تقرير منظمة العفو الدولية: نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين
“إسرائيل ليست دولة لجميع مواطنيها… بل دولة قومية للشعب اليهودي..”[1]
رزان حلبي
أعلنت منظمة العفو الدولية، أمنستي، بتاريخ 2 شباط 2022 تقريرًا مطولاً بعنوان “نظام الفصل العنصري “أبارتهايد” الإسرائيلي ضد الفلسطينيين”، واصفة دولة الاحتلال بدولة فصل عنصري قائمة على نظام اضطهاد عرقي يمارس على الفلسطينيين في كافة أماكن تواجدهم. ويُفتتح التقرير بتصريح لرئيس حكومة دولة الاحتلال السابق، بنيامين نتنياهو، يقول: “إسرائيل ليست دولة لجميع مواطنيها… بل دولة قومية للشعب اليهودي.”
منظمة العفو الدولية هي منظمة دولية غير حكومية، تروج للدفاع عن كافة القضايا التي تتعلق بحقوق الإنسان وواحدة من أضخم مؤسسات حقوق الإنسان الدولية. عملت على نشر تقرير مفصل من 280 صفحة مقسمًا إلى عدة فصول مستهلاً بتعريف الفصل العنصري في القانون الدولي. يُفصّل التقرير فيما بعد سياسات القمع الإسرائيلي وكيفية الهيمنة على الفلسطينيين في كافة مجالات الحياة، عبر شرذمة الأراضي والتفرقة القانونية وسياسات السيطرة عبر استخدام الحكم العسكري لنزع ملكية الأراضي والممتلكات. بالإضافة إلى سياسات الحرمان من القومية والإقامة والحياة الأسرية. كما سياسات وضع القيود على التنقل وعلى المشاركة في الحياة السياسية وعمليات النقل القسري. فضلاً عن سياسات التخطيط والترسيم المجحفة وسياسات لكبح التنمية البشرية للفلسطينيين. إلى جانب ذلك، يفصّل التقرير جرائم دولة الاحتلال ضد الإنسانية تجاه الفلسطينيين، كالاعتقالات الإدارية والتعذيب وأعمال القتل والحرمان من الحقوق والحريات الأساسية والاضطهاد.
اشتمل التقرير في جملته على تحليل لأشكال التمييز المؤسسي والمُمنهج الذي تمارسه دولة الاحتلال ضد الفلسطينيين في إطار تعريف الفصل العنصري بموجب القانون الدولي. بداية، عمل التقرير على تحديد تعمد إسرائيل قمع الفلسطينيين والهيمنة عليهم عبر بسط سيطرتها على كافة أرض فلسطين، عبر عدة وسائل من بينها التكوين السكاني واستغلال الموارد المتاحة لمنفعة السكان اليهود على حساب الفلسطينيين. ثانيًا، قامت المنظمة بتحليل كافة الممارسات والسياسات والقوانين الإسرائيلية ذات الصلة والتصريحات الصادرة عن الحكومة الإسرائيلية ومسؤولين عسكريين التي تشكل الأدوات الأساسية لإقامة واستدامة هذا النظام. بالإضافة إلى السياسات التي تسهم في التمييز المجحف ضد الفلسطينيين وتسيطر على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، عبر مراجعة لوثائق حكومية أخرى كوثائق التخطيط والترسيم والميزانيات والإحصاءات وسجلات الكنيست (البرلمان) وأحكام المحاكم الاسرائيلية. تم هذا التحليل عبر فحص عناصر القمع والهيمنة الأساسية المتمثلة بشرذمة الأراضي والحرمان من المساواة في المواطنة وقوانين لمّ الشمل وفرض قيود على الحركة وقيود على الحق في المقاومة الشعبية وغيرها من التفاصيل. وفي هذا السياق، تحدثت المنظمة مع هيئات ذات صلة ومع مزاولين للعمل القانوني وباحثين وأكاديميين فلسطينيين وغير فلسطينيين ممن لطالما اعتبروا “إسرائيل” نظامًا استعماريًا “استيطانيًا” للقيام بتحليل قانوني مكثف للوضع، من بينهم، أحمد عمارة ونظمي الجعبة وأحمد السعدي ورشيد خالدي وإيلان بابيه وآخرون.
