الثابت والمتحرّك، في كتاب “طروحاتٌ جديدة في الفكر القوميِّ الاجتماعيّ”
Share
يوسف الخوري
(هذه الكلمة ألقاها الدكتور يوسف خوري في ندوة الكتاب القومي التي أقامتها مؤسسة سعاده، في العرزال منذ أيام قليلة، وهي عرض لكتاب الدكتور ميلاد السبعلي طروحات جديدة في الفكر القومي الاجتماعي. أهمية الكلمة أنها تعرض لمضمون الكتاب لناحية التغيير في الدولة والمجتمع خاصة فصل الدين عن الدولة، فرأينا أنها مناسبة وتغني الحوار حول فصل الدين عن الدولة.)
الثابت هو ما لا يمكن تغييرُه في العقيدة الحزبيّة. وهو يصلح لكلّ زمان أو مكان. المتحرّك هو المرتبط بعصر الزعيم، ونستطيع أن نؤوِّنَه بحسب تبدّل الأزمنة والأمكنة. ودائمًا بحسب ما ورد في الكتاب موضوعِ المداخلة.
يتألّف الكتاب من ثمانية أبواب، وجميعها مقالاتٌ قيّمة شيّقة عميقة وموضوعيّة، باستثناء الباب الأخير “كلمات في رفقاء العزّ” فقد جاء ذاتيًّا ذاخرًا بالعواطف الصادقة.
يقدّم د. ميلاد سبعلي لكتابه بأربعة أسطر ونصف تختصر منهجيّته في العمل وهي تقوم على مبدأين: الأول قراءة التطوّرات المعاصرة في ضوء المبادئ القومية الاجتماعيّة. والثاني تحديدُ موقع الفكر القوميّ الاجتماعيّ مقارنة بتطوّر الفكر الإنسانيّ. من هنا يبدأ التجديد. منهج علميّ لمراجعة الفكر القوميّ الاجتماعيّ.
ونظرًا لضيق الوقت اخترت من مقالات الكتاب بعض ما يتحقّق فيه بوضوح عنوان مداخلتي هذه “الثابت والمتحرّك، في كتاب “طروحاتٌ جديدة في الفكر القوميِّ الاجتماعيّ”
المقال الأوّل: سعاده والدولة المدنيّة الحديثة
يتناول الدكتور سبعلي في هذا المقال أربعَ مسائلَ:
المسألة الأولى: سعاده والتغيير الاجتماعي
يورد الدكتور سبعلي في هذا الباب مسألة تطور الإنسان وصولًا إلى العصر الزراعيّ ثمّ الصناعيّ. ويذكرُ أنّ سعاده دعا إلى نهوض الأمّة لمواكبة العصر الصناعي، والانخراط فيه. ثمّ يدعو سبعلى إلى مواكبة عصر المعرفة الحاليّ. فالثابت في هاتين الدعوتين هو مواكبة التطوّر، والمتحرّك هو العصر الذي علينا مواكبته. وهذا معناه أن الحزب، كما أراده المؤسّس، يجب أن يكون في سعي دائم نحو التطوّر، لا أن يقف عند التطوّرات التي اقترحها المؤسسُ.
ويورد الدكتور سبعلي قول سعاده: “العالم اليوم على أبواب معارك هائلة، تلتحم فيها جنود العلوم والمعارف والآداب والعدل والحرّيّة والسلام، مع جنود المبادئ الرجعيّة والظلم والعبوديّة والحروب. فمن أي الجنود أنت؟” (ص24) الثابت في هذا القول هو الوقوف إلى جانب التطوّر العلميّ والحضاريّ، بالإضافة إلى مناصرة القضايا العادلة. فالتساؤل: من أيّ الجنود أنتَ؟ هو استفهام يُرادُ به التأكيدُ على الوقوف إلى جانب العلوم والمعارف والآداب والعدل والحرّيّة والسلام، ومناهضة جنود المبادئ الرجعيّة والظلم والعبوديّة والحروب. فقد تُعرضُ علينا قضايا غيرَ القضايا التي تناولها الزعيم، فهل نحتار في أن نكون مع القضايا المحقّة وضدّ المصالح والأنانيّات والنكايات والأحقاد، كما هي حالنا اليوم؟
ويذكر سبعلي أن سعاده يدعو إلى “الاستقلال الروحيّ. الفكريّ والشعوريّ. الذي لا يعني الانعزال عن العالم”، في النظر إلى مبادئ الحقّ والخيرِ والجمال. هذه الاستقلاليّة الفكريّة ثابتةٌ، أمّا موضوعاتُها فمتحرّكة مع العصور. وهذه حاجة ماسّة في مجتمعاتنا الشرقيّة. فمصيبتنا التبعيّةُ. إن لم تكن إراديّة فهي مفروضة.
