سوريا وألغاز الجيوبولتيك القادمة!
Share

إذا كان التوصيف المادي لهذا الدخول إلى سوريا بهذه الطريقة هو قوة مشاة، وماهيته القانونية التاريخية مازالت غامضة، هل هو اتفاق أو تسليم أو خدعة، فإن خلفية المنتصر المرتبطة بالغرب والخليج وتركيا، تمويلاً وتسليحاً وتحت إشراف أمني وسياسي تركي مباشر، تتحدث عن العقلية التي ستدير تداعيات الجيوبولتيك القادمة.
هل تخلت روسيا عن موقعها في شرق المتوسط؟ وما هي المصالح البديلة؟ هل هي بعض الحقوق والامتيازات والقواعد العسكرية وبرعاية تركيا الناتو؟ سيكون هذا مشهدا غريبا حقاً. وإذا كانت روسيا قد تعرضت لهزيمة في شرق المتوسط، فستكون هذه هي المرة الثانية التي تخرج فيه من المولد بلا حمص.
حصلت المرة الأولى عندما كانت روسيا شريكة بريطانيا وفرنسا في اتفاق سايكس بيكو 1914 وخرجت منه بهندسة ألمانية ودهاء انكليزي، عندما انتقل لينين إلى روسيا بجواز سفر مزيف وبدأت الثورة السوفيتية، فتوقفت أعمال الحرب على الجبهة الألمانية- الروسية، ووجهت ألمانيا عنايتها إلى الجبهة الفرنسية وارتاحت من جبهة روسيا القيصرية، واستفردت فرنسا وبريطانيا بالهلال الخصيب.
تعلم روسيا أن بقاء قاعدتين عسكريتين في سوريا لا يعني شيئاً. فقابلية تشكيل فصيل انكشاري لا يعلم أحد مرجعيته يقوم بالهجوم على القاعدة الروسية، لنشاهد منظر الجنود الأمريكين في افغانستان يتكرر في سوريا، أمر طبيعي يعني لأمريكا الكثير.
وقعت تركيا ومصر منذ عدة أشهر، اتفاقاً غامضاً للتعاون المشترك، ونستطيع أن نقدر أن مصر ابتلعت الطعم التركي مع تملك الاسلام الجهادي التركي في سوريا؟ وعلينا ألا ننسى أن الجولاني يعتبر الظواهري (وهو صوت أمريكا في مصر) مرجعيته الجهادية.
نعم تركيا مزقت اتفاقيات الحرب العالمية الاولى التي حرمتها من أراضي أمبراطوريتها في الهلال الخصيب. وتركيا منذ تأسيسها الجمهوري (وبغض النظر عن عقائد القائمين عليها ومن ينقلب عليهم برعاية أمريكية) تنادي بضم حلب والموصل، ومنذ فترة اكتشفنا أن السيد أردوغان يعرف الطبقة أيضا! وحاليا أمام تركيا عقدتا الجزيرة السورية والحضور الكردي فيها، والسيطرة على جموح الجماعات المرافقة للجولاني,
بالنسبة إلى العقدة الأولى تملك تركيا وأمريكا ورقة داعش التي ستساعدها على حل الكثير من المعضلات مع الأكراد والعراق، وسنكتشف ساعتها البعد الحقيقي لضرورة استمرار معسكر الهول وقاطنيه، أما جموح الجماعات المرافقة لنصر الجولاني وخاصة بما يمثلونه من أجانب، فهم الجانب الخطر من التجربة التركية القائمة الآن في سوريا، فهؤلاء بالتأكيد لا يمثلون إسلاماً أممياً بريء الغايات ولمرجعية موحدة القيادة.
بمقدار ما هي مهام تركيا في سوريا غامضة وكبيرة، هي أيضا مهام خطرة في الوقت نفسه، فكيف يستطيع التركي ايجاد التوازن بين أوروبا وطلباتها وامريكا وما تريد وروسيا المبهمة الموقف منذ تاريخ 8-12! هل يستطيع التركي طمأنة مصر والسعودية باعتباره حقاً أصبح يملك مفاتيح المنطقة؟.