على هذا النحو، أثبتت المنظمة أن دولة الاحتلال قد فرضت نظامًا من القمع والهيمنة على الفلسطينيين في كل الأماكن التي تمارس فيها سيطرة على الفلسطينيين. أي على كافة أرض فلسطين والفلسطينيين اللاجئين وأبنائهم وأحفادهم. كما توصلت المنظمة إلى أن دولة الاحتلال ارتكبت جرمًا دوليًا يتمثل في تطبيقها لهذا الفصل العنصري التي سعت لتطبيقه عبر تجنيد جميع السلطات الإدارية المدنية والسلطات العسكرية الإسرائيلية تقريبًا. بالإضافة إلى جميع المؤسسات الحكومية وشبه الحكومية. قامت المنظمة بتوثيق هذه الممارسات على مدى عقود من بحوث مكتبية وميدانية لجمع الأدلة على هذه الانتهاكات. بالإضافة إلى مطبوعات صادرة عن منظمات فلسطينية و”إسرائيلية”، كالحق وبيتسيلم، ودولية ودراسات أكاديمية وما رصدته عبر المجموعات الشعبية الناشطة بالإضافة إلى تقارير صادرة عن هيئات الأمم المتحدة وخبراء وهيئات معنية بحقوق الانسان.
اللافت في لغة التقرير منذ البداية هو الانطلاق من الرواية الفلسطينية حول النكبة عام 1948 والحديث عن التطهير العرقي وربطها بأحداث اليوم، وربط كامل السياسات الإسرائيلية انطلاقًا من اللحظة الأولى. وهي إقرار ببنيوية العنف المستمر وبنيوية عنصرية دولة الاحتلال التي تمت ترجمتها عبر سياسات قمعية ممنهجة ومُمأسسة. فالانطلاق من النكبة وآثارها وربطه بكامل السياق والمشروع الأساس، يتوافق مع رؤية الفلسطينيين ويحترم روايتهم وفهمهم لواقعهم. كما يشير التقرير في مواضع مختلفة إلى عدم عبثية الانتهاكات بل يؤكد على أنها ممنهجة وضمن سياق أكبر مدروس ومُقَونَن وفي صلب عقلية هذا الكيان. يؤكد أن دولة الاحتلال، ومنذ نشأتها، اتبعت وما زالت سياسة صريحة تتمثل في إقامة وإدامة هيمنة سكانية يهودية بالإضافة لتحقيق أقصى حد من السيطرة على الأراضي لصالح الإسرائيليين اليهود. وهذه تعتبر لهجة جديدة في الخطاب العالمي الحقوقي حول القضية. اللافت أيضًا هو الحديث عن كل الفلسطينيين داخل حدود فلسطين المحتلة كاملة، قطاع غزة، الضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة عام 1948، أي فلسطين من النهر إلى البحر، يخضع لنظام فصل عنصري عرقي إسرائيلي. وهذا التصور يأتي مناقضًا لرؤية حل الدولتين الذي ينادي فيه الخطاب الدولي، والذي يتعاطى مع واقعين مختلفين منفصلين لا يعبران عن الواقع. بالإضافة إلى ذلك، تحدث التقرير عن الفلسطينيين اللاجئين وأبنائهم وأحفادهم وحقهم بالعودة. حيث تم تفصيل الفلسطينيين على حسب المعازل التي يعيشون فيها وبالتالي تفاوت درجات القمع بناء على الحالة القانونية التي تتبعها كل فئة. الأمر الذي يعتبر أيضا خروجًا على اللغة المعتادة التقليدية التي لطالما اعتبرت مشكلة اللاجئين مشكلة إنسانية وليست جزءًا من كامل القضية الفلسطينية السياسية.
تطرق التقرير بكل صراحة وبأماكن عدة، إلى الخطر الديمغرافي الذي يؤرق دولة الاحتلال والذي بناء عليه تسنّ جزءًا مهمًا من سياساتها لنزع الملكية ووضع قيود على لم الشمل وصعوبات العودة من الخارج. وأشار التقرير إلى أنه ومن كبرى تجليات القمع جاء بشكل صريح على شكل قانون الدولة القومية لليهود في إسرائيل لعام 2018 الذي رسخ مبدأ دولة إسرائيل هي الدولة القومية للشعب اليهودي وأن الحق في تقرير المصير يقتصر على الشعب اليهودي. ومن المهم الإشارة إلى أن القانون التشريعي الإسرائيلي يمنع المواطنين الإسرائيليين من الطعن بفكرة أن إسرائيل دولة يهودية. وبموجب قانون أساس كنيست عام 1958، يجوز أن تستبعد لجنة الانتخابات المركزية أي حزب أو مرشح من المشاركة في الانتخابات إذا كان الغرض من أهدافه أو أفعاله رفض تعريف إسرائيل بأنها دولة يهودية وديمقراطية. كما ويحظر تسجيل أي حزب تنكر أهدافه أو أفعاله بشكل مباشر أو غير مباشر: وجود إسرائيل كدولة يهودية وديمقراطية بموجب قانون الأحزاب السياسية لعام 1992.