هنا الجديد الذي جاء به الدكتور سبعلي: الدعوة إلى التمسّك بالمبادئ التي أعلنها سعاده لأنّها إنسانيّة شاملةٌ صالحة على مدى الأزمنة، لا أن نتمسّك بالظروف الآنيّة التي جعلت سعاده يستنبط تلك المبادئ.
ويذكر سبعلي أنّ سعاده يركّز على الشخصيّة القوميّة. وهي لا تمحو الشخصيّة الفرديّة بل ترتقي بها إلى الشخصيّة الاجتماعيّة التي تحقّق خير المجتمع، فيتحقّق خير الفرد في المجتمع. ولعلّ هذا أعمق المشاكل التي تعاني منها الدول العربيّة ودول العالم الثالث اليوم، التي تكمّ الأفواه، وتحجّر العقول، وتستعبد الأفكار.
وهنا تحضرني الإشكاليّات الآتية: كان عصر سعاده عصرَ القوميّات. وصراع القوميّات في ذلك العصر أدّى إلى حربين عالميّتين مدمّرتين. وكان شرقنا غارقًا في صراع قوميّتين. القوميّة التركيّة والقوميّة العربيّة. وكلتاهما قائمتان على إلغاء الآخر. فهل أوجد سعاده القوميّة السوريّة لمواجهة القوميّتين العربيّة والتركيّة؟ أم جاءت القوميّة السوريّة نتيجة نظرة علميّة موضوعيّة، تدعو إلى التوقّف عن صراع القوميّات والسعي إلى تحقيق الذات الإنسانيّة من خلالها. فتنتقل الإنسانيّة من الكيانات المتصارعة إلى الكيانات المتعاونة؟ وهل أنّ حدود سوريا الطبيعيّة هي حدود ثابتة أم يمكن أن تتسّع أو تتقلّص بحسب الدول التي ترغب بالانضمام إليها؟ وإذا أُجْرِيَت دراسة علميّة لسكّان سوريا الطبيعة وأظهرت أنّهم ليسوا من عرق واحد، هل تبطُل الحاجةُ إلى إنشاء هذا الكيان؟ وأنا أدعو الصديق الدكتور ميلاد أن يأخذ هذا بعين الاعتبار، في تحديد ثوابت القومية السوريّة، إذا وجده ضروريًّا.
المسألة الثانية: النظام التقليديّ والنظامُ الجديد
يفصّل سبعلي موقف الزعيم من النظام التقليديّ القديم القائم على الإقطاع، والروح القبليّة – الفرديّة، والتعصّب الطائفيّ. ويتكلّم على النظام الجديد الذي دعا إليه سعاده، وهو “يرتكز إلى نظرة جديدة إلى الحياة، ومفاهيم وقيم وعقليّة أخلاقيّة جديدة”، ليخلص إلى قول الزعيم: “لا فائدة من التوفيق بين النفسيّة الجديدة والنفسيّة العتيقة”. وهذا هو الثابت (ص30): وهذا معناه مواكبة التطوّر. لا اعتماد خصائصَ تجديديّة بعينها. من هنا تأتي دعوة الدكتور سبعلي إلى “تنمية الموارد البشريّة وتسليحها بالاختصاصات العصرية والعلوم الحديثة للمساهمة الفعّالة في عمليّة التنمية المستدامة والنهوض الشامل.. وتحصين المجتمع الجديد تجاه رياح العولمة ومغرياتها. وكلّها مفاهيمُ جديدة لم تكن في عصر مؤسّس الحزب. ولكنّها تطبيق عمليّ لما دعا إليه سعاده..
