يوميات لاجئ – ابن البلد

image_pdfimage_print

القصة الثامنة: بائعو الكبريت

هي الذاكرة.. ذلك القطار الذي ينطلق بك دون وجهة. يستقرّ أحياناً في محطات لطالما هربت منها، ويدهس أحياناً ماضيك كأنه لم يكن. قطار لم تدفع تذكرته يوماً، يوصلك غصباً ويحملك غصباً ويرميك خارجه في النهاية كأنك لم تكن فيه يوماً.

لا أعرف كيف زوّد الحنين ذلك القطار بالوقود فانطلق داخلي.. لأتذكر يوم الميلاد وطقوسه في بيت أبي.

ما زلت أذكر تلك الطفلة الصغيرة ترجو المارين لشراء الكبريت. كنت صغيراً جداً عندما شعرت بشعور الاختناق ذاك. خصوصاً عندما كنت أراها تنظر إلى نوافذ البيوت السعيدة وتشعل الكبريت حتى تتدفأ.

لم أستوعب يومها فكرة أنها لا تستطيع العودة إلى بيتها، قبل بيع كل ما لديها من كبريت. فأبوها السكّير.. العربيد سيحاسبها على التقصير ويضربها، ثم يرميها خارجاً.

لطالما بقيت متسمّراً أمام التلفاز وأشاهد تلك الحلقة بحسرة وحزن، قبل أن أكتشف موت الفتاة في آخر الحلقة.

هناك في سوريا.. كنت أختبئ بجانب مدفأة المازوت، ورائحة الخبز الملتصق عليها تملأ بيت والدي بالسعادة. لطالما ظننت أن بائعة الكبريت تلك في عالم آخر.. على أرض ليست هذه الأرض. والحقيقة.. أن ذلك الشعور بأنها لا تنتمي إلى عالمنا هذا.. كان يزيد رائحة الخبز المحمّص أماناً.

مضى ثلاثون عاماً.. وها أنا هنا في ذات اليوم. يوم بيع الكبريت. إنه موسم الميلاد ورأس السنة.. أغاني الميلاد تدق قلبي مع تلك الأجراس، فهي فترتي المفضلة في كل عام. إلا هذا العام.

أبي الذي لم يعد موجوداً.. أخذ أمّي ومدفأته مع رائحة الخبز ورحلا بعيداً. وبدلاً من أن أبقى في بيتهما أبحث عن بقايا مكانهما في البيت. تحوّل بيتنا إلى كوم ذكريات ممزوجة بالرماد. لم يعد لي شيء هناك.. فهربت مع من هربوا.

تسارعت الأحداث ووجدت نفسي هنا.. في هذه القرية الدنماركية الصغيرة منذ قرابة العامين.

تركت أولادي بعيداً.. على أمل لمّ الشمل. ولكن المعاملات تعسّرت وتأخرتْ فوجدت نفسي في الميلاد وحيداً للعام الثاني على التوالي.

الجوّ بارد بشكل غير اعتيادي، والشوارع خالية إلا من أنوار النوافذ والزينة في كل مكان. هذه القرية التي تموت عادة في الثالثة ظهراً، ما زالت تنبض بالحياة في هذه الليلة. وأنا لا نيّة لدي أن أنزوي في بيتي مثل كل يوم. أنا في الحقيقة خرجت هذه الليلة.. للهروب من نفسي، لأبحث عن مدفأة أبي داخل تلك النوافذ المضيئة.. ولأجد تلك الصغيرة.. علّي أعطيها حفنة من رائحة خبز محمّص لطالما اشتهيته لها.

هل تعرفون أنني أدركت أخيراً بأن تلك البنت من عالمنا؟ وهي تعيش على ذات الأرض التي كنت أشاهدها منها؟

نعم.. أدركت ذلك يوم جئت. ومن السخرية أن أكون هنا.. وأتذكر أن أكثر حكاية أخافها هي من التراث الدنماركي. إذاً.. ذات المكان والتوقيت.. ذات الوحدة والبرد.. لكنني دون كبريت.

فقد كان لي أب محبّ لن يضربني إذا ما عدت خالي الجيوب، ولكن لم يعد لي بيت حتى أعود. أنا هنا.. لا أبحث عن دفء أو مال أو أحد يلتفت لي في الشارع حتى يسألني ما أريد. أنا هنا أبحث عن وسيلة أحضن فيها أبنائي في العيد. أن أسمح لهم بالسهر حتى منتصف الليل كما كان يسمح لي أبي، كي ألبس لهم ثوب بابا نويل، وأبني معهم شجرة يتدفؤون تحتها ما بقي من حياتهم. أنا هنا هارب من كل شيء.. من أرض بعيدة، من ذكريات سعيدة.. من سلّة فيها كبريت.

فقد اكتشفت بعد هذا العمر: أن العالم كلّه سكّير.. عربيد.. سيضربني إذا ما عدت للبيت.

  • النهاية –
في هذا العدد<< هل قرأت سعاده؟ – د. تيسير كوىالأدب السوري وأثره في النهضة المصرية الأخيرة – للأديب الناقد والمفكر الأستاذ البحراوي >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments