الأمين هنري حاماتي مدرّس الرياضيات ذو الإيمان القومي العظيم-نزيه ابراهيم

image_pdfimage_print

 

نزيه إبراهيم

يتأثر الإنسان في حياته بأشخاص معينين، ولكن هذا التأثر لا يكون بالشخص بحد ذاته إنما بمواقف وعِبَرٍ تصدر عنه تترك معلماً في نفس الآخر وأخلاقه وأعماله، وهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنه تبعية.

في التربية البيتية، نمر في تجارب كثيرة، السيء منها والجيد، ونسمع ملاحظات الأهل وتوجيهاتهم، والبعض منها نتذكره في مراحل عديدة من حياتنا ونستفيد منه.

في الحياة الدراسية، نتعلم الكثير من النظريات العلمية أو الفكرية فتلتصق بذاكرتنا كأنها من الأمس القريب. أما في معترك الحياة، حيث نحاول أن نجد مكانا يكون جديرا بطموحنا وأحلامنا، فنرى أنه علينا أن نتخذ عقيدة تتمحور حياتنا حولها، لتكون قضية وجودية نناضل في سبيل تحقيق غايتها.

في العام 1968، حين كنت طالبا في الجامعة اللبنانية، والأفكار اليسارية واليمينيّة تتصارع فكريا واجتماعيا وطلابيا داخل حرم الجامعة وخارجه، شاءت الظروف أن أُدعى إلى محاضرة للمفكر هنري حاماتي، استهلها بـ”جنوبنا هو دعي فيما دعي فلسطين….”، وكانت فلسطين آنذاك الموضوع الأساسي، القضية المركزية لكل التحركات الطلابية والسياسية.

تحدث المحاضر بوضوح وتحديد عن الدول والزواريب الطائفية … وبعد انتهاء المحاضرة خرجت من القاعة ولدي قناعة راسخة أنه لا بد أن أتعرف إلى فكر أنطون سعاده. وابتدأت المسيرة، ولن تنتهي، وان أصبت، وأنا أعالج منعطفاتها ومطبّاتها، بخيبات وإحباطات.

بعد عشر سنوات من تاريخ المحاضرة، زار الأمين هنري حاماتي مدينة أوتاوا (وكان “الرفيق” هنري حاماتي يومها). كنا، مجموعة من الرفقاء والطلبة، نُصدِر مجلة سياسية اجتماعية، بإمكانيات متواضعة وخبرات قليلة، ولكن بإيمان عظيم. وكانت تجمعنا سهرات وجلسات طوال مع المفكر والصحافي والمناضل والمربي والمذيع القومي الاجتماعي.

في مناسبة رحيله، قيل الكثير عن الأمين والمفكر والمناضل، أما أنا فرأيت أن أتحدث عمّا تركت زيارته إلى كندا، ومساهمته في إصدار مجلة “النهضة”، من اثر في حياتي الحزبية.

حواره كان مقنعا. توجهه كان متواضعا. الغاية محددة، وهي غاية الحزب كما وضعها سعاده. ومنهجه هو الصراع على كل الجبهات الفكرية والسياسية والاجتماعية.

فيما يلي سأدرج ما أدركته مما كان يدور من نقاشات وحوارات، ترك أثراً في تفكيري وممارستي:

– إن الحركة السورية القومية الاجتماعية لا يمكن إن تسقط إلاّ اذا ضُربت في عقيدتها، وهذا آخر المستحيلات. لأنها عقيدة عظيمة تضع على اتباعها مهمة أساسية وهي تحقيق انتصارها. وهي تحمل كل حق وخير وجمال، فما هو حق لنا هو الحق، وأي شك في ذلك هو ضرب للعقيدة، والذين يفقدون هذا الإيمان يصبحون خارج النهضة.

