قندلفت القرية أو “الحضارة اليهودية الإسلامية؟” – د. تيسير كوى
نشأت صداقة بيني وبين قندلفت كنيسة القرية البريطانية التي أقيم فيها منذ نحو ربع قرن من الزمن. يختلف هذا القندلفت عن نظرائه في أنه هو الذي طلب من السلطات الكنسية التابع لها أن تعينه في مكانه لأنه يكتب منذ فترة نتائج أبحاث فكرية دينية ومقالات فلسفية لا ينشرها، ويجد في الحياة القروية المتواضعة ما يحتاج إليه من تفرغ للقراءة والكتابة بهدوء وسكينة.
أتيح لصديقي ولي مؤخراً فرصة لقاء مطول تجاذبنا فيه أطراف حديث طال وتشعب، بعدما كنا قد انقطعنا عن التواصل زمناً لأسباب ليس هذا المقال مكاناً مناسباً لذكرها. في سياق هذا التجاذب سألت صديقي القندلفت عن أسباب تحول عدد ملفت للنظر من الكنائس في المملكة المتحدة كلها من أماكن للعبادة إلى ملاه أو خمارات أو حتى مساجد للمسلمين المحمديين. تنهد القندلفت وقال إن أسباباً عديدة تقف وراء هذه الظاهرة، لكنني سأذكر سبباً واحداً فقط لأنه في رأيي من أهم هذه الأسباب وهو أن البريطاني العادي المعاصر يرى أن الكنيسة لم تعد تفيده في شيء، فالتعاليم الدينية لا تحل مشاكله التي تزداد تشعباً وتشابكاً. ولهذا صار يهملها ويهمل كل ما تمثله من رموز وعقائد وتوجهات. بكلام آخر، يجد البريطاني العادي صعوبة بالغة في التوفيق بين متطلبات القيم المسيحية الأساسية وبين متطلبات الحياة المعاصرة في الغرب، أي أصبح التقيد بمتطلبات القيم المسيحية عبئاً ثقيلاً بدلاً من أن يكون مصدر سعادة نفسية واطمئنان.
وهنا ابتسم القندلفت وقال إن ابتعاد الناس عن الكنيسة لا يعني أن “الدين” لم يعد له دور في حياة البريطاني العادي، إذ حلت محل الدين المسيحي التقليدي عقائد وتوجهات جديدة يبدو أنها أكثر ملاءمة لحل المشاكل، العادي العابر منها أو المقيم. وأضاف أن المجتمع البريطاني كله ربما ينتقل إلى ما يمكن أن نسميه مرحلة ما بعد الإيمان الديني التقليدي. على سبيل المثال، لم يعد المتقاضون في المحاكم البريطانية يقسمون بالله العظيم بل صار المطلوب أن يعد المتقاضي بقول الحقيقة ولا شيء غير الحقيقة. أي أن الوعد حل محل القسم الديني ما يشكل خروجاً بيناً عن المألوف ومخالفة لما كان شائعاً.
عند هذا الحد سألت القندلفت أن يعطيني رأيه في ما يجري في منطقتنا السورية. فاجأني صديقي في أنه مطلع يتابع ما يجري في بلادنا أكثر بكثير مما كنت أتوقع. فقد قال إنه ينتظر أن يؤدي ما يحصل في العالم الإسلامي حالياً إلى انقسام حاد بين المسلمين المحمديين يشبه إلى حد بعيد ما شهدته أوروبا في القرن السادس عشر عندما انبثقت الحركة الاعتراضية (البروتستانتية) أي حركة مارتن لوثر لأسباب سياسية واقتصادية في البدء، ثم تحول الانقسام إلى خلافات عقائدية مذهبية. فالسياسة بمعناها العام والمصالح السياسية والقومية في العالمين العربي والإسلامي طغت على الإيمان الديني وشوهته إلى حد لم يكن يتصوره أو يتوقعه أحد. وقد فسر البعض التعاليم الدينية بحيث تمكن من استخدامها لتبرير القتل والتدمير والتخريب الروحي والمادي، إذ صار هذا البعض يبسمل ويكبر بالله قبل الإقدام على القتل على نحو همجي ظن الإنسان العادي أن التجارب الإنسانية تخطته.
واستطرد القندلفت ليذكرني بأن نسبة كبيرة من المسلمين المحمديين أيدت جماعات بربرية مثل “داعش” و”جبهة النصرة”، وكانت تتمنى لها النجاح بحيث تستلم الأحكام وتتحكم بالأعناق والأرزاق وحركة التاريخ وتعيد عقارب الساعة إلى القرن السادس أو السابع الميلادي وتحيي الخلافة الإسلامية. وذكر أنه يتوقع أن يشهد العالم الإسلامي سلسلة من الزلازل الفكرية بعدما تتضح للأجيال القادمة ما جرى ويجري في بعض أنحاء العالم الإسلامي، لا سيما في منطقة الشرق الحضاري أي الهلال السوري الخصيب ووادي النيل واليمن.