لو كنت مسؤولاً تركياً وصادقاً أمام نفسي وشعبي، فسوف أشعر بهول المهام الجسيمة وقذارتها وقد وقعت على كاهل تركيا.. واسأل نفسي هل تركيا أمام فخ دولي ما؟ ألم ترتدي سوريا حجماً دولياً هائلاً وخطيراً يتجاوز حجمها المقرر في الحرب العالمية الأولى والاستقلال قبل سقوطها بتاريخ 8-12؟
لنضع الأسئلة الصعبة جانبا ولنتذكر كيف وصف البعض الدخول السهل لهيئة تحرير الشام إلى حلب، بمعركة مرج دابق التي انتصر بها العثماني على المملوكي، وهو توصيف سلس ومباشر ولكنه قاصر وطفولي. ان فهمنا للتاريخ وأمثلته محكومٌ للاسف باستحضارات بسيطة كمن يخرج بذرة المشمش من داخلها، وهذا جزئي وبعيد عن الحقيقة.
أثناء الصراع الحثي (شمالا) والمصري (جنوبا) على بلاد الشام وقعت معركة عام 1274ق.م في منطقة قادش القريبة من حمص، نتج عن هذه المعركة معاهدة بين الطرفين لتقاسم النفوذ قي بلاد الشام، ومازالت هذه المعاهدة حتى يومنا هذا مدار خلاف في دراسات المؤرخين حول تحديد الطرف المنتصر فيها أمام ادعاء الطرفين للنصر(رغم أن المهزوم واضح، إنهم السوريون من أهل البلاد) فالمعركة مبهمة بنتائجها والواقع الداخلي للدولتين في ذلك الوقت مناسب لاستمرار الصراع، ولكنهما توقفتا عند تلك المعركة وكانت المعاهدة، بينما جاء الخطر المدمر لعقود لاحقة في زحف شعوب البحر 1200ق.م والتي أنهت الامبراطورية الحثية وبالكاد (كالعادة) انقذت مصر نفسها وأصبحت بعيدة عن التأثير في واقع سيطرة شعوب البحر على بلاد الشام. الفارق الرئيسي عن يومنا هذا أن المعركة في المنطقة الوسطى (حمص) لم تجر، وبالتالي هذا لا يعني أنها لن تكون، بل سوف تكون حكماً وهي مؤجلة حالياً، وقد نعلم جزءا من الشروط التي تستحضرها. وأستطيع الادعاء أن من يعتقد بسيطرته على سوريا دون خوض هذه المعركة وسواها قد وقع بكأس الغرور والكبرياء الفارغ.
هل مزق أردوغان اتفاقية لوزان؟ .. بالتأكيد من يملك الجواب الدقيق هو روسيا والصين وبالتأكيد أمام مصر قليل من الوقت قبل أن تصل الامواج التي ستخوض صراعاتها الخاصة في المواقع السورية الجغرافية.
العدو الاسرائيلي ليس لغزا
لمن لا يقرأ عليه أن يعلم أن قصة الثورات في التاريخ الحديث هي عبارة عن مؤامرات خارجية بأغلبيتها القصوى تنتج على صراعات كبرى تتدخل في شؤون الدول لخلق فرص جديدة في الصراع الدولي، وأنه من النادر جدا أن تحصل أي ثورة نتيجة ظروف داخلية خاصة ولكن سرعان ما يتدخل بها الجميع.
ولأن تاريخ الثورات هو مؤامرات خارجية بالمبدأ تجد أن جميع الثورات الكبرى تشترك بنتائجها الاولية بتدمير الأسلحة التي تشكل تهديدا لصانعى المؤامرة. فمراجعة بسيطة لتاريخ الثورة السوفيتية تكتشف فيها أن ما خسرته روسيا من قوتها الحربية هو في سلاح البحر وضباطه، وهي قوة دأبت القيصرية على رعايتها لتحمي مصالحها العالمية مما جعلها تشكل خطرا على بريطانيا وألمانيا في بحر البلطيق بالتحديد، وقد استمر استنزاف سلاح البحرية في روسيا حتى وصول ستالين الذي قمع هذا الاتجاه في الثورة وبل أيضا اعتمد على ما يسمى الجيش الأبيض (القيصري) في تحقيق بعض المصالح القومية لروسيا وليس الاممية.