– إن سعاده وضع عقيدته ودستوره على أسس وقواعد علمية، وإن كانت خطاباته تحرك الوجدان القومي الاجتماعي، ذلك لأن ظهور وبروز “الوجدان الاجتماعي هو اهم ظاهرة في هذا العصر”. فعندما حدد “ان الأمة مجتمع واحد” كان ذلك بعد أن درس وشرح مفهوم علم السلالات بالمنظار العلمي وليس بالمفهوم الوراثي.

– أما الديمقراطية، كما حددها وشرحها ومارسها، فلم تكن اقتباسا أو ارتجالا، إنما جاء تحديدها بعد درس نشوء المجتمعات البشرية ونشوء الدول. حيث كان جليا الفصل بين الاجتماع والسياسة، فالسياسة هي من شأن الإدارة العليا والهيئات المختصة.

– أي خطة سياسية أو تحليل سياسي يجب أن يرتكز على العقيدة وينطلق منها. فعندما كان يكتب الأمين هنري حاماتي، في تلك المرحلة، عن “الإقطاع العربي” وعن سعي هذا الإقطاع إلى إنشاء وتعويم “منظمة التحرير الفلسطينية ” فذلك لأن هنالك “تضامنا عربيا إسرائيليا “، يبرز بوضوح ووقاحة في هذا الزمن، أي بعد أربعين عاما من تاريخ كتابات الأمين حاماتي في هذا الشأن. فهو لم يعتمد على “التنجيم”، إنما كان مؤمنا بعقيدة سعاده. بالنسبة له، المسألة الفلسطينية كانت وما زالت القضية القومية الأساسية، لذا هي قضية الأمة السورية وحدها، وما هو حق للأمة السورية لا يمكن أن تقرره أية هيئة غيرها، عربية كانت أم دولية. حتى إن الشعب السوري بأكمله لا يحق له إن يتنازل عن هذا الحق، لأنه حق الأمة بأجيالها السابقة والحاضرة والآتية. من هنا كان يرفض أن تكون منظمة التحرير الفلسطينية “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني” موقفه هذا لم يكن لأسباب سياسية بالمفهوم المصطلح عليه.

– أما في شروحه العقائدية، فكان يؤكد انه لا يجوز التحدث عن الشأن القومي والشأن الاجتماعي بشكل منفصل إنما هنالك شان واحد هو الشأن القومي الاجتماعي.

– وحول التعديلات الدستورية، الدستور كلي لا يتجزأ ، روحيته تنبع من العقيدة وغايته إثبات حقيقتها وتحقيق مصلحة الأمة، وإذا فشلنا في تحقيق ذلك، علينا أن ندقق ونبحث عن الأسباب الحقيقية بجرأة، ونحاسب من أخطآ، لا أن نلجأ إلى تعديلات دستورية، لحل أزماتنا الداخلية، مع تقديري للخبراء القانونيين، فبعضها يمس الجوهر.

– كل هذه الأفكار لم تكن ارتجالية أو آنية عند الأمين هنري، إنما نتيجة فهمه لفلسفة سعاده المدرحية، والتي لا يجوز تفسيرها، كما يشرحها البعض، بأنها مادة وروح، إنما هي فلسفة الصراع لتحقيق قيم الخير والحق والجمال في مجتمعنا السوري، ومنه تنطلق للإنسانية جمعاء.

هذا غيضٌ من فيض كان الأمين هنري حاماتي يشرحه بأسلوب واضح، ولغة متينة جذابة تستسيغ سماعها، فلا تبعدك عن الموضوع لأنها تعتمد طريقة مدرس الرياضيات ذي الإيمان القومي الاجتماعي الرسولي.

في زمن كثرت فيه الكتابات السياسية والثرثرات… كم نحزن عندما نسمع من الكثير أن هذا الزمن هو غير زمان هؤلاء، لندرك كم نحن بحاجة إلى أمثال الأمين المفكر والمناضل هنري حاماتي.

في هذا العدد<< هنري حاماتي… المشاغب!هنري حاماتي الصوت الصارخ والسهم الجارح >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments