“العدالة الانتقالية” انتقائية بتسميتها!
Share

دَرَجَ عَلى لِسان الكَثيرين، وَفي وَسائل الإعلام وَوَسائل التَّواصل الاجتِماعيّ، خِلال الأشهر الماضيَة في سوريا وَحولها، تَعبير “العدالة الانتقاليَّة” ثمّ بدَأ تِكراره بصورة جعلت منه “مسلمة” ما من مسلمات العلوم القانونيَّة، فهل هو كذلك؟! أم أنَّه ابتكار يَعبِّر عن هذه المرحلة السّياسيَّة، وَيكشِف بعضا من آليات عملها، حتّى من خلال سعيه الدَّؤوب للتَّغطية على كثير من الأمور!! أوَّل ما يَتبادر إلى الذّهن في مُعرض التَّعليق على هذه المسألة، هو السؤال لماذا تكون العدالة “انتقاليَّة” وَما معنى ذلك على كلِّ حال؟! يمكننا أن نستنتج مصدر المصطلح المأخوذ من الكلام عن “مرحلة انتقاليَّة” أو “سلطة انتقاليَّة” ومن هذه الزاوية يمكن البدء بمقارنة المعنى والمقصود، فالسلطة أو المرحلة عندما تكونان انتقاليتين، فهما أولا تفصلان فصلا يتخذ طابع الانتقال /من وإلى/ بين مرحلتين سياسيَّتين أو سلطتين مختلفتين، فتقومان بدور الانتقال المرن بين متناقضين أو لنقل مختلفين على الأقل. وثانيا تكونان محدودتين بالصلاحيات والمساحات، وذلك بالضبط لأنهما مؤقَّتَتان.
فهل يصح أن تكون العدالة “مرحلية” و”مؤقتة” و”محدودة”!؟ أم أنَّها يجب أن تكون دائمة ومستدامة ومتراكمة المعنى والأثر؟!
ثم هل هناك مراحل متباينة من العدالة، حتى نقبل بوجود “مرحلة وصل بينها”؟!
أم أنَّ العدالة واحدة، وهي يجب أن تكون ببساطة ومن دون مقدمات أو لواحق لغوية تضفي عليها معانٍ غير عادلة أساسا، فهي عدالة فقط، دون زيادة أو نقصان!
بالانتقال إلى ما يجري حقيقة على الأرض، من النّاحيتين الأمنيَّة والسّياسيّة، قد يظهر لنا أنَّ اللّجوء
لمثل هذه الابتكارات اللغوية ذات الطّابع السّياسي، هو أمر يحاول التبرير للكثير من الأخطاء التي طغت على المشهد السوري الاجتماعي والسياسي، حيث شكلت ظواهر الانتهاك والجرائم شبه المنظمة وصمة الفترة السياسية التي بدأت مباشرة بعد أن تم انقلاب السلطة السياسية في دمشق مطلع كانون الأول ديسمبر قبل نحو ٣ أشهر، فالأخبار التي تصلنا من الداخل السوري، والتي تتزاحم وسائل الإعلام على نقلها، تعرض للعالم حالة من الفوضى والتأزم، وعمليات الانتهاك اليومية ليس فقط لكرامة وإنسانيَّة الكثير من السوريين، ولكن أيضا للكيان
السوري كدولة وكمجتمع، من قبل الكثير من الأطراف الداخلية والخارجية، كالميليشيات المتمردة في الشرق والجنوب والشمال، إضافة لإسرائيل والولايات المتحدة وتركيا، فيما يتفرغ الناطقون باسم الفصائل المسلحة التي سيطرت على دمشق وبعض المدن السورية، للحديث عن “العدالة الانتقاليَّة” وهم يصبون جلَّ جهدهم وتحريضهم على الدولة السورية السابقة، بمؤسساتها وقياداتها وحتى المتعاطفين معها، في محاولة مستميتة لشيطنة كل تلك الأطراف.
