النزعة الفردية في الحزب
د. عادل بشاره
عندما تصبح النزعة الفردية قاعدة ، تصبح المقاومة واجبة.
عندما كتب سعادة: “يجب على القوميين الاجتماعيين أن يكافحوا النزعة الفردية مكافحتهم الاحتلال الأجنبي، بل أشد. فخطر الاحتلال الأجنبي من الخارج، أما خطر النزعة الفردية على سلامة المجتمع فمن الداخل” كان يعرف بالضبط ما الذي كان يقصده. إذ لا يمكن لأي شيء أن يضر بمؤسسة ويمزقها إربا أكثر من النزعة الفردية، التي تعني بالأساس إظهار الأنا وفرض السيطرة بأي أسلوب. وتكمن الطبيعة المعقدة للنزعة الفردية في إمكانية جعل المشاكل التي تنجم عنها خطيرة وغادرة للغاية فيصعب التعامل معها بمجرد خروجها عن نطاق السيطرة.
طبيعة النزعة الفردية
لفهم سبب خطورة النزعة الفردية، من الضروري أولاً فهم طبيعتها وأعراضها:
- تنشأ النزعة الفردية من الميل الفطري للإنسان لرؤية العالم من منظور ضيق يسخره في خدمة الذات. وينظر أصحاب النزعة الفردية إلى العالم من منظور كونه وسيلة أو أداة في خدمة مصالحهم وغايتهم الخاصة، التي غالبا ما تكون غير معلنة أو معروفة لدى عامة الناس. وتعمل هذه الغريزة باستمرار بالتلاعب بالظروف والأشخاص وفقا للمصالح والمقتضيات الأنانية.
- النزعة الفردية غير عقلانية ولكن يمكن أن تكون فاعلة ضمن منطق غير متوازن. فبغض النظر عن مدى تمادي الفكر غير العقلاني أو المدمر، يبقى أن صاحب هذا الفكر يتعاطى مع الأمور من منظور أناني فيبدو له تفكيراً صحيحا وحقيقيا وجيدا ومبررا، أي أنه تفكير منطقي. وبالتالي، فإن الطبيعة الأنانية تخلق حاجزًا هائلاً أمام التفكير النقدي والتحليل الموضوعي للحقائق من اجل الوصول إلى استنتاجات منطقية.
- النزعة الفردية بطبيعتها غير مبالية بالمبادئ الأخلاقية أو الضمير السليم. فالمرء صاحب هذه النزعة لا يمكنه التوفيق ما بين العمل من أجل الحصول على ما يريده بأنانية وبين مراعاة حقوق الآخرين واحتياجاتهم. الحالة الوحيدة التي يأخذ فيها الأشخاص الأنانيون الآخرين بعين الاعتبار، هي عندما يرغمون إلى اللجوء إليهم للحصول على ما يريدون. على سبيل المثال، قد يأخذ السياسي صاحب النزعة الفردية في الاعتبار آراء مجموعة ذات مصالح عامة فقط عندما تعتمد إعادة انتخابه على دعم هذه المجموعة . فهولا يركز على عدالة قضية هذه المجموعة، بل على إدراكه أنه إذا فشل في إثبات صحة هذه الآراء علانية، سترفض هذه المجموعة دعم إعادة انتخابه. سيهتم فقط بشأن ما هو في مصلحته الأنانية. وبما أن المطلب أناني بحكم تعريفه، لن يتم، إذن، النظر إلى حقوق واحتياجات الآخرين على أنها ذات صلة.
- النزعة الفردية مخادعة. فبمجرد أن يطغى التفكير الذاتي المتمحور حول ال”أنا”، تبدأ عند المرء عملية إطلاق المبررات تلقائيا، ويخادعها ليُصدّق هو نفسه أن موقفه هو الموقف الوحيد الذي يمكن تبريره، فيرى نفسه على أنه يمارس التجربة الحقيقية ، بغض النظر عن مدى دقة صورة الأشياء التي يرسمها أو عدمها. ارتكازا على فعالية الأفكار المنطقية ، يمنع هذا الخداع المحترف للذات تصويب الأخطاء المشوهة. وكلما أصبح صاحب النزعة الفردية أكثر قدرة على خداع الذات، قلَّ احتمال إدراكه لعدم العقلانية لديه ، وكلما قلَّ احتمال أخذه بعين الاعتبار للمعلومات ذات الصلة التي تمنعه نزعته الفردية من إدراكها، أصبح أقل قدرة على تطوير معتقدات عقلانية ووجهات نظر حقيقية.
سعاده والنزعة الفردية
لماذا أولى سعاده النزعة الفردية عناية واهتماماً خاصّين؟ الجواب هو أن النزعة الفردية، عدا عن تفشيها الواسع والخطير في أوساط الشعب السوري، تُشكّل حاجزا لا يُستهان به أمام وحدة المجتمع ونهضته وفعالية مؤسساته. وهذه الخلاصة تنطبق على حزبنا قبل غيره من حيث إنه مؤسسة ومجتمع بحد ذاته. والسؤال هو لماذا؟
لا يمكن التوفيق بين النزعة الفردية وجوهر المسعى القومي المتجسد في مبادئ الحزب وغايته، لأن هذه النزعة تجبر الفرد على رؤية كل شيء في العالم من خلال علاقة المرء مع الذات الفردية بدلا من العلاقة مع الذات الاجتماعية، حيث إن مجرد بروز النزعة الفردية يمكن أن يؤثر سلبًا على أمور عدة، مثل:
- الثقة
- الروح الرفاقية .
- سلامة القرار .
- التعاون .
- العمل الجماعي .
