مبادئ أساسية في الإصلاح الحزبي
في مقالنا السابق حول عدم جدوى الإصلاح من الداخل في الإطار الفاسد القائم، تبين أنه قد حدث سوء تأويل لمقصدنا الحقيقي الذي هو عدم جدوى الإصلاح عن طريق التسوية مع الفاسدين والمفسدين والمسؤولين عن وقوع الخلل الذي يجب إصلاحه، ولم ننف إمكانية الإصلاح بشكل مطلق. لعل هذا المقال يوضح الفكرة الحقيقية المقصودة، ويبيّن شروط نجاح الإصلاح ومبادئه.
إن التراجع الذي شهده الحزب السوري القومي الاجتماعي خلال فترة طويلة من الزمن هو أقل ما يمكن قوله عن الوضع المتردي الذي وصل إليه في هذه المرحلة. أنه لا يزال على سفح المنحدر صوب الهاوية منذ استشهاد سعاده في 8 تموز من العام 1949. ومن شأن هذا الوضع أن يتيح القول إن الأزمة الحالية ليست سوى امتداد لمشكلة بدأت بعد ذلك التاريخ وقبله أيضاً. وهذا لا يعني أن القيادة الحالية هي فوق الشبهات، فهي متهمة بالإهمال وبدوغمائية لا يمكن تخيلها. وقد ساهمت بقوة في الأزمة وذلك بسبب عدم مقدرتها على معالجة المشكلة وبسبب الانقياد للمصالح الشخصية.
يفتقر الحزب اليوم إلى الانضباط ووحدة الاتجاه، حيث لا تمتلك رؤيته شكلاً محدداً، واستقلاليته معرضة للخطر، وليس لديه خطة واضحة للحاضر ولا مخطط للمستقبل. إنه يتراجع تراجعاً ملحوظاً بسبب الاعتبارات الشخصية والسياسية عينها التي أشار إليها سعاده في العديد من المقالات والخطب. فالتعصب في الاقتتال والصراعات الداخلية أمر شائع، حيث أن معظم فروع الحزب معطلة أو تعاني من اختلال في الأداء والنمو، بينما معنويات الأعضاء في أدنى مستوياتها. وأصبحت كل هذه الأسباب مصدراً لغضب يعبر عنه أعضاء الحزب. وقد حمل بعضهم الأزمة في قلوبهم، ويرجع ذلك أساساً إلى أن البدائل في هذا الأمر والقابلة للتطبيق هي غير فعالة، بينما ترك آخرون الحزب وهم غاضبون بحيث أنهم لن يعودوا إليه أبداً.
أدى هذا التراجع إلى مطالبات عارمة للقيام بالإصلاح، وهذا في حد ذاته علامة صحية تظهر روحاً سائدة بالالتزام بالحزب كأولوية بما يشير إلى أنه لا يزال هناك درجة مقبولة من الحياة والحيوية وسط الرداءة المدقعة. كل ما علينا فعله هو العمل معاً وإيجاد بعض الإيمان بأنفسنا وبعضنا البعض.
لقد آن الأوان لبدء حركة الإصلاح اللازم لإعادة بناء حزبنا من القاعدة إلى الأعلى. وينبغي أن يهدف مثل هذا الإصلاح إلى تحديث إدارة الحزب وآدائه بما يؤدي إلى اجتذاب أعضاء نشطين وتعزيز دور العناصر الجيدة من الجيل الصاعد. ولكن، لإعادة بناء الحزب وتحويله إلى قوة تنبض بالحياة، يجب علينا أولاً التغلب على بعض الأفكار الضعيفة. ومن أبرز هذه الأفكار المطالبة بالإصلاح مع ضعاف الشخصية والدمى الذين أوصلونا في المقام الأول إلى هذه الفوضى. لو كانت مصلحة الحزب لدى هؤلاء الأشخاص في القلب، فإنهم ما كانوا ليتركوا الحزب ينزف ويتألم. ولذلك لا ينبغي مكافأتهم على ذلك، بل يجب إخضاعهم للمساءلة عن أفعالهم وتصرفاتهم وذلك لإرساء ما يكون بمثابة سابقة هامة للمستقبل. لا يمكننا أن نسمح بما هو غير مقبول أن يصبح أمراً مشروعاً. وهذا ما سوف يحدث بالضبط إذا تركنا الفاسد والمفسد بلا حساب، فكم بالحري إذا كنا نطالبه هو نفسه بالإصلاح!
