LOADING

Type to search

الموت والماء السوري

الوطن السوري موضوع العدد

الموت والماء السوري

محمد الحصني
Share

عاينت الموت عن قرب خلال أربع سنوات من أدائي الخدمة الاحتياطية في الجيش السوري باختصاص مشاة اقتحام. تلك الدقائق اللعينة قبل أي مهمة جديدة في كل شهر ونصف تقريباً، حيث تبدأ خلايا التعرق بإفرازاتها الشديدة ويغدو التشويش كاملاً على أي محاكمة بديهية (يفضل البعض الصمت والبعض الصخب) وتتصاعد الأمنيات المستحيلة كأن يلغي أمر المهمة أو تستدعى المجموعة إلى الخطوط الخلفية لسبب مبهم، أو تأجيل العملية للمزيد من جمع المعلومات أو حديث تلفوني مع الوالدة بأي قضية تافهة (وهو ما لم يحدث في أي مهمة خضتها خلال أربع السنوات).

تعلمت من تلك المحن، التعامل المنطقي مع الخوف من الموت حيث يغدو التدريب والخبرة المتزايدة بعد كل مهمة، سبباً لسلوكٍ باردٍ ومنضبط، باختصار إنها إدارة الخوف. ولقد لاحظت أن تلك الحالة من التشويش والأمنيات الطوباوية المزمنة، تتطور باتجاهات مختلفة لدى المقاتلين، فصنف منهم تنحو تلك الدقائق مع التكرار إلى اتجاه صوفي إيماني، وهم الغالبية الساحقة من المقاتلين، وقسم يغدو بأمنياته أكثر شراسة وغرائزية في الخيال والتفريغ وهم الأقل. وأذكر المرة الأولى التي سمحت بها لمجموعتي المقاتلة أن تحتسي العرق أثناء استراحتها في الخطوط الخلفية (وكنت امنعه في أثناء أيام الدوام) وقد سمحت به تلك المرة لأنني ببساطة كنت الوحيد الذي كان بحاجة لتسكين تلك الشراسة والغرائزية المقهورة، وهي تجربة لم تكن بالنسبة إليّ سارة نفسياً، ولم أسمح لها بالتكرار في مجموعتي التي اعتبرتها تجربة مريحة.

لم تكن القضية في الموت، فقدان من نحب من رفقاء السلاح فقط، بل تشكل أحاسيس وانهيار حواجز يصعب على من لم يدخل هذا النمط من الشدة استيعابه، فقد بقيت لسنوات، على سبيل المثال، اشتم رائحة الدم بدون مبرر واقعي أو كوابيس شبه يومية من عوالم الحرب.

إنه الخوف من الموت، الذي أستطيع القول إنني عاينت قعره الإنساني مدّة أربع سنين. هو لدى المؤمن بالله يحتوي على ماء ساكن حيث يسقط الحجر في بئره سلاماً وبضجيج أقرب لأصوات الطبيعة ومنعدم الإيمان مثلي بئره بقعرٍ قاسٍ، فالحجر الساقط يصدر ضجيجاً يؤلم وجود صاحبه. وأستطيع القول إن الإيمان هو العقيدة التي ربما لا تعني ديناً بمقدار ما تعنيه من فكرة الحق ببساطة، فعندما تكون على حق فأنت صاحب عقيدة، وبالتالي هذا هو الإيمان وليس الله إلا الماء أو منسوبه في قعر البئر، وبذلك تستطيع أن تفهم التفلسف الصادم لدى بعض القلة من المقاتلين بأنهم ليسوا على الحق الذي يمتلك عدوهم منه (برأيهم) نصيباً كبيراً، إن دواخلهم تتفجر خوفاً من الموت ولا تعتقد أن الإيمان بالله يعني التسليم بتملكه لقرار حياة المؤمن به. فهؤلاء يحملون الإيمان الغيبي الديني وراثةً بحكم الولادة لا أكثر. إن هذا النمط المشروخ في هذه الناحية من الإيمان هو في الأكثرية الساحقة ممن عرفت من المؤمنين. إن المؤمن الذي لا يهتم بالتهلكة ويرمي نفسه فيها لأن له رباً يحميه، موجود لكنه نادر كجوهرة مدهشة وما عايشتهم عن قرب إلا وتذكرت المسيح أو علي أو الحسين، وهؤلاء المقاتلون هم من ملح الأرض والنصر.

أعترف أن كل ذلك الرعب في مواجهة الموت، هو لا شيء أمام تلك الدقائق التي عشتها بسبب الزلزال الذي ضرب سوريا واللاذقية التي أحيا فيها، فالذي كنت أحياه من الخوف والتوتر قبيل المعركة يملكه عدوي المقاتل في الجهة الأخرى، فهو إنسان له مشاعره وعواطفه ومخاوفه وطبيعة إيمانه المتأتية من تربيته وقناعاته. إلا إذا كنا على مستوى من الحماقة لنصنف الناس بمؤمنين بالله أو غير مؤمنين والإنسان أعقد من ذلك بكثير.

