هنري حاماتي… المشاغب!
كم كان مشاغباً، هذا الهنري حاماتي!!
هل كان قلمه يرشح حبراً على هواه فيتطاير أفكاراً ومقالات من تلقاء نفسه؟ هل كانت أوراقه تكتب كلمات من عندياتها، حتى بعد أن كان يخلد إلى شيء من الراحة في عجقة نُهُره ولياليه؟ أي محرك كان داخل هذا المشاكس؟
في جعبته عشرات الكتب في الفكر القومي الاجتماعي والسياسة والمسرح والرواية، ومئات المحاضرات، ومئات المقالات، وآلاف الحلقات الإذاعية والندوات التثقيفية. كيف لنا أن نقول أن هذا الفارس ترجل؟ سيبقى صهيل فرسه مدوّياً… هذا الفارس لا يترجّل.
المشاغب… المثير للجدل… الملاحَق… المستهدَف… المنبوذ… المحارَب على أكثر من جبهة…
المحب.. المفكّر… المحلّل… الباحث… الكاتب… المؤلِّف… الأمين… الجزيل الاحترام… هنري حاماتي.
شاغب في “جماهير وكوارث” عام 1968، بعد عامٍ من هزيمة الجيوش والجماهير “العربية” في حرب حزيران 1967، شاغب على الأنظمة المهترئة والجماهير المدمنة على الإقطاع والانهزامات المشينة، الانهزامات التي رفعها الحكّام “أوسمة” مُثقلة بالعار على بزّاتهم العسكرية والمدنية الملطّخة بالدم، والتي دُفِنت معهم في آخر سنتمتر من آخر قبر من قبورهم.
شاغب على الأحزاب في لبنان ووضعها على المشرحة. لنتأمل معاً في هذه الفقرة، ولنعد قراءتها، لو لزم الأمر:
“الحزب هو مظهر النظام في حياة الجماعات البشرية. هو، إذن، مظهر وحدة المنحى الفكري، مظهر وحدة النهج المحقِّقِ الهادف، ومظهر وحدة الشكل التي اختيرت ملائمةً للفكر والنهج اللذين سيتحقَّقان بها.
يرتبط الناس بالحزب، بالنظام الشكلي، لغرضٍ أساسيٍ هو تحقيق الفكر. الفكر هنا مبادئ، وعقائد، وشعارات، ومفاهيم، وأهداف.
فإذا بَطُل الفكر، انتفى النهج المحقّقُ له. فيبطل بالتالي، مبرِّرُ استمرارِ الشكل، ومبرّرُ الارتباطِ به.” (جماهير وكوارث الطبعة الأولى 1968- ص: 22-23).
هذه الحقيقة المشاكسة، التي تُظهر ملاءمة وحدة الشكل للفكر والنهج، لم ترق للبعض، فبدأت عملية “النبذ”، لأن تحقيق النهج الذي سيحقق الفكر، لم يعد وارداً في أجندة ذلك “البعض”، فكان لا بد من ضرب الشكل من أساسياته.
شاكس وشاغب في مسرحية “مجدلون” عام 1969. أذكر، وكنت في الثالثة عشرة، لم أكن قد سمعت حتى، لا بالحزب السوري القومي الاجتماعي ولا بهنري حاماتي، قرأت عنواناً في جريدة “النهار” البيروتية، التي اعتاد أن يتصفحها والدي بشكل يومي، “الجيش، من مرجعيون إلى مجدلون”. حتى كاريكاتور بيار صادق يومها تُوِّج بـ “بعلمي رايحين عَ مرجعيون… بعتونا عَ مجدلون”، دلالة على ارتباك الدولة اللبنانية في تحديد أولوياتها الأمنية بين مواجهة العدو الجاثم عند حدودها الجنوبية، أو منع عرض مسرحية “مجدلون” لهنري حاماتي، وكانت من بطولة نضال الأشقر وروجيه عساف، والتي شرعن حاماتي فيها العمل الفدائي، فاضحاً تواطؤ الرجعية “العربية” مع العدو، فاختارت السلطات اللبنانية إرسال عشرات الجنود وقوى الأمن الداخلي لإيقاف عرض المسرحية، وسرعان ما تحول شارع الحمرا أمام مقهى الـ “هورس شو” إلى مسرح متنقل، ومن ثمّ إلى ميدان مظاهرة شارك فيها، وبشكل عفوي، المئات، اعتقلت “الدولة” عشرات منهم بتهم ملفّقة.
