الجولان وكامل الجنوب في الكيان الشامي.. مقدمات الضياع “2”
Share

يشرح مشهد 8-12 يوم سقوط دمشق، الكثير من واقع سوريا القادم، فإذا وضعنا أجندة الإعلام الغربي والعربي في تشويه سمعة رئيس الدولة والمؤسسات السورية، دون أن يكون لكل هذه الأجندة والضخ الاعلامي أي صياغة قانونية في القانون الدولي، كقرار يضع الرئيس والدولة كمجرمي حرب في المحكمة الجنائية الدولية أو محكمة العدل الدولية، فإننا نجد أنفسنا بعد 8-12 أمام انتقال السلطة إلى شخص وتنظيم وفصائل تم توصيفهم كمجرمين بنصوص قانونية وقرارات دولية، وفي تشريعات الدول العظمى والإقليمية وبشكل واضح لا لبس فيه أو رأي أو أجندة.
بصيغة أشد وضوحاً، تم استبدال نظام سياسي له مؤسساته وعلاقاته الدولية المعترف بها (يعتبر مجرماً بالتحليل والرأي الخاص القابل للنقاش) بمجموعة من التنظيمات يقودها وعلى رأسها شخصيات مصنفة كإرهابيين وخارجين عن القانون الدولي (كحقائق غير قابلة للنقاش). ومعضلة هذه النقطة أن الإرهاب الذي تتهم به هذه الجماعات لا يتعلق بسلوكها في الحرب السورية عبر 14 عاماً، بل يتعلق أيضاً بسلوك شخصياتها ومقاتليها المتورطين بالقتل والدماء في الكثير من دول الجوار، كالعراق وليبيا ولهم ملفات جرمية في دول كمصر والشيشان وافغانستان وتونس والصين وروسيا والاتحاد الاوربي.
تشرح هذه الحالة القانونية التي وصلت إلى السلطة نوعية العقلية القادمة في معالجة الكثير من الملفات القديمة في سوريا أو التي ابتكرت بعد تاريخ 8-12 كمثل ما سمي العدالة الانتقالية، ويجدر بنا الانتباه إلى اللعبة القذرة التالية: تم وضع قانون قصير (طبعاً ببركات بعض السوريين الأمريكيين) لحصار نظام “يوصف” بأنه مجرم في الإعلام ولكنه يقاتل منظمات مصنفة إرهابية بالقانون الدولي المكتوب! إذاً، الإرهاب يجب أن ينتصر.
إن تعقيد هذه الحيثية القانونية “صفة إرهاب” يستدعي الاستنتاج أنه حتى لو استطاعت الجماعة الحاكمة بناء دولة مقبولة من المجتمع السوري (ومن المنطقي أن لا يكون هذا الأمر من مشاغل هذه المجموعات) تبقى حيثية وضعهم القانوني أمام الدول الكبرى أمر سيخضع للمساومة، فالغرب والشرق لن يرفع عنهم صفة الإرهاب ويغلق هذا الملف بناء على طبيعة الدستور القادم أو الحوار الوطني أو سلوكهم الداخلي الحسن مع الأقليات (كما يروج البعض)، بل على استعدادهم للتنازل على ثروات سوريا وقضاياها الخارجية.
إن مشكلة سلطة دمشق في ملفها الجنوبي (درعا – القنيطرة – السويداء) هي أنها ذات طبيعة مشابهة لمشكلتها في الجزيرة السورية (قسد) وهي قد تكون في القادم من الأحداث أمام واقع مستجد وشبيه في الساحل السوري، هي مشكلة تنبع أولاً من تاريخها الاجرامي أمام المجتمع السوري والجوار والدولي.
القنيطرة والماضي الذي انتهى إلى غير عودة:
إن مراجعة سريعة وتبسيطية لواقع المفاوضات السورية الإسرائيلية منذ التسعينات كانت بالمجمل تدور حول فكرتين:
- تصر سوريا على أن تعود إسرائيل إلى خط 4 حزيران 1967م
- تصر إسرائيل على العودة إلى تعديلات الحدود لاتفاقية سايكس بيكو وخاصة إلى التعديل الثاني (تعديل نيوكومبليه) وهو بمختصره يضع الثروة الزراعية والمائية للجولان والمرتفعات الاستراتيجية لأمن سوريا ولبنان ضمن ما يسمى حدود فلسطين تحت الانتدابية والتي نعتبر إسرائيل أنها وريثة لها، وهو تعديل وباختصار يترك عشرة امتار لتفصل ببين الحدود السورية وبحيرة طبريا.