وهذا ما يقودنا إلى المبدأ الأول للإصلاح:
غالباً ما تؤدي عملية الإصلاح إلى (ضرورة) إزالة أو إبعاد هؤلاء الذي كانوا مسؤولين عن الخلل أو الفساد اللذين استوجبا عملية الإصلاح أصلاً. وذلك نتيجة ارتكابهم جملة أخطاءٍ إما عن طريق سوء الإدارة أو الفساد أو سوء السلوك المتعمد. وأي محاولة للتوفيق بين المفاهيم غير المتوافقة (الفساد والنزاهة) من خلال الإصلاح ستؤدي إلى نتائج عكسية وستؤدي حتماً إلى ارتفاع عدد الواجب إزالتهم.
وعند النظر في مسألة الإصلاح والتغيير، من المهم أن نسمو فوق المشاعر الانفعالية وخداع الذات. يجب أن ترتكز رغباتنا وقوتنا على العقل وإملاءات المنطق على أنه من العبث وغير المجدي أن نتوقع الإصلاح – الإصلاح الحقيقي ـ عن طريق إحداث تبديل أو تغيير طفيف هنا أو هناك. لا يحدث الإصلاح بين عشية وضحاها. فالإصلاح أمر معقد لدرجة أنه يتطلب التزاماً متواصلاً وفهماً ليس فقط لمعايير وأسس الإصلاح، ولكن أيضاً لعملية التنفيذ وتحديد المحتويات والحاجة.
وهنا يأتي المبدأ الثاني:
من الأرجح أن يكون الإصلاح فعالاً عندما يكون مستداماً ويتم العمل عليه بعناية بالاستناد إلى معرفة كبيرة بجميع الديناميات ﺍﻟﻤﺭﺘﺒﻁﺔ ﺒﻌﻤﻠﻴﺔ الإصلاح. ولا معنى للإصلاح الذي يتم وضعه لمعالجة النتائج بدلاً من الأسباب، إذ يجب أن يكون قادراً على معالجة الاثنين، الأسباب قبل النتائج. وقبل محاولة القيام بأي إصلاح، ينبغي تحديد كل من أسباب الحالة غير المُرضية ومرتكبيها ومن ثم تحييدها. وإلا، فإن الإصلاح سيكون تجميلياً في أحسن الأحوال، ولا فائدة منه في أسوأ الأحوال.
وإذا كنا مهتمين حقاً بمستقبل الحزب، يجب أن نكون جريئين في نهجنا وأمناء مع أنفسنا، فالإصلاح عبارة عن روح جميلة وقوية. إنها روح تسخر نفسها بكل ضمير خالص، يكمن جمالها وقوتها في أفضل حالاتها عندما تتم متابعة الإصلاح من قلب فاضل وشعور بالإيمان العميق والاقتناع الراسخ. والإصلاح من أجل الإصلاح غير مجد ومحبط. ولدى الإصلاح روحه الخاصة به، والتي يجب أن يسمح لها بالتعبير عن نفسها بمنتهى العاطفة والكرامة التي تستحقها. الإصلاح دون روح مثل قطعة من الفن لا حياة فيها. كم هو عدد المرات التي سبق لنا أن حاولنا فيها الإصلاح ولكن القليل منها أدى إلى فائدة قليلة أو معدومة؟ ويرجع ذلك إلى أنه كثيراً ما يتم السعي إلى الإصلاح على أنه مسألة مسار للعمل أكثر من كونه أمراً يتعلق بالقلب والعقل.
بالتالي المبدأ الثالث:
الإصلاح هو شيء نابع من القلب، إنه تعبير عن مشاعر عميقة وصادقة وتوق إلى الحقيقة. لا ينجح الإصلاح إذا لم ينبع من القلب ومن رغبة حقيقية في التغيير. يجب أن يكون قائماً على إيمان لا يتزعزع، وأمانة لا حدود لها، واهتمام رفيع المستوى بالصالح العام. والنزاهة أمر ضروري وينبغي أن تكون النوايا واضحة تماماً، وأن تتوافق بشكل وثيق مع الرغبة في تجنب أي تعارض في المصالح. بيد أن القلوب الطيبة والنوايا الخالصة، من تلقاء نفسها، غير كافية: فهي تحقق نتائج أفضل إذا كانت قائمة على أساس العقل والحقائق.
وهناك تفكير ضعيف آخر يجب علينا التغلب عليه وهو أنه يمكن تحقيق الإصلاح بسهولة وبساطة، ويكون بذلك مجرد سراب، ونوع من الوهم العقلي. الإصلاح هو مسعى معقد وعادة ما يواجه معارضة قوية. ومن المؤكد أن الإصلاح سيؤدي إلى إلحاق الألم بنا جميعاً، وأكبر قدر من الألم سيأتي على أولئك الذين يكونون أكثر الخاسرين من الإصلاح ـ أولئك المنغمسين في الملذات الشخصية والذين سيلجأون إلى كل خدعة ممكنة ويستخدمون كل الوسائل المتاحة بين أيديهم لعرقلة التغيير.
