراعات الكبيرة وهو لم يضع تفاصيل سلوكية للتعامل مع الدولة ومواكبة العصر، لكن الإنسان هنا هو المتميز والقادر، والدليل على ذلك تباين التطور بين تلك الدول بشكل كبير.. ثم ما هو مصيرنا إذا اعتقدنا بصوابية هذا الحل؟ ومن هي الطائفة التي يفترض أن تتولى تطبيق الدين في السياسة، وهل ستقبل الطوائف الأخرى بذلك، خاصة أن عدد الطوائف في سورية كبير جداً ومن الممكن أن يشكل الأمر سبباً لنشوء خلافات لا تبقي ولا تذر!

في كل الأحوال، لماذا لا نأخذ التجارب المدنية في العالم، خاصة أن السوريين تمكنوا من تمدين البشرية في سنواتها الأولى على وجه البسيطة، هل نسينا أن الفينيقيين أول من ركب البحر وأن الأبجدية ولدت هنا وسواها من الاكتشافات التي شكلت منعطفاً في تاريخ البشر؟ لماذا لا نترك الدين يمارس حريته في أماكن العبادة والتأويلات التي يرغب بها فيما يخص الوجود والآخرة وينهمك المجتمع ككل في اختراع أدوات التأقلم والاستمرار في الحياة العصرية؟ ألا يفترض أن نأخذ العبر من أوروبا التي عاشت مرحلة القرون الوسطى في حالة حرب طاحنة تخلصت بعدها من حكم الكنيسة وبنت الدول المدنية المستقلة عن الأديان، حيث بإمكان المرء أن يؤمن أو أن يعدل في آرائه أو يفعل ما يشاء شريطة ألا يضر بالمجتمع؟ لا شك أن الأفكار التي تحتاج إلى فرض بالقوة تملك الكثير من الثغرات وأماكن الضعف، لذلك فهي تلجأ للسيف من أجل الاستحواذ على العقول وإلا فهي تقطع الرؤوس!

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
LinkedIn
Instagram0

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.