LOADING

Type to search

أنطوان..

موضوع العدد

أنطوان..

أسامة المهتار
Share

من الصعب أن تفصل بين ذاتك كرئيس تحرير، وبين مشاعرك الخاصة تجاه قريب لك، أحببته وأعجبت به طوال حياتك. أنطوان كرباج، الممثل القدير على المسرح وفي التلفزيون، هو أيضًا ابن خالتي، وأول حفيد لجدنا بوعساف إسبر كرم وزوجته هيلين أوكستد. ومع أن وفاته كانت أمرًا منتظرًا، نظرًا لعمره ووضعه الصحي، فإن غيابه لا يخفف من ألم الرحيل.

أول ذكرياتي عن أنطوان، ولعلني كنت في السابعة من عمري، كانت في التدريبات الصوتية، التي كان يقوم بها في بيتهم الصيفي في زبّوغا، مسقط رأسه، ومسقط رأس بو عساف، وأولاده الستة، عسّاف وسلمى وإيراساما (أم أنطون) وسيريا (والدتي) ونهرا وبشارة. الثلاثة الكبار، عساف وسلمى وإيراساما ولدوا في البرازيل، حيث اغترب جدي، وهناك تزوج من هيلين السويدية الأصل، وأتوا جميعا إلى لبنان سنة 1914. أمّا الثلاثة الصغار فولدوا في لبنان، وقد سمّى جدي والدتي “سيريا”، مواليد 1915، تيمنًا ببلاده سورية، والتي كان جبل لبنان جزءًا منها.

نعود إلى أنطوان والتدريبات الصوتية. كان ينام على ظهره، ويطلب من الموجودين وضع المساند الثقيلة المصنوعة من القش على صدره، ويبدأ بقراءة كتاب “هنيبعل” لجورج مصروعة بأعلى صوته، بحيث كان أبناء “الضيعة” في القاطع الآخر، يسمعونه وهو في “العرابة”. أما سبب التدريبات فكان التحاقه بفرقة “المسرح الحديث” ومديرها المبدع منير أبو دبس الذي كثيرًا ما كان يزور أنطوان في زبوغا. كان يتدرب لوقت طويل، ولعل الصوت الجهوري الذي امتلكه يعود إلى تلك التدريبات. ومنذ البدايات، كان أنطوان يحب الاتقان في عمله وهذا ما أوصله إلى النجاح الكبير الذي بلغه.

كان أنطوان متين الجسم قوي العضل، وقد حافظ على ذلك حتى النهاية. كان الشباب يلهون برفع المحادل والأجران الحجرية والمِخْلُ المعدني. لم يكن هناك من يقدر على شيل “القَيمَة”، المحدلة البيضاء الكبيرة، التي كان أنطوان ينترها ويرفعها فوق رأسه. مع قوته العضلية، وصوته الجهوري، وبالرغم من الشخصيات القاسية أو الإجرامية التي لعبها على المسرح، كان أنطوان من أكثر الأشخاص تواضعًا، وأحنّهم علينا، نحن الصغار من أبناء خالاته وأخواله. هذه الصفات رافقته طيلة حياته.

من الذكريات الأخرى، والتي لا شك أنها ساهمت في تكوين شخصيته المتواضعة، ليالي المعصرة و”شيل الكشك” وتحويش الزعتر، ثم تنشيفه ودقه و”سطح” التين، وصنع المربيات في الهواء الطلق، التي كنا نتشارك بها كبارًا وصغارًا إما في بيت جدي، أو في بيت أم أنطون وزوجها الطيب الحنون، شكري كرباج. فقد كان لبيت خالتي معصرة عنب، وكنا نذهب في شهر أيلول “لدعس” العنب الذي نقطفه من كرم “ضهر الشيارة” تمهيدًا لصناعته دبسًا. بعض ما تسرب إلى نصوص مسرحياته، مثل اسم “حفيظة” و”بو ميزان” و”دير شمرا”، هي من إرث تلك الأيام. بعض مشاهد مسرحياته مقتبس من حكايات سمعناها من جدنا المغامر بو عسّاف.