المسألة الثالثة: التغييرات البنيويّة في المجتمع
وينتقل الدكتور سبعلي إلى عرض التغييرات البنيويّة في المجتمع، التي دعا إليها سعاده. وتدخل جميعُها تحت مسمّى “فصل الدين عن الدولة”، مع احترام الإرث الروحيّ والثقافيّ للأمّة، وإقامة النظام المدنيّ الحديث، الذي لا يفرّق بين مواطن وآخر (هذا هو الثابت) (ص 32). أمّا الطريقة التي ستحقّق هذا الثابت فهي المتحرّك الذي يمكن أن يتطوّر بحسب تطوّر المجتمع؛ فتُسنُّ القوانينُ والتشريعات اللازمة لذلك، وتُؤَوّن بحسب تطوّر المجتمع. وهنا الجديد الذي يأتي به سبعلي وهو تفسير للثابت الذي أطلقه سعاده؛ فدعا سبعلي إلى نظام علمانيّ يضمن حقوق “الأقلّيات” في التعليم والحفاظ على التقاليد واللغة وغيرها من عوامل اطمئنان لها شرط عدم عزلها عن المكوّنات الأخرى في المجتمع. وهنا أقترح على الدكتور سبعلي وقيادة الحزب السوري القومي الاجتماعيّ التعمّق بدراسة دعوة سبعلي ومقارنتها بالميثاق الوطنيّ والتعايش بين الطوائف، إذ سيكون هذا الأمر مطمئنًا لمكوّنات سوريا الطبيعيّة التي تخاف (المكوّنات) على نفسها من فقدان هويّتها الذاتيّة والذوبان في الهويّة القوميّة الكبرى التي قد تطغى عليها هويّة الأكثريّة.
المسألة الرابعة: التغييراتُ البنيويّة في الدولة
ينطلق د. سبعلي في عرض هذه المسألة من فرضيّة مفادها أنّ الدعوة إلى الإصلاح والتغيير والعصرنة، لن تتحقّق بمجرّد بناء أشكال حديثة للدولة. بل هي تبدأ “بالتركيز على التغيير الاجتماعيّ الجذريّ”. ويفصّل بإسهاب التغييرات المطلوبة. من هنا فإنّ التغيير الاجتماعيّ الجذريّ هو الثابت. وهو تغييرٌ قائمٌ على “تخطيط الدولة الحديثة بأحدث الأشكالِ والتجارب العالميّة ومواءمتِها مع التغييرات الجذرية في طريقة بناء المواطن وتحديد قِيَمه، وفي بُنية المجتمع لتأمين وحدته” (ص37)، هذا التغيير”يؤمّنُ الإطار السياسيَّ للشعب، كي يحقّق غاياتِه الكبرى”. أما كيف يحصل هذا التغيير فهو المتحرّك. وقد توسّع سبعلي في عرض مبادئه شارحًا فكر سعاده، داعيًا إلى أن تُرافقَ هذا التغييرَ “رؤية استراتيجيّة اقتصاديّة اجتماعيّة متكاملة ترتكزُ إلى مكتنزات الأمّة وتطوّرات العصر.” (ص 40).
المقال الثاني: سعاده ومجتمع المعرفة
يتقن الدكتور سبعلي البناء على الثابت، لإخضاع المتحرّكات له. ففي الكلام على مجتمع المعرفة يعرضُ تطوّر الفكرِ الإنسانيّ في تعامله مع البيئة ومع وعيه لذاته. ثمّ يعرض الحالتين الاجتماعيّتين اللتين سبقتا عصر المعرفة الحاليّ: المجتمعَ الزراعيَّ والمجتمعَ الصناعيَّ. ويُوضح موقف سعاده الداعي إلى الانتقال من عصر الزراعة إلى عصر الصناعة ومواكبة الصناعات الحديثة، والمشاركة في ابتكارها لا في استخدامها فقط. وهذا شرح لفكر سعاده. ثم يجعل من دعوة سعاده إلى مواكبة تبدّل العصر من زراعيّ إلى صناعيّ ثابتًا هو مواكبة العصور، والمتحرّك هو ميزات كلّ من هذه العصور. فيُكْمِل هو رسالةَ سعاده ويدعو إلى مواكبة عصر المعرفة. ويأخذ من قول سعاده “إنّ سوريا لا تحيا اليوم في القرن العشرين”، ليدعوَ هو إلى نقل سوريا إلى القرن الواحد والعشرين. فيعرض متطلّبات الانتقال إلى هذا القرن، على غرار ما فعل سعاده في دعوته لمواكبة العصر الصناعيّ.