من التغييرات اللافتة أيضًا، هو مساواة التقرير بين “عودة” اليهود عام 1948 وعودة اللاجئين الفلسطينيين، الأمر المثير في الخطاب العالمي تجاه القضية. فأضاف التقرير إلى أنه منذ تهجير الفلسطينيين في نكبة عام 1948، تمنع دولة الاحتلال اللاجئين وأبناءهم وأحفادهم، الذين فروا إلى المناطق التي كانت تتبع الأردن ومصر وإلى الدول العربية المجاورة وكذلك النازحين، من العودة إلى أماكن إقامتهم السابقة بناء على اعتبارات سكانية. في الوقت الذي تم فيه توجيه إعلان صدر عام 1948 يناشد فيه اليهود في شتى أنحاء العالم بالهجرة إلى “إسرائيل”. وفي عام 1950 تم منح كل يهودي الحق في الهجرة إلى “إسرائيل” بموجب قانون العودة الذي عقبه الحق التلقائي في الحصول على الجنسية الإسرائيلية بموجب قانون المواطنة عام 1952.
باختصار، فاجأنا التقرير بلغته الجديدة ولهجته الصارمة ودعوته للتعاطي مع الواقع بمفاهيم جديدة. إلا أن هناك تناقضات واضحة. وكأنها تقول، لا نستطيع التعاطي مع الواقع أكثر من ذلك. ونقصد هنا، عند الحديث عن توصيات المنظمة التي بجزء منها تدعو “إسرائيل” نفسها للتوقف عن ممارسات الفصل العنصري ووقف العنف بالوقت الذي يذكر فيه التقرير وبالدليل أنه نظام من الاضطهاد الممأسس وأن العنف قانوني وأن كامل هذه الانتهاكات ليست طارئة بل هي جزء من بنيوية النظام.
من ناحية أخرى، فإن جزءًا كبيرًا من هذه الأدلة، التي وجدت منظمة العفو الدولي فيها حجة ودليلاً لتوصيف دولة الاحتلال بدولة فصل عنصري، هو دليل على أنها نظام استعمار استيطاني، وليست فقط دولة فصل عنصري، والتي يشكل الأصلاني فيها تهديد وجودي. وتقوم دولة الاحتلال بابتكار كافة الوسائل والأدوات عبر تجنيد كافة مؤسساتها الحكومية وغيرها لغرض تقويد الأصلاني والقضاء عليه في شتى أماكن تواجده. الأمر الذي لم يذكره التقرير، ولربما هكذا تقرير يكون خطوة لوضع دولة الاحتلال في سياق أعم وهو أنه نظام استعمار استيطاني. فالاستعمار الاستيطاني ليس مبنيًا على اليد العاملة والسوق كحالات استعمارية مغايره بل يقوم على الأرض، كما حالة دولة الاحتلال وحالة أمريكا. الأمر الذي يشير بالضرورة إلى بنيوية العنف وسهولة استخدامه كونه في طبيعة هذا النموذج، نموذج الاستعمار الاستيطاني. من ناحية أخرى، استخدم التقرير مصطلحات وأفكارًا متفقًا عليها “عالميًا” من باب التخفيف ربما، رغم عدم الشعور بالحاجة لهكذا تخفيف، كاستخدام نزاع بدل نكبة، و(أراضي) فلسطينية محتلة، والتغاضي عن فكرة احتلال أراضي فلسطين المحتلة عام 1948 واعتبارها “إسرائيل.”
رغم كل ما سبق، يمكننا القول إن أهمية هكذا تقرير تكمن في طرح توصيف وأدلة مكتوبة وصادرة عن واحدة من أكبر المنظمات الحقوقية ذات المصداقية بالنسبة للعالم والتي وإن لن يؤخذ بشكل مباشر بأدلتهم، إلا أنه سيؤثر على الاحتلال عبر دليل مكتوب يصف الاحتلال ويخاطب العالم. فالتقرير لم يجىء ليحدثنا نحن من هي “إسرائيل” التي نعرفها جديًا، فنحن نعيش تفاصيل التقرير، بل هو وثيقة تخاطب العالم بلغة العالم. بالإضافة إلى أنه يضرب فكرة حل الدولتين بعرض الحائط، الحل الذي ما انفكت دول كثيرة في العالم على تبنيه بسذاجة وطرحه كحل أوحد وحيد، مع التغاضي عن كل السياق الاستعماري منذ عام 1948 وعن الواقع المعقد غير المنفصل. وهو الأمر الذي أشارت كل الأدلة إلى استحالته، سواء عبر نظام الابارتهايد الذي تأسست وتعتاش عليه دولة الاحتلال أو عبر الأفكار البنيوية التي قام عليها المشروع الصهيوني وهي العنصرية والعنف والقومية العرقية اليهودية التي تجعل من حل الدولتين ضربًا من ضروب المستحيل.
[1] رسالة نُشرت على الإنترنت في آذار / مارس 2019 من قبل رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، بنيامين نتنياهو.
روابط التقرير:
https://www.amnesty.org/ar/latest/campaigns/2022/02/israels-system-of-apartheid/
https://www.amnesty.org/en/documents/mde15/5141/2022/en/