لا أذكر فرقته المسرحية التي ألّفها من أقربائه وأصدقائه في زبوغا والتي تحدث عنها في أكثر من لقاء، ولعلها كانت قبل ولادتي. ولكني أذكر كم كان يحب رقص الفالس، و”الباسادوبلي” الأسبانية، وكيف كان يراقص أخته الوحيدة وأخواتي حين كنا نزورهم في بيتهم المتواضع في عين الرمّانة.

لن أتكلم عن قيمته الفنية، فهذا ما سيكتب عنه كثيرون. أريد لهذه الكلمات القليلة ان تلقي الضوء على تلك النواحي الحميمة من حياته. انتمى أنطوان إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي في الخمسينات من القرن الماضي، ولكن عمله الحزبي النظامي، على ما أعرف، توقف مع الانقلاب الفاشل سنة 1961. حين اندلعت الحرب الأهلية في لبنان سنة 1975، لم يترك أنطوان منزله في الأشرفية. ويبدو أنه تعرض لبعض الانتقادات من مسرحيين انتقلوا مما كان يعرف بالمنطقة الشرقية إلى الغربية. زرته في الأشرفية سنة 1982، بعد الاجتياح الإسرائيلي، فأتى على ذكر تلك الانتقادات قائلا: “لماذا يطلبون مني مغادرة بيتي؟ أنا لا أتدخل في شؤون غيري، ولكني لن أغادر.”

في مسرحية أبو علي الأسمراني، والتي كانت من أكثر المسرحيات نجاحًا في تاريخ لبنان، كان أنطوان بحاجة إلى كومبارس. اتصل بي أخوه الصغير عسّاف، الذي شاركه في أكثر من عمل، قبل أن يتوفى وهو في عزّ الشباب، وسألني إذا كنت أرغب بالمشاركة في المسرحية، وإذا كان بإمكاني جمع بعض الأشخاص من منطقة رأس بيروت ليلعبوا دور المتظاهرين. وافقت على الفور واتصلت ببعض الأصدقاء، وأصبحنا فرقة الصخب على المسرح. ولكن ليست هنا العبرة. العبرة هي في أن تكون على المسرح في ثمانية حفلات أسبوعيًا ولمدة ستة أشهر مع كبار مسرحيي ذلك الزمن، مع أنطوان ونضال الأشقر وفيليب عقيقي، وسليمان الباشا، وسامي مقصود، وليلى كرم، ورفعت طربيه، والمخرج الكبير بيرج فازليان، وسواهم الكثير ممن لم أعد أذكر أسماءهم. ذكريات تلك الأيام، والدروس التي تعلمتها من كل واحد وواحدة منهم، لا تنسى. طبعًا، كان أنطوان عماد المسرحية، فهو منتجها والأب الروحي للفرقة. كان أول من يحضر من الممثلين، وآخر من يغادر، وكان التواضع سمته.

فيض الذكريات هذا، يعود بي إلى أيام بسيطة، قبل ان تدخل الكهرباء ومياه الشفة قريتنا الوادعة زبّوغا. كنا نضيء بالسراج والقنديل قبل أن يدخل “اللوكس” إلى القرية. كانت السهرات جميلة تغمرها المحبة. أيام مضت ولن تعود. أيام لم يبق منها سوى ذكرى أحبة نفتقدهم، أحبة سبقونا إلى ذلك المجهول.

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
Set Youtube Channel ID
LinkedIn
Instagram0

2 Comments

  1. Avatar
    Hussein Bazzi 17 مارس، 2025

    إرث فاق العمر بسنوات ..يصعب الحديث عن قامة مثل انطوان كرباج ..من المسرح الى السنما الى التلفزيون .شريط طويل من الاعمال الثقافية والمسرحية والتي ليس لها محطة للتوقف ..لم التقيه ابدا في زمني انطوان كرباج هو بربر اغا صوتا وصوره ..شخصية قويه وبنية جسدية فاقت التوقعات هذا ما عرفت عنه من اقاربه وعرفت ايضا ان لضخامة هذا الرجل قلب طيب وتسامح في صدره وحب قل نظيره ..بعد خبر رحيل انطوان كرباج تقلبت على عجل في جميع اعماله ومسرته العملية فلم اجد عملا واحدا مستفزا لاحد وهذا دلالاة عظيمة وارث صادق لشخص احب الناس وفاق التوقعات باعماله ..

    رد

Leave a Comment Hussein Bazzi Cancel Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.