المقال الثالث: القوميّة الاجتماعيّة: تلازم المواجهة والتنمية
تنقسم هذه المقالة إلى أربعة أقسام.
أولويّة الصراع
يوجز سبعلي، في هذا القسم، الظروف التي نشأ فيها الكيان الصهيونيّ، وتقسيم المنطقة إلى كيانات صغيرة. ممّا دفع سعاده إلى التحذير من الكيان اليهوديّ واعتباره خطرًا على المنطقة بأسرها، واستنفارِ الأمّة لمواجهته. فما كان من هذه الكيانات إلّا محاصرته والتخلّص منه. ويذكرُ أنّ الأنظمة المحلّيّة والعربيّة ظلّت في تخلّفها، وفي مشاكلها الداخليّة، وفي تسلّطها على شعوبها، وكبت الحرّيّات، بحجّة المعركة… في حين أّنّها خسرت جميعَ المعاركِ التي خاضتها ضدّ إسرائيل. وتخلّفت عن تطوير شعوبها، وعن مواكبة ركب الحضارة.
الواضح في هذا القسم أنّ الثابت هو أولويّة الصراع مع الكيان الصهيونيّ.
تحدّيات الوحدة والنهوض وخطر الوجود
يعرض الدكتور سبعلي في هذا القسم “النظريّات التحرّريّة” التي اجتاحت العالم العربي في القرن الماضي، وهي الليبرالية المقلّدة للغرب، والدعوة إلى قوميّة قائمة على اللغة والعرق، والنظريّات الماركسية والاشتراكيّة وجميعها ركّزت على البرامج الاقتصاديّة وأهملت “خاصيّة الأرض والتفاعل والدورة الاجتماعيّة الاقتصاديّة”. ليعود إلى فكر سعاده الداعي إلى “الترابط بين الأمّة والوطن”، وهذا هو الثابت أي بين الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه، وبينه وبين الأرض التي يعيش عليها. غير أنّ هذا الإنسان لن يكون فاعلًا في محيطه ما لم يحصل على مستوى متطوّر من المعرفة والعلوم العصريّة. وهذا ما جعل الكيان الصهيونيّ متفوًّقًا علينا. فيخلص إلى الدعوة إلى “نشوء نهضة شاملة لكلّ نواحي الحياة” مرتكزة على مبادئ قوميّة اجتماعيّة صحيحة وعقليّة أخلاقيّة جديدة.
محاولات تصفية الصراع بحجّة التنميّة
هذا القسم دراسة للتيّارات الفكريّة التي واكبت الصراع الإسرائيليّ العربيّ. والأنظمة الفاشلة التي انتقلت من هزيمة إلى الأخرى، ثم تيّارات تدّعي الواقعيّة وتدعو إلى حلّ الصراع والتفرّغ للتنمية، وبعدها الحركات الأصوليّة الإسلاميّة. فيذكرُ أنّ هذه التيّارات جميعها خدمت المشروع الصهيونيّ أكثر ممّا ساهمت في مواجهته.
التنمية كأداة للمواجهة
يدعو الدكتور سبعلي في هذا القسم إلى “العصرنة والتطوير والتحديث والتنمية الشاملة ومواكبة التطوّرات العالميّة والانفتاح على العصر”. ولا يكتفي بهذا بل يدعو إلى إنتاج المعرفة والعلوم والتكنولوجيا.
ثم يشير إلى خطر المشروع الأميركيّ اليهودي، وخطر التكتّلات الإقليمية (إيران، أو تركيا) على الأمّة السوريّة. من هنا دعوته إلى ضرورة “بناء شكلٍ من أشكال التكامل والتعاون الاقتصادي بين كيانات المشرق العربيّ.