هذا السّعي لشيطنة كل ما سبق يوم الثامن من ديسمبر ٢٠٢٤، يحمل في طياته تعطُّشا كبيرا للشرعيَّة، ورغبة عارمة بالحصول عليها بأقصر الطرق، أي ليس من خلال بناء الحاضر، ولكن من خلال هدم الماضي. بصراحة هذا الأمر مفهوم جدا بالنسبة لأي دارس اجتماعي عندما يصدر عن فاقد للشيء.
تنطوي حمى الشيطنة هذه على عدد من المضامين الخطيرة جدا على صحة وتعافي المجتمع السّوري، لا بل إنها تتسبب له بالكثير من الجراح الغائرة، وخاصة من خلال ضغطها على مشاعر السوريين بقسوة شديدة. ضغط سيكون له عدد كبير من الآثار الكارثيّة، سنعرض بعض ملامحها هنا.
إن وجدان الشريحة الأكبر من السّوريين يقع تحت الضغط العنيف، حيث سحبت من معظمهم ركائز اجتماعية وسياسية عميقة، ما كان يفترض بهم أن يخسروها، خاصة وأنه لا يوجد مبرر لذلك، كما أنه بالأساس عمل تخريبي عميق على مستوى الوعي الفردي والجماعي، فالعلم الوطني بكل رمزيّته شبه المقدسة بالنسبة لهم، تم شطبه ليس حتى بجرة قلم، ولكن برصاص بندقيّة. والجيش الذي كان بالنسبة لمعظم السوريين، هو نقطة الإجماع الأخيرة، والحالة الرومانسية الوطنية التي يلجؤون لها، لما فيها من قيم التضحية والحماية ضمن أسوأ الظروف، وبمقابل بخس كان يحصل عليه عناصر وضباط ذلك الجيش، وهم يسهرون على حماية المدن والبلدات والمنشآت في أقسى الظروف المادية والمعنوية، فهم كانوا يمثلون ذروة معاناة السوريين جميعا، بينما يتكئ عليهم المجتمع ومؤسساته ليتابع شيئا ما من حياته الطبيعية.
عشرات آلاف عائلات الشهداء تم سحب شرف وقيمة الشهادة منهم، أيضا بصلية من رصاص رشاش منتقم، فلم يعودوا شهداء، لا بل وصار لزاما على والد الشهيد او أبنائه أن يزيلوا صورته الرمز من على جدران منازلهم، أو من فوق شرفات الأبنية ونواصي الطرق التي كانت تزدان بها، كشاهد على عصر قدم فيه هؤلاء المواطنون أرواحهم وفلذات أكبادهم في معركة سياسية لم يكونوا يفهمون منها إلا اندفاعهم للقتال حماية لبلدهم ومؤسساتهم، بعيدا عن مكائد السياسة الدولية، التي قامت بنجاح بتقسيم السوريين إلى أعداء قاتل بعضهم بعضا بشراسة، فيما كانت دوافع جلهم وعلى كلا طرفي المعركة، دوافع حماية النفس والمجتمع والبلد، بطريقة أو بأخرى، بينما ينعم اليوم بعضهم القليل بصفة الشهادة، ويحرم جلهم الكثير منها، بقوة “العدالة الانتقالية”.
مراكز التسوية والمؤسسات الرسمية تحفل بممارسات عنفية في اللفظ وفي السلوك، أيضا تنال بقسوتها من قسط كبير من مشاعر السوريين الذين لم يكن لهم ذنب، سوى أنهم كانوا مواطنين في دولتهم، وأدى كل منهم دوره كما استطاع وحيث كان، واليوم يقال له أنت “مذنب” أو “شريك في الجريمة” التي لم يرتكبها، وليس أساسا متأكد من حدوثها، خاصة وأنه لم تحدث أي محاكمات لما سمي “جرائم النظام السابق” في حين أن أبسط قواعد العدالة القانونية، تقضي ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته بالمحكمة، فما بالكم بالملايين يدفعون ثمن تهم لم
تثبت بعد، لجرائم قد يكون ارتكبها عشرات أو مئات منهم، ثم يساقون كلهم بالترهيب للإقرار بها، وللتنكر لماضيهم وشتمه، دون أي محاكمة أو إعلان واضح عن مرتكبيها المفترضين، ثم البدء بالسعي لاعتقالهم. وإذا أضفنا لذلك عددا كبيرا من الذين قتلوا في حملات التفتيش والاعتداءات على أحياء ومدن وقرى، بصورة خلت من أي شكل من أشكال الانضباط وتطبيق القانون، وفي مقابل عدم حدوث أي رد فعل لمحاسبة أي من مرتكبي تلك الجرائم، لا بل إن جوا من التبرير والتلفيق أحاط تلك الانتهاكات، من قبل كل المتحدثين من الداخل السوري من “صحفيين” و”إعلاميين” ورسميين، يصرون على تصنيف هؤلاء الضحايا المظلومون بأنهم “فلول للنظام السابق” إذا أضفنا كل ذلك نحصل على جرعة مضاعفة من الضغط على السوريين.
