هل قرأت سعاده؟ – د. تيسير كوى
يتألم تلامذة أنطون سعاده أشد الألم عندما يجدون في عقيدتهم حلولاً ناجعة للمصائب كافة التي يعاني منها أهل سورية الطبيعية كلهم وحتى أهل العالم العربي، وهي المصائب التي يختصرها تعبير التخلف العميق بكل أوجهه العلمية والثقافية والروحية والاقتصادية والتربوية الخ… وهو التخلف الذي شجع ويشجع قوى الشر كافة في العالم وما أكثرها وتعاظم تكاثرها، على التطاول وأكثر من التطاول على الأهل المشار اليهم أعلاه. فالسوريون القوميون الاجتماعيون يجدون في عقيدتهم خلاصا من هذا التخلف ومن كل مظاهره. ففيما يعم سورية التشرذم والانقسام والحلول العشوائية المائعة وغير المجدية يشعر القوميون الاجتماعيون أنهم نواة أمة متماسكة متجددة موحدة الأهداف والروحية. فسعاده لم يأت بعقيدة كلامية عبثية بل بحلول لمشاكل أمته يعيدها الى صف العطاء الإنساني الذي عرفت به وذلك بعدما درس هذه المشاكل بالعمق الذي تتطلبه ثم اندفع يقترح مبادئ بسيطة محيية يحفزه حب عميق لا يستطيع عاقل أن يشك فيه بعد وقفة عز بطولية عز نظيرها في فجر الثاني من تموز عام 1949 الذي تم إعدامه فيه.
كان سليم الحلبي من أحب الناس إلى قلبي نال إجازته الجامعية الأولى من جامعة القاهرة لأنه كان يحب مصر ويعتبرها جزءا حيويا من “وطنه”. كان سليم بالفعل من معاصري ورفاق ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وصلاح الدين البيطار، فقد كانت عقيدته “بعثية” لكنه لم ينتم رسميا إلى حزب البعث على حد علمي. كان إذا ذكر أنطون سعاده في مسمعه يبدي نفوراً بينا يصل إلى حد الاشمئزاز منه ومن عقيدته لأن سعاده في رأيه لا يمجد “العروبة” بمفهومها التقليدي ولا يمجد العرب وتاريخهم ولا يتغنى بها وبهم. هذا إلى أن حدث أمران هزّاه وحملاه على إعادة النظر في آرائه ومواقفه ومعتقداته.
سألته مرة عما اذا كان قرأ سعاده قراءة تتناسب مع مستواه الثقافي. فقد نال الدكتوراة في المجال الفلسفي التربوي من جامعة أوروبية مرموقة بإشراف وتوجيه علم من أعلام ذلك التخصص. اعترفت له بالأمانة والصدق بأنه أقر من دون تردد أنه استمد معظم ما كان “يعرفه” عن سعاده مما قيل له عن هذا المفكر العظيم وتأثر إلى حد بعيد بالفكرة القائلة أن سعاده ينكر عروبة الجزء الشرقي الشمالي من العالم العربي (أي سورية الطبيعية المؤلفة من سورية الحالية والعراق ولبنان والأردن وفلسطين والاسكندرون وكيليكيا وجزيرة قبرص). وكأن سعاده بذلك ينكر وجود الله بينما كان بالفعل يعرب عن ايمان عميق “جديد” بقومية سورية تعني في المقام الأول ولاء للأرض السورية ولتاريخ الأقوام المختلفة التي تعاقبت على العيش فيها منذ ما قبل التاريخ الجلي وتفاعلت مع أرضها وأنتجت، بشهادة علماء التاريخ والعلوم الإنسانية كافة، حضارة عريقة ينعم بثمارها حاليا الجنس البشري كله. ألم يقل أحدهم إن كل من يسكن في هذه الكرة الأرضية يجب أن يعتبر أن له بالفعل وطنين وطنه وسورية بسبب ما أعطاه السوريون للإنسانية عبر تاريخهم الطويل.