ليخلص في نهاية هذه المقالة إلى الدعوة إلى تلازم المواجهة والتنميّة في كيانات الأمّة جميعها. وهذه الدعوة “النهضويّة” هي من ثوابت الفكر القوميّ الاجتماعيّ.
المقال الرابع: مجتمعنا بين عقيدة أوباما وعقيدة سعاده
يعرضُ الدكتور سبعلي رأي الرئيس الأميركيّ أوباما في دول الشرق الأوسط وملخّصه أنّ مشكلة الشرق الأوسط هي القبليّة المتمظهرة في عودة المواطنين إلى الطائفة أو المذهب أو العشيرة أو القرية بعد أن يئسوا من دولهم الفاشلة. ثم يعرض رأي سعاده الذي يؤكّد أن المؤسّسات الدينيّة، والإقطاعيّة، وحتّى المؤسّسة العائليّة جميعها لا تصلح لبناء الأمّة لأنّها قائمة على الطائفيّة. وفي هذه الحالة لا يجد المواطن حقًّا عامًّا يستند إليه، ويساوي بينه وبين جميع مواطنيه. من هنا كانت مهمّة الحزب القومي السوري الاجتماعي إحداث نهضة في المجتمع. هنا إذن الثابت هو إحداث النهضة أمّا المتحرّك فهو الوسيلة المقترحة لإحداث هذه النهضة. فقد يكون ما اقترحه سعاده صالحًا لعصره، ولا يزال صالحنا في عصرنا الحاليّ، أو تخطّاه العصر. وهذا شرح لفكر سعاده.
وهنا يأتي الجديد الذي جاء به الدكتور سبعلي: “وإذا كان الواقع لا يزال كما هو بعد سبعة عقود، فهذا يضع أمام تلامذة سعاده مهمّة البحث عن أسباب عدم تغيُّر هذا الواقع. فهل العطل هو في الحلول نفسها، التي وضعها سعاده، أم في انحراف القيّمين على النهضة عن العمل لتحقيق الغاية التي أُنشِئت من أجلها، وتحويلها إلى حزب سياسيّ آخر؟” وفي هذا الكلام دعوة إلى العودة إلى جذور الحزب، ودعوة إلى تقييم نضاله تقييمًا موضوعيًا(ص91). ملاحظة: ليت الأحزاب جميعها تتلقّف هذه الدعوة وتضع نضالها وإنجازاتها على ميزان الموضوعيّة.
المقال الخامس: الغاية والمبادئ، ودور الحزب في تطوير الدولة والمجتمع…
يحدّد الدكتور سبعلي “الغاية النهضويّة للحزب”، ولكن الجديد في هذا المقال هو تساؤله: ” فهل يكفي أن يؤمن الأعضاء بالغاية بشكل حفظيّ، من دون أن تكون كلّ خطط الحزب متمحورةً حول تحقيق هذه الغاية، ومشدودةً إلى الاّتجاه الذي تحدّده؟”
ومن الجديد الذي جاء به الدكتور سبعلي هو الدعوة إلى تحويل مبادئ الحزب إلى خطط عمليّة وبرنامج سياسيّ واقتصاديّ ودفاعيّ وإداريّ وتنمويّ من خلال اقتراح مشاريع قوانين لكل منها، ومتابعة إقرارها وتنفيذها. ثم يعدّدُ المجالات التي يجب أن يطالها العمل النهضويّ: “مستوى الكيانات، والأحوال الشخصيّة، وقوانين الانتخاب، وقوانين الأحزاب، وصيانة الحرّيّات، وأنظمة التربية والتعليم وتوحيد المناهج التربويّة وتطويرها، والاستراتيجيّات الاقتصاديّة والتنمويّة”… وغيرها ممّا يجعل الأمّة السوريّة تواكب الحضارة الحديثة وتكون فاعلة فيها. (ص95-96) وهنا لا بدّ من القول إنّ الدكتور سبعلي رجل دولة بامتياز بطروحاته التقدّميّة والعصريّة والخلّاقة. يترفّع عن المناكفات السياسيّة، ويوجّه بوصلته نحو المبادئ والمسائل القوميّة والإنسانيّة.
المقال السادس: الحزب لا يكون حزبًا من دون فكر سعاده ومنهجه العلميّ المتجدّد، والنهضة الجديدة قادمة
يقول د. سبعلي “ونحن ندّعي أنّ نهج سعاده العلميّ الحاضن للتطوّر، يحتّم على الحزب ومؤسّساته وأعضائه، مقارنة الدراسات الجديدة مع مناحي العقيدة كافة، والمساهمة الجريئة إمّا بنقد تلك الدراسات الجديدة، وتقديم أفضل منها، أو بتعديل ما يجب تعديله، فيما لو كان هناك حاجة لذلك” (ص105)
إلامَ يقودنا كلام الدكتور سبعلي هذا؟ هو نظرة موضوعيّة إلى فكر مؤسّس الحزب. فسعاده حتمًا مرتبط بعلوم عصره ومعارفه. عندما تتجاوز العصور القادمة علوم عصر المؤسّس ومعارفه، يغدو تطوير العقيدة واجبًا. وهذا يؤكّد ما دعوتكم إليه من البحث عن الثابت والمتحرّك في الفكر القوميّ الاجتماعيّ.
ويدعو الدكتور سبعلي إلى ربط فكر سعاده بآخر ما توصّلت إليه الأبحاث العلمية الجديدة، بل ومراجعته في ضوء تطوّرات وأبحاث العصر. ويدعو أيضًا إلى تطوير العمل الحزبيّ، وآليّات الحزب، والرفقاء والقيادات، وتطوير عمليّة ومواصفات بناء الإنسان النهضويّ الجديد، وإضافة مجموعة من المهارات العلميّة الحديثة إلى جانب الثوابت الحزبيّة. (ص 108) وهذا يدعونا مجدّدًا إلى التفكير في الثوابت التي نبني عليها المتحرّكات، أي التطويرات المطلوبة.
المقال السابع: فصل الدين عن الدولة: من المعلّم بطرس البستاني والإمام الكواكبي إلى أنطون سعاده
يذكرُ سبعلي أن مسألة فصل الدين عن الدولة طُرحت قبل أن يتناولها سعاده. فيوردُ أسماء الكثيرين ممن تناولوا هذا الموضوع. ولكنّي هنا أريدُ أن أتوقّف عند استشهاده بمفكّرين: الأوّل فرنسيس مرّاش (مُثقّف حلبيّ) الذي طرح مسألة تحوّل مجتمع فسيفسائيّ إلى مجتمع مدنيّ موحّد. فدعا العرب إلى “محبّة وطنيّة منزّهة عن أغراض الدين”، وإلى إحلال “الرابطة الوطنيّة” محلّ “حبّ الملّة أو الرابطةِ الملّيّة”. (125)
والثاني شبلي شميّل الذي يقول: “… إنّ الدين هو عنصرُ تفرقة، لا بحدّ ذاته، بل لأنّ رؤساء الدين يبذرون الشقاق بين الناس..” ثم يُوردُ قولًا آخرَ للشميّل أيضًا: “… إنّ ما أضعف الأمّة، ليس الإسلامَ أو القرآن بل سلطةُ رجال الدين”. (ص126)
وهذان القولان متناقضان، ولكنّهما يعبّران عن فهم مختلف لمسألة الطائفيّة، وربّما للميثاق الوطني الذي ظهر بعدهما. فالمرّاش يعتبر “الرابطة الملّيّة” نقيض “الرابطة الوطنيّة”، وهذا غير صحيح. ذلك أنّ الانتماء إلى طائفة والاعتزاز به، هو إرث ثقافيّ دينيّ يدعو سعاده إلى احترامه. ما يجب نبذه هو التعصّب الطائفيّ لا الانتماء الطائفيّ. والدليل على ذلك المبادئ الثلاثة التي وضعها سعاده لهذه المسألة والمذكورة في هذا الكتاب (ص130):
فصل الدين عن الدولة
منع رجال الدين من التدخّل في شؤون السياسة والقضاء القوميّين.
إزالة الحواجز بين مختلف الطوائف والمذاهب.