الثورة الفرنسية أيضا كذلك، كان سلاح البحرية هو قصتها الحزينة في إعدام آلاف ضباط البحرية والاستغناء عن القدرات البحرية العسكرية التي احترق بعضها وبيع بعضها الاخر. لقد ضعف اسطول فرنسا إلى الحد الذي جعل اسطول نابليون في أبي قير مصر وهو المتفوق في العدد والسلاح يخسر ببساطة أمام الأسطول البريطاني المتواضع، والسبب النقص الهائل في الخبرات العسكرية البحرية الفرنسية في ادارة السلاح البحري رغم مرور 9 اعوام على اندلاع الثورة الفرنسية، ويمكن لمن يريد التوثق مراجعة كتاب “الجيوسياسة كيف تصنع؟” لـ نيكولاي ستاريكوف، أو يقرأ أي كتاب عسكري عن الأخطاء الفرنسية المرتكبة ليعلم أنها اخطاء تدل عن ضعف في الفن العسكري البحري.
إن قضية تدمير اسرائيل لسلاح الجو السوري ودفاعاته ومستودعاته مع لحظة سقوط الدولة السورية هو أمر طبيعي ومتوقع. ببساطة وبالخلاصة جميع من دفع لهذه الثورة كي تنجح يملك فاتورة واضحة لا بد لها أن تنفذ، فالذي دفع المال والسلاح لا يهمه شكل الدولة التي سوف تقوم ولا عقيدتها السياسية ولا شعاراتها ولا نظامها الاقتصادي إلا بما يرتبط بتنفيذ بنود الفاتورة حرفيا.
إن قضية تدمير اسرائيل لمقدرات الجيش السوري باعتبار العداء لتوجهات هذا الجيش وسلاحه هو الجانب الظاهر من الموضوع، وثمة جانب مبطن أيضا! ولا بد أن نطرح لغزا يفكك جزءا من المعضلة، فما هو أفضل أو أسوء سيناريو يحصل في سوريا بالنسبة إلى اسرائيل؟ الأسوء أن يتم تقسيم الدولة ضمن صراعات ويصل السلاح إلى يد احد الأقسام التي قد تستخدمه بلحظة جنون على هدف غير مرغوب، والسيناريو الأفضل اسرائيليا هو دخول الجميع في حالة اقتتال داخلية لا تنتهي فتضمن اسرائيل أن الاقتتال سيكون بمستوى متدن من نوعية السلاح.
يدل الاحتمالان على رغبة اسرائيلية باشعال الوضع الداخلي في سوريا لتبقى سياسة القضم والضم مستمرة ضمن حدود الفاتورة الواجب دفعها.
ثمة جانب مبكي لما يتم التسويق له اعلاميا ويمر دون أي نقاش عاقل باعتباره كلاما لا يناقش، فكيف يجوز الاستنتاج التالي (لأننا قطعنا صلتنا بايران وحزب الله لن نشكل تهديدا لدول الجوار ولم يعد مبررا أن تعتدي علينا اسرائيل) إن اعتداء اسرائيل على سوريا قضية قائمة منذ تأسيس دولة اسرائيل، لا بل أن الدول المطبعة مع اسرائيل كمصر مثلا تستنزف اقتصادها عسكريا وأمنيا لحماية وضع مصر وجغرافيتها بالنسبة إلى اسرائيل. ربما وحده صاحب شعار قوة لبنان في ضعفه من يستطيع أن يشرح لنا خبل المقاربة اعلاه.
المثير للسخرية السياسية أن هذا المنتصر، وبما يمثله الآن كارهابي باعتراف دولي، وبحسب تصريحاته الأولى في دمشق أن له اتصال مع الكيان العدو لسوريا والتي يحكمها أيضا (اسرائيل) شخص مصنف أنه مجرم حرب! فهل ثمة سهولة في عقد الصفقات وتمرير المصالح بين إرهابي ومجرم حرب برعاية دولية؟ وثم يمنح الإثنان عفوا دوليا وجائزة نوبل للسلام لقرارات شجاعة قادمة في مسرحية غير مألوفة على حساب الشعب السوري وشعوب الجوار؟ ارهابي ومجرم حرب إنها اعلى أشكال البزنس للشركات العابرة للحدود؟.
Great article with deep analysis