في مطلع الستينات من القرن الماضي حاول الحزب السوري القومي الاجتماعي قلب الأوضاع السياسية في الجمهورية اللبنانية بحركة عسكرية مدنية لم يكتب لها النجاح فعمدت السلطات اللبنانية وقتها إلى التنكيل الشنيع بأعضاء الحزب كافة بعدما كان هذا التنكيل جاء بعد تنكيل مماثل وأشد بشاعة مارسته السلطات اللبنانية في أواخر الأربعينات من القرن المشار إليه وانتهى بإعدام سعاده بعد محاكمة غير شرعية وغير قانونية لم تكن تتناسب أبدا مع ادعاءات بعض اللبنانيين وقتذاك وحاليا أن لبنان بلد الاشعاع الفكري والحضاري في المنطقة الشرقية كلها.
كان سليم الحلبي يسكن بالقرب من مبنى المحكمة العسكرية اللبنانية في بيروت. وفي احدى الأمسيات، خرج كعادته للسير على الرصيف العريض الذي يطل عليه مبنى المحكمة. وما أن اقترب منه حتى أمره أحد حراس المبنى بلهجة فظة وغير مهذبة أن يبتعد بأمر من السلطة اللبنانية المعنية. لكن سليم اعتبر النهي إهانة على اعتبار أنه لبناني ولم يرتكب ما يستدعي منعه بفظاظة من السير حيثما يشاء. تم اعتقال سليم وزجه في السجن في قاووش يعج بالسوريين القوميين الاجتماعيين.
قال لي أحد القوميين الاجتماعيين بعد فترة من الزمن أن ذلك الشخص (سليم) دخل الى حيث يريد أن يقضي حاجة طبيعية ورأى أن يدا وضعت صورة سعاده على جدار المرحاض. ساءه هذا الأمر فانتزع الصورة وخبأها في جيبه وعندما جاء من يسأل بغضب شديد عن الشخص الذي تجرأ على نزع صورة سعاده من على جدار المرحاض نهض سليم وقال أنه هو الذي “فعلها” وقال أن صورة انسان كسعاده يجب أن تكون في غير ذلك المكان وأن تحترم. فكانت النتيجة أنه نال عقابا شديداً تضمن الضرب المبرح والإهانة والشتم ولم يحترم من ضربه مكانته العلمية ولا إنسانيته ولا تقدمه في السن.
بعد سنوات من هذا الحدث مرض سليم ثم توفي. زرته قبل وفاته بفترة قصيرة وبعد المجاملات سألني عما اذا كنت قرأت أدبيات أنطون سعاده وحثني بالحاح بيّن وبقوة على الاستزادة من هذه الأدبيات. واسترسل وقال إنه كان منذ طفولته يتغنى بالعرب والعروبة الى أن بدأ يقرأ سعاده بعدما دعوته إلى ذلك في الماضي. قال أنه لم يلتق حتى ذلك الوقت إنساناً بدأ نشاطه الفكري بأن طرح على نفسه سؤالين عمليين وفلسفيين في آن: مالذي جلب على شعبي هذا الويل (ويل ما شاهده السوريون قبل الحرب العالمية الأولى وفي أثنائها وبعدها) ثم السؤال الأهم “من نحن؟”. وزاد سليم على ذلك فقال إن جواب سعاده على سؤاليه اتصف بالجدية والعمق وبخروجه على العالم بشئ جديد هو القومية الاجتماعية. وكتب ينادي بقيم كانت ولا تزال بلادنا بل بلاد العالم كله بحاجة اليها وهي الحرية والواجب والنظام والقوة، وهي قيم كلها حق وخير وجمال. لقد جاء سعاده بحلول عملية واقعية تعالج أوضاع جماعة من البشر اعتبرها أمته. لم يطرح شعارات كلامية لا معنى لها مثل “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”. فلا الأمة العربية الواحدة موجودة بالفعل ولا يوجد رسالة خالدة الا في كلمات الشعار.