أضاف القندلفت إلى هذا كله أن المسلم المحمدي سيخلص قريباً إلى أن الدين لم يوفر حلولاً لأي من مشاكله، بل صار الإنقسام على أسس مذهبية فكرية مشكلة جديدة في العالم الإسلامي تحتاج إلى حلول. بل يعني عملياً أن نسبة كبيرة من الأجيال الطالعة قد تتوصل إلى ما توصلت إليه أجيال مسيحية سابقة، أي أن الدين لم يعد يزود الإنسان بحلول لمشاكله وإنما صار هو نفسه مصدر مشاكل تحتاج إلى حلول، أي صار منفراً بدلاً من أن يكون عامل جذب وتوحيد. ثم أخرج القندلفت مقالاً كان قد أعده منذ زمن باللغة الإنكليزية جاء فيه:
“كشفت الأحداث التي تشهدها دول في العالمين العربي والإسلامي منذ نحو عقدين من الزمن أن ثمة إسلامين لا إسلام واحد: إسلام راق وإنساني وعقلاني ورحيم ومتنور ومنفتح ووطني من جهة، ومن جهة أخرى إسلام همجي منغلق تسوقه الغرائز والانفعالات والأوهام وتمثل آراؤه وأفعاله طعناً بالوطن ونقضاً للمواطنة. يمثل الإسلام الأول رجال دين من أمثال الراحل محمد حسين فضل الله ومفتي الجمهورية العربية السورية الحالي أحمد بدر الدين حسون. أما الإسلام الثاني فيمثله يوسف القرضاوي والفصيل الذي ينتمي إليه ويقتدي به ويخضع لفتاويه وأحكامه، كما يمثله الإخوان المسلمون على ما اتضح مؤخراً من سلوك رجب طيب أردوغان وحكام شبه الجزيرة العربية وغيرهم”.
يذكر في هذا المجال أن النصف الثاني من القرن العشرين الفائت شهد شيوع مقولة القيم أو الحضارة اليهودية المسيحية (Judeo-Christian Civilization). ويبدو أن ما يراد حالياً هو إشاعة قيم يهودية إسلامية التي يمثلها اتجاه عميق نحو افتعال العداوات والحروب أو إثارة ما هو سائر إلى زوال منها، ثم التوحش في القتل والتدمير. في الغرب عبّر عن التقيد بالقيم اليهودية المسيحية سلوك وممارسات رؤساء الجمهورية الأميركية والحكومات البريطانية والفرنسية المتعاقبة في العالم، بينما يعبّر عن التقيد بالقيم اليهودية الإسلامية سلوك جماعات مثل “جبهة النصرة” و”داعش”.
إذا أصغى المرء إلى خطاب الشيخ أحمد بدر الدين حسون في رثاء ولده سارية تكرس هذا الفصل في ذهنه ووعيه بين “الإسلامين” المشار إليهما، لا سيما بعد أن يسمع خطاب الرئيس المصري المعفى محمد مرسي الذي دعا فيه إلى “الجهاد” في سورية، وأعلن فيه قطع علاقات مصر الدبلوماسية مع سورية.
يتطلب تبلور هذين الإسلامين حلاً جذرياً إذا كان المراد بالفعل أن ينشأ في العالمين العربي والإسلامي جيل جديد يحترم دينه وعقائده وتقاليده وتاريخه وقبل كل شيء يحترم نفسه. تصاب ابنتي التي ستدخل الجامعة بعد فترة زمنية قصيرة بالذهول عندما تسمع ما يتردد من مواعظ وفتاوى في هذه الأيام، وتسألني بحسرة بينة: هل يعقل يا والدي أن يكون أمثال الشيخ أحمد بدر الدين حسون والشيخ الذي تبجح على شاشة التلفزيون بأنه نحر السيد وولده في دير الزور السورية، هل يعقل أن يكونا من أتباع دين واحد؟ وهل يعقل أن ينتمي رجل دين يدعو إلى القتل والتدمير ويقول ما لا يفعل ويسمي القتل جهاداً، وآخر يدعو إلى الحوار والمحبة والتفاهم والتكاتف والتكافل والتماسك والانفتاح على الآخر إلى دين واحد؟
أجيالنا الطالعة مسؤولية ضخمة وأمانة في أعناقنا جميعاً يجب أن نجنبها هذا النوع من المشاعر والانفعالات، ويجب أن لا نعرضها لهذه التناقضات في الفكر والخطاب والسلوك. الظاهر للعيان أن المسلمين المحمديين يتقاتلون حالياً فعلاً وقولاً على الجنة على رغم أن أحداً منهم لا يستطيع أن يجزم بأنه سيدخل الجنة مهما فعل. أيظن أحدهم أن سيد الكون سيدخل إلى جنته من يذبح ويقتل ويدمر مع التكبير والبسملة والحمدلة؟ يبدو أن الانقسام الفعلي في العالم الإسلامي ليس على أساس سني شيعي، بل هو انقسام بين إسلام حضاري وعصري من جهة وإسلام همجي يعود بالإسلام والمسلمين المحمديين إلى الجاهلية بكل معنى الكلمة… أو يجرهم وهم غافلون إلى قيم جديدة هي بالفعل قيم يهودية إسلامية.
لم افهم قول القندلفت عن قيم يهودية -إسلامية كما سميت في النص وما دخل ذلك بالقيم اليهودية-المسيحية ؟!