شاكس وشاغب في رفض الحلول الاستسلامية، التي حاولوا تمريرها تحت يافطة “الحل السلمي”، التي قادتها منظمة التحرير الفلسطينية. تلك “الحلول” التي دفعت بـ “فتح” إلى ارتكاب سلسلة من التصفيات داخل المخيمات وخارجها، وطاول بعضها دولاً عربية وأوروبية. ولم تنحصر تلك الاغتيالات في الفصائل الفلسطينية، بل تجاوزتها إلى “الحلفاء” – المنادون بالأمة التامة والأمة الأتم -. ولم يسلم هنري حاماتي من تلك المحاولات والاستفزازات، لا في لبنان ولا في أوروبا، ولكنهم عجزوا عن النيل من المشاكس، بالرغم من تنسيقهم المباشر والـ”ودود” مع “الأقربين الذين هم أولى بالمعروف”.
وشاكس الإقطاعَ السياسي والاقتصادي، وتسلُّطَ أصحاب النزعات الفردية، وهيمنةَ “الشخص” على المجموع، وبالأخص داخل الحزب السوري القومي الاجتماعي، فكتب في مجلة “النهضة” الكندية في الثالث والعشرين من آب (أغسطس) 1978، وكأنه يحدّق في عيوننا اليوم، بعد مضي واحد وأربعين عاما من عهود “الأشخاص” المتتالين:
“خداع، خداع، خداع!
“عبادة الشخص” قهر عقلي نفسي مادي جسدي، وهي عبادة لم تعرفها سوى الجماعات التي أذلّها الاستعباد أو أبقتها ظروف حياتها وأحوال تركيبها الاتني خارج نطاق الثقافة الإنسانية. فنحن لم نعرف عبادة الشخص خلال تاريخنا كله، وهل يُعقل أن نتعرف إليها في تاريخ نهضتنا!؟ تلك كانت ثقة افترضها النظام الجديد في أساس بنائنا النفسي، محضناها لمجموعة “أشخاص” متقدمين في الزمن الكرونومتري علينا، ليس إلاّ… فإذا هم متسلطون بتراثياتهم وأطماحهم، مرتدون إلى قديمهم عن جديدنا، متسابقون على الوصول، متنافسون على النفوذ، متعايشون، متهامشون، متناهشون، يدورون على محور أغراضهم الخاصة فهم كل حين إلى وجهة، وبمنطق، وعلى فلسفة، يختلفون ويأتلفون، ويفرزون علينا أدبياتهم، تارةً يميناً وتارةً يسارا، ويأولون تصرفاتهم وسياستهم وخصوصياتهم كأنها خطوات تاريخية خطيرة، فيما هي من قضية مجتمعنا كالسلحفاة من فصول الطبيعة، أو كالأوراق المتساقطة من العواصف.
إنهم، في وصفهم الحقيقي، إقطاعات صغيرة في المجتمع نقلت نفوذها إلى الحزب.
…
الحركة السورية القومية الاجتماعية اليوم عند مفترق خطير، وهي تحتاج منا إلى إنماء وعينا فيها لها، حتى يكون عملنا في المستقبل وقائعَ وأفعالاً في اتجاه المصالح القومية، بكل ما تقتضيه هذه الوقائع من شروط الفكر والعمل، والتي أولها شرط الفرز الحاسم لعوامل قوة النهضة السورية القومية الاجتماعية الكامنة في عقيدتها ومؤسساتها الفاعلة، وعوامل ضعف العمل القومي التي نجدها في نواقصه وانحرافاته المفعولة.”
كان مشاكساً لأنه فضح التعامل والخيانة والتآمر على سعاده، جسداً وفكراً وعقيدة، وأعلن أن العقلية التي كانت وراء إطلاق الرصاص على صدر أنطون سعاده فجر الثامن من تموز عام 1949، هي العقلية نفسها التي أطلقت الرصاص على غسان جديد وأحمد عبد الغفور ووسيم زين الدين ومحمد سليم وحبيب كيروز وتوفيق الصفدي وكمال خير بك وبشير عبيد وناهية بجاني، وإن اختلفت الأصابع التي ضغطت على الزناد، أو تنوعت البنادق والمسدسات.
هذا المشاكس هو هنري حاماتي الأمين، لا تُطوى صفحات كتبه، ولا تنتهي حياته بورقة نعي إلى مأتم في كنيسة. هذا ابن النهضة الداعية إلى تثبيت العقل شرعاً أعلى… فارس لا يترجل وسيبقى صهيل فرسه مدويّاً.