كل شيء يهتز بعنف وتسمع صراخ الناس وصوت الأرض الغريب مختلطاً بصوت الرياح الشديدة. أنظر إلى زوجتي مقابلي في السرير وابنتي الغافية بيننا، ولا أملك كلمة أقولها، أخبرتني بصوت مكبوح أنها ليست هزة بل زلزال.. لا تتحرك وابقَ بجانبنا.. أهلي يا محمد. كانت مئات الأسئلة تدور في ذهني، تماماً بما يشبه قبيل دخولي المعركة، الفارق أن جميع الأجوبة كانت صفراً بلا قيمة.. إنه العجز والاستسلام فقط لمرور ما بقي من فعالية ثواني الزلزال، هو عجز بكل ما يعنيه من ذلة انتظار النتيجة والتسليم بها مهما كانت.

إنها سطوة الطبيعة التي تغنى الشعراء والأدباء والرسامون، بأنوثتها ومواسمها وخصبها في فنونهم. إنها الطبيعة التي أن تبقى حياً بعد إحدى فعاليات كينونتها لا يعني شيئاً. إن الجُمل التي تعبر عن البقاء على قيد الحياة كمثيل المصادفة أو رضى الله أو حتى الحمد لله على السلامة، تصبح وقحة ومنعدمة الحياء تجاه من قضى نحبه وفقد قريباً أو حبيباً، ولكنها تبقى (بالنسبة إليّ) ثقافة اجتماعية تعبر عن تنفيس مريح للمجتمع أمام ما يفترضه حدثاً مؤلماً، وهو تنفيس قد يعبر أحياناً عن انحطاط اخلاقي مريع في فهم الموت والمواساة لأن الصمت أحياناً هو العزاء الحقيقي لكل حزين ومكلوم وتشجيعه على أن يتحدث فقط.

كنا نجتمع في استراحتنا، بعد نهاية بعض المهام القاسية في أثناء خدمتي، ويبدأ الجميع برواية نكات مريرة عن تجربة هذه المهمة بالتحديد، كانت تلك النكات بمثابة تفريغ للضغوط الهائلة والقاسية التي تعرض لها المقاتلون، وتصغي من خلالها إلى أعماق مخاوفهم ورجائهم تعلقاً بالحياة، كانت نكتي المفضلة؛ كم شخصاً تعرفونه يدعى محمد ويحمل البكلوريا ومؤمن بالله ومن أب وأم من طائفة واحدة ومات في كل الحرب السورية؟ ربما المئات والآلاف! وكم شخصاً تعرفونه يدعى محمد خريج قسم تاريخ ومن أب وأم مختلفي المذاهب ولا يؤمن بالله وبل يكره المدرسة السوريالية وما بعد الحداثة والملحدين، ومات في كل الحرب السورية؟ طبعاً لا أحد! يا شباب الأرقام معي! فأي نكتة، وحتى لو كانت بيني وبين نفسي، قادرة على تفريغ تلك العبثية الهائلة للموت الذي يخطف الحياة من الأحياء! إنها عبثية لا تميز بين زاهدٍ صالح أو مفسد في الأرض ولا قيمة لديها لكل معتقدات التعقل والتوكل التي تغدو نسبية ومن باب شد الأزر للنفس الخائفة أو المترددة من جبروت الموت إنه القليل من الماء في النفس.

أذكر في إحدى المهام القاسية التي لمست الموت فيها باليد، حيث كنا على الساتر الأخير لنسيطر على هضبة في ريف حلب ولنبدأ الدخول إلى المدينة الفارغة، فمن أصل ستة من أصدقائي انطلقنا إلى الساتر “وكنت منهم” وصل أربعة، وأصيب الرابع لحظة وصولنا. وجدنا هناك شخصين ساندناهما نارياً وطلبنا المساندة. كان وضع المعركة مشوشاً فالقوى متلاحمة بشكل قريب فلم نعرف إلا أنّ ثمة إرباكاً في صفوف قواتنا التي تحاول أن تسيطر على الهضبة الأعلى من هضبتنا وبالتالي كان وضعنا ملتبساً. وصلنا للمساندة 10 مقاتلين ولكنهم منهارون نفسياً، فربما كانت هذه هي التجربة الأولى لهم. لم نقسُ عليهم وتركناهم يمارسون أشكال الأمان النفسية الخاطئة في العلم العسكري من حيث التموضع على الأرض.