وطبعاً، هناك المراصد السورية العسكرية على جبل الشيخ، والتي هي جزء من الوضعية العسكرية لإنجازات حرب تشرين واتفاقية فصل القوات. منها مرصد على ارتفاع 2814 متراً ومرصد تل الحارة وتل الشاعر وتل الجبيه وبعض سفوح حرمون، والتي تقابل مراصد إسرائيل ومنها المشرف على بلدة عرنة بارتفاع 2224 وتل الفرس وتل ابو الندي.
اكتسبت المفاوضات بعد 2000م أبعاداً أكثر تعقيداً مع إضافة قضية الغاز إلى جانب الثروة المائية والموقع الاستراتيجي للجولان، وخاصة بعد عام 1998 عندما منح مجلس البترول التابع لوزارة الطاقة والموارد المائية الإسرائيلية، ترخيصاً بالحفر في 850 كيلومتراً مربعاً، أي نصف مساحة الجولان تقريباً، لشركة أفيك الإسرائيلية التابعة لشركة جيني إنرجي الأميركية والتابعة لشركة «جيني للنفط والغاز» التي يضم مجلسها الاستشاري الاستراتيجي نائب الرئيس السابق ديك تشيني، والإعلامي اليهودي روبرت مردوخ، والثري اليهودي جاكوب روتشيلد والمدير السابق للمخابرات المركزية الأمريكية جيمس وولسي، ليتبين أن الجنوب السوري والجولان يحتوي على عشرة مواقع غاز في الجولان، ومنها 3 آبار تقع مناصفة بين أرض تحتلها إسرائيل ودرعا والقنيطرة وأن أحدها بالتحديد يقع على عمق يتجاوز 350 متراً كظاهرة فريدة مقارنة بآبار الغاز المعتادة في العالم، مما يدل على مخزونها الهائل.
لم يكن الصراع في الجولان على الأمتار والتلال والمرتفعات قضية ترف بين سوريا وإسرائيل، بل صراع بين مفهومين للسلام “قوة الحق” أو “حق القوة” وشتان بينهما لمن يعرف معنى الكرامة والسيادة على الأرض والسماء وثروات الحق القومي.
كل ما سبق، علينا نسيانه بعد تاريخ 8-12-2023م، وبكل ذكرياته ومعانيه السياسية والعسكرية والاجتماعية وموازين القوى وأوراق القوة والضغط. لقد انتهى ما سبق عسكرياً، لأن عشرات المراصد الخطيرة استراتيجياً والتي كانت تدافع عن دمشق وريفها أصبحت ملكاً لإسرائيل، ولأن كل مخزون القوات السورية والتي كانت منتشرة على طول خط فصل القوات من اللواء تسعين وسواه تتعرض ومنذ 8-12 والى حد اللحظة للقصف والتدمير والسرقة الإسرائيلية اليومية بمخازنها ومستودعاتها دون أي اعتراض أو استنكار.
نعم، عبر 14 عاماً من الحرب، جبهة النصرة وأحرار الشام وجيش الإسلام وفصائل الجبهة الجنوبية (لواء شهداء اليرموك- ألوية الفرقان- لواء فلوجة حوران – فرقة الحرمون) وداعش وفصائل الجيش الحر (الفرقة 19 والفرقة 13) وكتائب اليرموك ولواء تحرير الشام، هاجمت وأنهكت قطعات الجيش السوري المتواجدة في القنيطرة، فعلى سبيل المثال جبهة النصرة وفصائل الجبهة الجنوبية مسؤولة عن احتلال المرصد 45 أواخر آب 2014م، وجبهة النصرة وفصائل الجيش الحر (لواء العز ولواء الحرمين وألوية الفرقان) مسؤولة عن احتلال مرصد تل الحارة تشرين الأول 2014م، ولكن اللواء تسعين بقى محافظاً ولو بحدودٍ دنيا على السيادة السورية في القنيطرة.