فسعاده في هذه المبادئ لم يجعل الانتماء الديني نقيض الانتماء الوطني. وفي يقيني أن سعاده لم يرد منع رجال الدين من الكلام في المبادئ الأخلاقيّة التي يقوم عليها القضاء والسياسة، بل منعهم من التدخّل في الأمور الإداريّة والتنظيميّة، أو فرض المعتقدات الدينيّة على طريقة إدارة الدولة، أو جعل الدين منطلقًا للتشريع. وهو على حقّ. ورأي أن يؤخذ هذا بعين الاعتبار في الكلام على أيّ شكل من أشكال سوريا التي ستكون في غالبيّتها من دين واحد. الثابت هنا: فصل الدين عن الدولة، والحيادُ الإيجابيّ تجاه الدين.
المقال الثامن: مجلس تعاون المشرق العربيّ
يدعو سبعلي في هذ المقال إلى إنشاء “مجلس تعاون المشرق العربي”، الذي يبدأ بتطوير الكيانات الموجودة، سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا وتقنيًا واقتصاديًا، على قاعدة تعاونها وتكاملها عوضَ تقويضها وتفتيتها وترسيخ العداوات التاريخية فيما بينها. (ص81). وهو طرحٌ خلّاق يُبقي الثابت الذي هو قيام سوريا الطبيعيّة. أمّا كيفيّة تحقيق ذلك وآليّاته، وشكله فهي من المتحرّكات. ذلك أنّ فكرة الاتحاد مع الإبقاء على الكيانات تزيل الكثير من العقبات التي تُنتِجُها الدعوة إلى انصهار دول سوريا الطبيعيّة في دولة واحدة. فالإبقاء على الروح الوطنيّة التي يشعر بها أبناء كلّ من دول سوريا الطبيعيّة، يُسهم في خلق رابط قوميّ جديد يحقّق الغاية النهضويّة التي أرادها سعاده.
وفي الكتاب فصل حول هذا الموضوع عنوانه “حول الفدراليّة”. فيه مقال بعنوان “الفدراليّة والمشروع المشرقيّ”. يُعلنُ غاية هذا التجمع (التكامل الاقتصاديّ)، ووضع آليّة للوصول إليه، وعدمُ ذوبان الكيانات الحاليّة، وجعل هذا الكيان مقدّمة لتحقيق سوريا الطبيعيّة. واللافت في هذه الدعوة أنّ سبعلي جعل الثابت قيام سوريا الطبيعيّة، أمّا الكلام على الخريطة الجغرافية لهذه الدولة، وعلى القوميّة العرقية فهو من المتحرّكات التي لم تعد ممكنة في هذا العصر.
في خلاصة هذه المداخلة أعرض عليكم الثوابت التي استنتجتُها من كتاب “طروحاتٌ جديدة في الفكر القوميِّ الاجتماعيّ”. ثمّ أطرح بعض الأسئلة التي من شأنها أن تؤدّي إلى تحقيق هذه الثوابت.
المقال التاسع: الرتب والوظائف في الحزب
هذا المقال قفزة تجديديّة، تعصرن الحزب وتجعله ينافس الأحزاب العالميّة من حيث التنظيم والإدارة المسهّلةِ الوصولَ إلى الغايات الحزبيّة.
ثوابت الحزب، كما استنتجتُها من هذا الكتاب:
قيام سوريا الطبيعيّة.
مواكبة التطوّر.
مناصرة القضايا العادلة
الاستقلاليّة الفكريّة
فصل الدين عن الدولة”، مع احترام الإرث الروحيّ والثقافيّ للأمّة، وإقامة النظام المدنيّ الحديث، الذي لا يفرّق بين مواطن وآخر (الحيادُ الإيجابيّ تجاه الدين).
إحداث النهضة في المجتمع السوريّ.
التغيير الاجتماعيّ الجذريّ: بناء المواطن وتحديد قيَمه، وبناء المجتمع لتأمين وحدته.
الترابط بين الأمّة والوطن، أي بين الإنسان والمجتمع من جهة، والأرضِ من جهة ثانية.
تلازم مواجهة الكيان الصهيوني مع تنمية المجتمعات السوريّة.