لقد انطلق سعاده فيما كانت جماعات لا بأس بتعدادها في أمته تعتبر أن وطنها هو بساط الصلاة أي كما قال أحدهم أن وطنه هو حيث يستطيع أن يمد هذا البساط ويصلي عليه لله تعالى. وكان في أمته من ينشد “بلاد العُرْب أوطاني من الشام لبغدان ومن نجد الى…تطوان..” الخ… وكان في أمته من يعتبر العالم كله أمة واحدة رغم أن فيها الأميركي واليهودي وبقية القصة معروفة لا تحتاج إلى مزيد من التوضيح. وكان في أمته من يرحب بالغزو الصهيوني للجزء الجنوبي من سورية ويدعو للتحالف مع هذا الغازي البربري اللئيم. وكان في أمته أيضا من كان يحمل على كتفه سفير دولة مجاورة في بيروت فيما كانت دولة السفير تسلخ عن سورية الطبيعية جزءا كبيرا منها.
يجب على الإنسان الذي يهمه أمر ساكني سورية الطبيعية أن يمعن النظر في كل ما قاله سعاده فالرجل كان في غاية الجدية والالتزام بما اعتقد أن فيه ما يسعد أمته وينيلها المجد والعز والقوة لقد وصف سعاده الحياة بأنها “كلها وقفة عز فقط”، ووقف هو هذه الوقفة عندما شكر جلاديه، وهو ما لم يفعله أحد غيره من أصحاب الاحزاب والعقائد.
لقد رأيت في قاووش سجن الدولة اللبنانية جماعة من تلاميذ سعاده يتصرفون وكأنهم أسرة واحدة فيهم من جميع الطوائف اللبنانية وفيهم الأستاذ الجامعي والفلاح العادي. وختم سليم كلامه بأن قال “إن سعاده لم ولن يتخطاه الزمن، فالأمة بحاجة إلى ما جاء به إلى أن ترتاح من أوجاعها ومشاكلها التي تزداد وتتفاقم، وإلى أن تحيا حياة العز والرفاه والعطاء. أدعو الجميع إلى أن يقرأوا سعاده بتأن وعناية وتبصر. (كان سليم يدلي بهذا كله في نهاية السبعينات من القرن الماضي بعدما كان لبنان قد شهد عامين تقريبا من التذابح والتشاتم الأهلي). لم يفه سعاده بكلمة مجافية للمنطق والتعقل أو بعيدة عن محبة أمته والاستعداد للتضحية من أجلها.” وختم سليم أن ما شاهده في سجن الدولة اللبنانية حيث كان تلامذة سعاده يتصرفون وكأنهم أسرة واحدة متماسكة رغم اختلاف مذاهبهم ومناطق إقامتهم ومستوياتهم العلمية والفكرية ما جعله يقرّ بأن ذلك معجزة ونجاح باهر وأعرب عن عميق حزنه لأن سعاده قتل بدلاً من أن يُفسح له المجال لكي يواصل عملية الهداية الإعجازية التي بدأها.
لقد أشاع سعاده بين تلامذته روح الإخاء والمحبة والرغبة المشتركة في اعلاء شأن سورية؛ لا يسأل الواحد منهم عن انتماءات رفيقه طالما أنه أقسم أن يكون ولاءه للقومية السورية وللأمة السورية وطالما أنه يعشق أرض سورية وتاريخها والسوريين جميعاً، ويود أن يشارك في إعادة هذه الأمة العظيمة إلى العطاء الإنساني السخي.
لقد برز سعاده في أمة مزقها ويمعن في تمزيقها أعداؤها وبعض أبنائها، في أمة نشأت فيها طبقة من المتعلمين الذين أخطأوا اذ ظنوا أنهم مثقفون بينما الفرق كبير بين المتعلم والمثقف. لقد واجه سعاده مشاكل اجتماعية يستعصي حلها لم يواجهها أي مصلح آخر في التاريخ فلم ييأس وظل حتى آخر رمق في حياته القصيرة يحب أمته السورية ويعلمها ويهديها. لقد طرح سعاده مفاهيم جديدة محددة لا غموض فيها ولا تتحمل تأويلات وتفاسير وتحدث للمرة الأولى في تاريخ المنطقة الحديث بلغة العقل والتحليل والتعليم وتحدث عن أهداف واضحة لا لبس فيها ولا مبالغات.