لقد انتهى ما سبق عسكرياً، عند تدمير مقدرات الجيش السوري من سلاح الجو والدفاع الجوي بيد إسرائيل، وبقرار حل الجيش السوري برمته بل واجراء تسوية لأكثر من مليون إنسان.
لقد انتهى ما سبق سياسيا، لأن السلطة الجديدة تعتقد أنها تملك رفاهية إعادة تشكيل جيش جديد! وأن إسرائيل ستنتظر تشكل هذا الجيش خارج حساباتها بالمباح والممنوع.
لقد انتهى ما سبق استراتيجياً، لأن السلطة الجديدة لم تسأل نفسها من هي الجهة التي ستشتري منها أو تجرؤ على بيعها السلاح وهي تحمل صفة الإرهاب الدولي وتحت ظل قانون قيصر.
لقد انتهى ما سبق كوجدان، لأن السلطة السورية الجديدة والتي كانت توجهاتها الجهادية تنادي بالزحف نحو القدس! تتحدث الآن وبخجل عن المسؤولية العربية والتعهدات الدولية لتردع إسرائيل عن التوغل في كامل الجنوب السوري. نعم هي ذات المواثيق الدولية التي وصل سوقها الفكري والأخلاقي إلى أرذل وأحقر المشترين في حرب غزة ولبنان واليمن الآن.
لقد انتهى ما سبق كقرار، لأن كل التشكيلات الإسلامية لعصابات المعارضة السورية المسلحة والتي حاربت الجيش السوري في القنيطرة كانت مستندةً في دعمها اللوجستي والعسكري والأمني إلى تحالف إسرائيلي واردني وسعودي وقطري ولهذا التحالف الجهادي الصهيوني ثمن مستحق، وسيدفع من الرابح الذي يدعي العجز ولكنه بنكهة أموية.
لقد انتهى ما سبق نفسيا، لأن كل سوري شاهد مساجد وجوامع حلب ودمشق وحمص وادلب تعلن الجهاد على الساحل السوري، وبل كان هذا الإعلان ذو بعد سوريالي من جوامع درعا والقنيطرة وهما المحافظتين اللتين يوشك الإسرائيلي على ابتلاعهم فلا نداء ولا نفير ولا جهاد، ففي الجنوب لا يوجد “خنازير علويون” ولا يوجد “مجوس شيعة” كما على حدود لبنان.
لقد انتهى ما سبق إقليمياً، لأن الأطراف التي يمكن أن تدعم السلطة الجديدة ضد إسرائيل وتتجاوز الخطوط الحمراء دولياً من ايران وحزب الله، كانت تشتم عبر 14 عاماً من الحرب في سوريا عربيا واسلاميا لصالح خرافات الثورة الطائفية والتي نجحت الآن.
زمن الترتيبات الأمنية:
ليس خفياً أن الحديث أصبح علنياً من طرف إسرائيل وبعد طوفان الأقصى عن ضرورة قيام “ترتيبات أمنية” في غزة ولبنان والأردن وسوريا، ومن هذا الباب أصبح الحديث فضفاضاً عن واقعية قيام تطبيع وسواه مع دولة العدو اليهودي. وثمة مخاتلة في هذه الواقعية، لأن ما يطرح عن الترتيبات الأمنية لا يمكن أن يكون مقدمة للتطبيع أو لمفاوضات سلام، فالسلام يكون بين الأقوياء وليس بين ضعيف وقوي، والمنطقة الآن تعج بالهزيمة والضعف وقوى الخيانة. فلماذا ترضى إسرائيل بالسلام بمنطقة تقوم فيها بصناعة الرؤساء والدول والمجازر والتحالفات. هي بالكاد سترضى بالترتيبات الأمنية التي تصنع الآن في لبنان وسوريا على الأقل. وأستطيع القول ببساطة، وبخصوص سوريا، علينا أن نحذف الترتيبات الأمنية في واقعها القادم ولسببين:
الأول: مازالت سوريا كمساحة 185 ألف كم مربع في مرحلة السقوط الحر ولم تستقر على واقعها الجغرافي القادم، وهذا هو الفضاء الرحب الذي تلعب به القوى الموجودة في سوريا بقوة ومنها إسرائيل.