في هذا السياق المحموم لشيطنة الماضي، يقف المجتهدون والصادقون من أبناء الدولة السورية، موقف الأسير الذي يُجبر على الاعتراف بما لم يقم به، ويفرض عليه الإقرار بأن كل جهوده المخلصة، وانجازاته في الحقل العام أو حتى الخاص، والتي نزفها في أقسى ظروف الحصار والعقوبات والترهل والفساد، كانت “خدمة للديكتاتور وأعمالا عدائية للثورة”! إن أقسى ما في ذلك، ليس فقط ضغطه على مشاعر السوريين، ولكن خسارة وتضييع جهود الشرفاء والمخلصين والمبدعين منهم، فقط لأنهم لم يكونوا في الشمال، في حين أنهم هم الحقيقيون الذين كانوا يعضون على جرح الوطن بنواجذ الصبر والعزيمة والوفاء. كما أن جيشا من المنافقين بدأ يتشكل بالتحديد منذ إسقاط السلطة السياسية السابقة بتفاهم دولي بقي مريبا حتى الساعة، وغير واضح المعالم، برغم أنه بدأ يتمظهر من كييف في الأيام الأخيرة. هذا الجيش من المنافقين قوامه من السوريين العاديين، الذين لا يمتلكون
الحصانة النفسية الكافية أو الظروف الاقتصادية والأمنية الممكنة، والتي تمكنهم من الوقوف ولو بصمت في وجه قعقعة السلاح والتسريح من العمل.
إن المعركة في سوريا لم تكن بين الحق والباطل، حتى يتم وضع طرف كامل منها في خانة الشيطان، وهو الطرف المهزوم عموما، ولكنها كانت معركة سياسية بين رأيين وتوجهين، تمكن أحدهما من هزيمة الآخر ضمن سياق دولي واضح برغم تفاصيله الغامضة، ولكنه وبمعزل عن امتداده الدولي، وحتى القرار الخارجي فيه، يبقى نزاعا سياسيا حسم لصالح طرف، كان عليه التصرف من خلال هذا الفهم مع نتيجة المعركة. فكما كان الطرف المنتصر يطالب قبل ذلك بأن يتم الاعتراف به، ويدين سياسة الرأي الواحد لدى السلطة السياسية السابقة، كان لزاما عليه هو، وحتى يثبت أنه ليس مجرد انعكاس عن سلطة كان يحاربها، كان لزاما عليه أن يقر بوجود تيار سياسي واسع آخر، وليس مجرد “خونة عليهم الاعتذار والكفر بماضيهم وبكل ما فعلوه وقدموه، حتى من دماء وأرواح”.
أخيرا يجب إدراك حقيقة أن الإصرار على سحب شيطنة الصراع السابق على اليوم، تضع السلطات الحالية في متاهة عدم القدرة على الركون لمكونات متداخلة في مشهد الرياء والنفاق، الذي كانت هي من دفعهم إليه، كما أنه لا بد من أخذ مشاعر السوريين الإنسانية والوطنية بعين الاعتبار، من أجل عدم دفع المجتمع لتقية العداء المستتر لدولة جديدة لا بد من أن تتشكل، وليس من مصلحة أحد أن يتم تشكيلها فوق قيح الضغائن والإحساس بالغبن والمظلومية، فالعدالة الانتقالية انقائية حتى باسمها، وهذا يجعل منها عملية انتقاميّة فحسب، وحتى يثبت العكس.