ومن هذا نستخرج المبدأ الرابع:
يكون الإصلاح مطلوباً بقوة أكثرعندما يصبح النظام العام والمؤسساتي حاجزاً عنيداً في وجه التغيير أو في حالات لا يستجيب فيها الحكام أو يصبح فيها المسؤولون المعنيون غير متجاوبين بل هم أدوات للقمع. وقد يستخدم هؤلاء، في السيناريو الأخير، جميع أنواع الوسائل لمنع الإصلاح الحقيقي بما في ذلك الشروع في الإصلاحات الزائفة، بحيث يقدمون العديد من الوعود الفارغة والإدعاءات الفاضحة بكل ما يمكن لهم أن يحشدوه لإعاقة الإصلاح. ويتظاهرون على أنهم مصلحون بينما هم يقومون باللعب على المشاعر الضعيفة الهشة. ويفقد الإصلاح من قيمته وزخمه في اللحظة التي يخضع للتأثيرات الخفيفة الناعمة.
أخيراً، يجب ألا نخاف من الإصلاح. الفشل وعدم الرضى عن الذات هما من الأشياء التي نحتاج أن نخاف بشأنها. ومع ذلك، يجب أن نكون واقعيين بشأن الإصلاح، وأن نكون على استعداد للتأكيد على أن الإصلاح – ولا سيما الإصلاح الجوهري – هو مهمة أولئك الذين يتمتعون بأوراق اعتماد وخبرات صحيحة. ليس كل من ينادي بالإصلاح هو مصلح. ولكي يكون الشخص مؤهلاً للحصول على لقب المصلح، يجب ألا يكون، كمبدأ أول، جزءاً من الفساد الذي يجب إصلاحه. ويفضل ألا يكون مشاركاً في الادارة الحزبية موضوع الاصلاح.
المبدأ الأخير هو:
يعتمد الإصلاح بشكل كليّ على نوعية الإصلاحيين. ولا بد من إسناد مهمة الإصلاح إلى الرجال الذين يتمتعون بأعلى درجات النزاهة. وأي شيء أقل من ذلك سيقوض هدف الإصلاح ويطيل فترة الألم. لا يمكن لأي شخص أن يكون مصلحاً، فالمصلحون هم ضمن فئة خاصة بهم. وهم نوع خاص من الرجال والنساء القادرين على تخيل وتنفيذ الإصلاح. ولا ينبغي لأحد أن يتوقع الإصلاح من الأشخاص الذين هم أنفسهم بحاجة إلى إصلاح.
يتطلب رسم مسار جدير بالثقة للخروج من الأزمة الحالية كالصبر والقدرة على التحمل، إذ لا يمكن أن تحدث استراتيجيات أفضل لإعادة بناء الحزب وإعادة تموضعه من أجل تحقيق النمو في المستقبل بحركة إصبع، وقد تستغرق النتائج الفعلية بعض الوقت. وهذا لا ينبغي أن يمنعنا من السير في طريق الإصلاح وتمكين القوى التي تحدث التغيير داخل الحزب.
ولكن علينا أن نكون واقعيين بشأن أن الإصلاح لا يتحقق من خلال اتفاقات يتم تدبيرها باللحظة او يتم تنظيمها وترؤسها من قبل مرتكبي الفساد والمستفيدين منه. الإصلاح لا يتم بالاستناد على شيء من هذا القبيل. وينبغي ألا يتم إسناد الإصلاح للأشخاص الذين يسعون إلى تحقيق المصلحة الذاتية ويتضررون من الإصلاح، أولئك الأشخاص الذين يكون نظامهم المناعي عملياً منيعاً بحيث لا يتأثر بالأفكار الجديدة. سيشارك هؤلاء الناس رغبتكم في الإصلاح، بل قد يشجعونكم في سعيكم إلى الإصلاح، ولكن لا يمكن الوثوق بهم. الإصلاح الذي يسعون إليه ينشأ عن الغضب الهستيري وغير المتوازن لتحقيق الإصلاح وسط حالة من الفوضى التي خلقوها.
ما نشهده اليوم هو فرصة ذهبية لحزبنا إذ يوجد كثير من الأشخاص الملتزمين جداً للقيام بالتغيير، وهناك كثير من الأعضاء المنفتحين على الأفكار الجديدة. إنها فرصة لا تأتي كل يوم، لذلك دعونا لا نضيعها في الأماني والانتظار. الإصلاح ضروري الآن حتى ولو اقتضى تأسيساً جديداً.