الثاني: مراجعة بسيطة لفكرة الترتيبات الأمنية التي كانت تدور بين سوريا وإسرائيل في مفاوضات التسعينات وما بعدها تجعلنا ندرك أن ما كانت تطرحه إسرائيل ذلك الوقت وفي قوة الدولة السورية المتماسكة، لم ولن ترضى به الآن وأمامها كامل فضاء التلاعب والاستغلال لقوى عملت هي وحلفاؤها العرب على تنميتها عبر 14 عاماً من الحرب.
إن الترتيبات الامنية السابقة، وفي عهد قوة الدولة، وعلى سبيل المثال: أصر الإسرائيليون على أن تكون المنطقة العازلة على الجانب السوري بعمق يتراوح بين 40 إلى 60 كم أي إلى مشارف دمشق، ويقترحون من قبلهم منطقة عازلة تتراوح بين 10 إلى 15 كم باعتبار فارق مساحة الدولتين. بينما تصر سوريا على تماثل المساحة العازلة بين الدولتين على الحدود. أصر الموقف الإسرائيلي على تقسيم الجولان إلى منطقتين الاولى دون أي تواجد عسكري، والثانية بوجود شرطة مدنية محدودة العدد وبالسلاح الفردي فقط. أصر الإسرائيليون على انسحاب قوات الامم المتحدة وتحييدها كقوة فصل والاعتماد على الولايات المتحدة وقواتها للإشراف على تطبيق الاتفاق. كانت سوريا ترفض أجهزة الانذار المبكر الإسرائيلية فوق مرتفعات الجولان بينما اقترح الإسرائيليون إقامة محطات رصد وانذار مبكر لهم في الجولان بعد انسحابهم من الهضبة كمحطتهم حاليا على مرتفع 2224متر المطلة على بلدة عرنة ومحطتي تل الفرس وتل ابو الندى، وبالمقابل منح سوريا محطة مماثلة في منطقة صفد في الجليل الفلسطيني الأعلى وتحتفظ سوريا بمحطاتها في مرتفع 2814 متراً على جبل الشيخ وتل الحارة وتل الشاعر وتل الجبيه، وتعطى محطة في جبل الباروك بعد موافقة الحكومة اللبنانية.
كل هذا الكلام السابق أصبح من الماضي، فواقع سوريا الآن لا يسمح لها بمناقشة أي ترتيب أمني يتجاوز واقعها الجغرافي السياسي والقادم، وهو واقع يفرض بحكم القوة وليس بالاتفاق المتبادل. والقوة تقول الآن أن العاصمة دمشق وريفها بحكم الساقطة ناريا، ومن يقرر القيام بمقاومة ما عليه العودة إلى حمص أو حماه ليستطيع جعل دمشق وريفها خطاً دفاعياً أول عن العاصمة الجديدة.
ماذا يريد العدو الإسرائيلي في سوريا؟ أمنياً، يريد منطقتين تشكلان عائقا لتهريب السلاح إلى المقاومة في لبنان. الأولى على طول الحدود السورية اللبنانية وقد تتولى سلطة دمشق هذه المهمة إذا اثبتت صدقها في تطبيق بقية ملفات الامن الداخلي والتهجير الديمغرافي، والثاني بين سوريا والعراق أو ما يسمى بممر داوود من الجنوب السوري إلى الجزيرة السورية ويتولى مسؤوليته الأكراد والإسرائيليين أنفسهم.
سياسيا، يريد الإسرائيلي أن تتحول سوريا إلى كنتونات أو فدراليات بمستوى استقرار متوسط، وعلى قيادتها أمراء دم أحدهم للأكراد وأحدهم للدروز وأحدهم للسنة والآن يدفع العلويون بهذا المنحى.
اقتصاديا، يريد الإسرائيلي منطقة تحيا على نفقة الخليج المالية بينما يقوم هو بالاستثمار فيها بعد تحقيق الترتيب الامني كما يريده هو.
نعم في 8-12-2024 سقطت الدولة السورية وسيتجرع كأس الذل كل من يتذكر ويعي الجمهورية السورية حتى عام 2010م.