بعد ثلاثة أرباع قرنٍ من النضال الحزبي أطرح عليكم هذه التساؤلات:
هل عدد المنتسبين إلى الحزب في أقطار سوريا الطبيعيّة هو في ازدياد، يؤشّر إلى إمكانيّة إحداث تغيّر إيجابيّ نحو قيام سوريا التي تريدونها؟ أم هو في تناقص؟ أم هو ثابت إلى حدّ ما؟
هل وضعتم آليّاتٍ ومشاريعَ تنفيذيّةً من أجل تحقيق الثوابت الحزبيّة.
هل أنتم الحزب النهضويّ المتجدّد الذي أراده الزعيم، أم أنتم حزب تقليديّ كأيّ حزب لبنانيّ آخر؟
هل درستم نتيجة نضالكم من حيث إحداث النهضة المطلوبة؟
هل دخلت القيادات الحزبيّة في آفة التسابق على السلطة؟
هل واكبتم التطوّر فطوّرتم الكوادر الحزبيّة، بما يلائم التطوّرات السريعة التي حصلت منذ نشوء الحزب حتّى يومنا الحاليّ؟
أين موقع بلدان سوريا الطبيعيّة من عصر المعرفة الحاليّ؟ وهل ولوجُ هذا العصر من همّ حزبكم؟
من المفترض أنّكم منتشرون في دول سوريا الطبيعيّة جميعها، ما الإنجازات التي حقّقتموها في تطوير شعوب هذه الدول؟ وهل مشروع سوريا الطبيعيّة مطروح شعبيًّا وسياسيًّا في هذه الدول؟
ما القضايا الإنسانيّة العادلة التي حشدتم قواكم الحزبيّة لمناصرتها، داخل دول سوريا الطبيعيّة أو خارجها، غير القضيّة الفلسطينيّة؟ وما كانت نتيجة نضالكم فيها؟
هل فكّرتم بطريقة أخرى لمواجهة العدوّ الصهيوني غير الحروب التي خسرناها جميعَها؟
هل لديكم آليّة واضحة لتقييم إنجازات الحزب؟
هل لديكم آليّة لمحاسبة القيادة الحزبيّة؟
هل تجدون أن الحزب اليوم لا يزال بحاجة إلى جناحٍ عسكريّ؟ ثمّ أليس الجناح العسكريّ في الحزب مخالفًا للقوانين، وفيه انتقاصٌ من سلطة الدولة؟
هل قدّم ممثّلوكم في المجالس النيابيّة، والوزاريّة، والوظائف العامّة صورة صادقة عن مبادئ الحزب التي تبشّرون بها؟
الخاتمة
لم يكن الدكتور سبعلي مجرّد شارحٍ لفكر أنطون سعاده، ولمبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي. بل كان خلّاقًا مطوّرًا الفكرَ القوميَّ الاجتماعيّ، مؤوّنًا إيّاه مع العصر الحديث، فجاءت الشواهد التي استعان بها الكاتب من مؤلّفات سعاده لتدعم طروحاتِ الدكتور سبعلي التجديديّةَ، فتُظهرَ الجديد فيها المبنيَّ على ثوابت تفكير مؤسّس الحزب. هذا هو أعظم جديد جاء به الدكتور سبعلي: تأوين العقيدة القوميّة، الإبقاء على الثوابت، مواكبة متحرّكات العصر.
لقد أخرج الدكتور سبعلي العقيدة من سجنها الزمنيّ، وجعلها كائنًا حيًّا متطوّرًا ذا ديمومة لا تدع الأزمنةَ تتجاوزها.
ملاحظة:
تجدون في كتاب د. سبعلى “طروحاتٌ جديدة في الفكر القوميّ الاجتماعيّ” إجاباتٍ واضحةً عن الكثير من الأسئلة التي طرحتها عليكم، وطروحاتٍ كثيرةً لعصرنة الحزب. قراءةُ هذا الكتاب ممتعة ومفيدة. أنّه من ضرورات العمل الساسيّ، وعلى كلّ حزبيّ، إلى أيّ حزب انتمى، أن يقتَنِيَه، ويقرأَه بإمعان.
“ندوة الكتاب القومي – مهرجانات العرزال 2022”