فجأة أصبنا من خلفنا وهي جهة معادية بصاروخ أو قذيفة ما. كان ما شعرت به هو اندفاع جسدي نحو الساتر الترابي نتيجة ضغط وحرارة عالية. ببساطة هرب من بقي حياً وأنا لم أصب بخدش ولكن أصبح معي صديقين أحدهما شهيد والآخر جريح. حملت الجريح بقرار منطقي وتراجعت لما يفترض أنه الإسعاف حيث سلمته وبدأت رحلة الكابوس بمحاولة الوصول المستحيلة إلى صديقي الشهيد وخاصة أنني تخلصت من بندقيتي كي أقدر على حمل الجريح وكنت اتعرض لرصاص غير دقيق في أثناء سحبي له فثمة ما يشبه التقدم نحونا أو الالتفاف علينا. كانت الأخبار على الواسطة اللاسلكية تطلب الانسحاب، وطلب أصدقائي بالواسطة الوصول لموقعي للمؤازرة ولكنني رفضتها لأنها لن تراكم إلا الجثث فوق الشهيد، فلينجح شخص وحده أو ليفشل وحيداً. لا أعرف مقدار الوقت الذي أضعته في محاولات الوصول إلى صديقي الشهيد، كل ما اعرفه أنه وصل إلى موقعي صديقان من مجموعتي التي بقيت تنتظرني للمساعدة. شرحت لهما الموقف وحاولنا الوصول إلى لشهيد الذي بسبب من طبيعة نيران المعركة كان مستحيلا. وقتها فقدت الاتزان العسكري، ولم أكن أمارس قراراً مدروساً وصحيحاً بل عجزاً عاطفياً يغامر في الدقائق المنتهية من معركة خاسرة. ما أذكره محاولات الصديقين لثنيي عن المحاولة والعودة السريعة لأنها ربما لا تبقى متاحة لنا بعد دقائق إضافية. نعم كنت عاجزاً عن التمييز وبناء محاكة عقلانية، أذكر أنني بدأت بالبكاء جالساً على الأرض والصديقان يحاولان دفعي للمشي ومشيت عائداً لمسافة كيلومترات تسحق النفس.

سألني بعد مدّة زمنية طويلة أحد الأصدقاء، ممن يعرفون عدم إيماني، عن إحساسي بتلك اللحظة التي ضربنا فيها بقذيفة وقد شاهد كتلة اللهب من زاويته القريبة منا؟ فأخبرته لم أذكر سوى أمي التي لم أكن أريد لها أن تحزن على موتي، شدد بالسؤال عن الله، فأخبرته لم يكن لدي شيءٌ اشعر به لا قبل القذيفة ولا بعدها. لقد كانت أمي الماء القليل في بئري الذي وقعت فيه الحجارة لحظتها. ومن غرائب الحياة أن أخبرني أحد المتصوفة اللطفاء منذ أشهر أن أمي هي جزء من شفرات كونية أنقذتني من الموت، وصراحةً يسهل ان أفهم ما شرح لي ولكن يخنقني أن أخبره بأن الغالبية العظمى من المقاتلين وقبيل دخولهم إلى المعركة وفي أثنائها يتذكرون أمهاتهم أو بناتهم أو زوجاتهم! ما جرى معي لا يستحق أي استثناء.

هل نخرج كسوريين من عبثية الموت الذي مارسته الطبيعة برعبها علينا جميعاً؟ هل نقدر للحظة على فهم أن أرضنا وأمنا هما الماء الوحيد في الكون الذي يجب أن نسقط عليه وفيه ولمصلحته؟ وأن أرضنا الأم هي الجسد الوحيد الذي نتنفسه ويتنفسنا والرحم الوحيدة التي منها نولد وإليها نعود؟

نعم لقد عرى الزلزال النظام الغربي والدولي مليون مرّة، والنظام العربي مليوناً وألفاً من المرات ولكنه بالتأكيد عرى معتقداتنا الخاصة مرةً أولى نادرة ومريرة. والذي أشاهده من لهفة السوريين على السوريين هو أنهم تجاوزوا كل اقنعة الحماقة التي حاول الغرب إلباسها علينا في الأعوام الأخيرة، وخاصة منذ احتلال العراق، ليقنع السوريين أنهم هويات مشوشة من علويين شبيحة أو سنة عواينية او شيعة إيرانيين أو مسيحيين أوربيين أو موحدين انفصاليين أو أو، وطبعاً مع إيماني بوجود هوية قائمة ومتماسكة وتدعى بالمثقفين البترودولاريين فهؤلاء حقاً فاعلون ومترابطون ولهم خطة، ولم يعرِّ الزلزال من وجدانهم شيئاً، فهذه القلة تستطيع اصطياد الطين من أمطار الغيوم ولأعماقها المريضة أغوار لا أعرف قعرها وما فيه.

لقد مر عراقنا بحصار كحصارنا، وكانت خواتيمه بذات أكاذيب إسقاط النظام الدكتاتوري وسواها، وبحرب زلزلت كامل شرائحه الاجتماعية وبناه التحتية والمعرفية والاقتصادية، بل إن انعكاسات الصراع على تدمير الشام في السنوات الاخيرة مارست امتدادها الدموي على مدنه وسكانه وكانت استمراراً لزلزال 2003م

أتمنى أن يستيقظ السوريون من رعب عبث الموت والصيادين فيه وعلى أن الماء في نفوسهم هو وطنهم الأم الذي حدده أجدادنا بين ماء يدعى البحر الأدنى وماء يدعى البحر الأعلى… إنها سوراقيا أيها الموت.   

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
LinkedIn
Instagram0

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.