- لا يمكن لأي منظمة ، سواء كانت حزبنا أو أي حزب آخر، أن تحقق غايتها، خاصة إذا كانت ذات طابع قومي اجتماعي، دون هذا المزيج من العوامل الذي لا غنى عنه في أي مشروع نهضوي. لا ينحصر تأثير النزعة الفردية فقط على تشويه هذا المزيج إنما كذلك على استنزافه بشكل كامل وإبطال مفعوله.
- إلى جانب الأحكام المسبقة ، وأنصاف الحقائق، والتحيزات ، والغموض ، والغرور ، وما شابه ذلك من عيوب، تعزز النزعة الفردية التفكير غير المنطقي واللاعقلانية على حد سواء وبوتيرة تراكمية ومعدية. هذا أمر خطير جدا ليس فقط لأنه من العوامل التي قد تعيق جهود المجموع، ولكن لأن اللاعقلانية تتنافى كليا مع المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه أيديولوجية حزبنا، أي العقل البشري. وإذا كنا نؤمن مع سعاده بأن العقل هو الشرع الأعلى ، فيجب علينا أن نكون مستعدين لرفض اللاعقلانية بجميع أشكالها ومظاهرها. النزعة الفردية هي شكل من أشكال الخداع الذاتي؛ والتفكير الذاتي المخادع هو وسيلة لتحقيق غايات غير منطقية؛ والأهداف غير المنطقية تتعارض مع هدف العقل.
- تسير النزعة الفردية على عكس غاية الحزب لأنها تحقق فقط مصلحة الفرد. فهي مبرمجة ليس لتحقيق هدف المجموع بل لتحقيق هدف فرد أو أفراد معينين بحد ذاتهم. وقد يُظهر الأفراد من أصحاب النزعة الفردية بعض الولاء للهدف العام ، ولكن فقط عندما يكون بمثابة الغطاء لهدفهم الحقيقي.
- البعد اللاأخلاقي للنزعة الفردية، ويتمظهر في أكثر من مظهر، كالميل إلى الاهتمام بالذات بدلاً من الآخرين، وتشكيل الرغبات ومتابعتها، وإغفال آثارها المترتبة على المجتمع والسعي إلى الشعور بالانتصار والنجاح على حساب الآخرين، هو من الأمور المنافية تماماً للأسس الأخلاقية التي قام عليها حزبنا والمتمثلة بالتضحية بالنفس، والولاء للجماعة، والاستقامة الفردية، والصدق السياسي، وما إلى ذلك.
- تخلق النزعة الفردية جوا من العداء والتنافس في صفوفنا، وهذا يتناقض مع روح الوحدة والتضامن المطلوبة منا من أجل الحفاظ على الحزب. ولا يمكن أن يكون هناك اتحاد في التوجّه والرؤية مع وجود النزعة الفردية، خاصة في أوساط القيادات الحزبية التي يفترض ان تكون منزهة من تلك النزعة. ومما لا شك فيه أنه من الأفضل أن تُبذل الطاقات والموارد على الأمور التي من شأنها أن تخلق مناخا من الوحدة والإجماع وتعزز صفوف الحزب، بدل من هدرها من أجل إرضاء غرور أولئك الذين يعانون من النزعة الفردية.
- تحول النزعة الفردية دون تحقيق الحزب للإمكانات العقلانية لأنها تتحول إلى غطاء لجداول وأعمال مبطنة. فهي تحشر قادته في زاوية واحدة في الوقت الذي قد تكون فيه وجهات النظر الأخرى ذات صلة ملائمة أو أفضل. كما تمنع التفكير النقدي والبناء وتخلق ذهنية تنزع غالبا إلى تهميش الملتزمين بالمبادئ والنزاهة الذين يسعون جاهدين لتوظيف تجارب الحزب خدمة لمصالحه وغايته.
- تعزز النزعة الفردية داخل الحزب طرق غير شرعية لكسب السلطة واستخدامها لمأرب شخصية ، وهي بذلك تدفع بعض الأعضاء إلى السعي لتلبية رغباتهم الأنانية إما مباشرة ، من خلال ممارسة القوة والسيطرة علنا على الآخرين، أو بشكل غير مباشر ، من خلال خضوعهم لأولئك المتسلطين. وهذا يؤدي إلى نشوء شكلين متمايزين من استراتيجية النزعة الأنانية هما:
أ. فن السيطرة على الآخرين (وسيلة مباشرة للحصول على ما يريده المرء)؛
ب. فن الخضوع للآخرين (وسيلة غير مباشرة للحصول على ما يريده المرء).
وكلا الفنين لا يتطابقان مع فكر سعاده. فحسب مفهوم سعاده للسياسة، يجب تفكيك مثل هذه الممارسات التي تنتمي إلى المجتمع القديم، وذلك لإفساح المجال لممارسات وتوجيهات جديدة اكثر اتساقا مع روح العصر والارتقاء البشري.
النزعة الفردية في الحزب
على الرغم من التحذير الصارم الذي أصدره سعاده منذ حوالي سبعين عاماً، تحولت اليوم النزعة الفردية داخل الحزب إلى خطر داهم يهدد استقراره ووحدته بشكل كامل.
يمكننا أن نرى النزعة الفردية في الأفراد الذين يريدون أن يتبوؤوا مراكز قيادية غير مبالين بعدد ونوعية الأشخاص الذين يقودون: المهم أن يقودوا؛
ويمكننا أن نراها في أولئك الذين لا يهتمون بالمصير الذي ينتهي إليه الحزب أو باوجهة الصحيحة له طالما أنهم يسيطرون، وهم في ذلك مثل السائقين الذين لا يعرفون وجهتهم، بل وأيضا لا يستمعون إلى الركاب حين يقدمون النصائح حول الوجهة الصحيحة. وعادة، يتوقفون فقط عندما يكونون قد حطموا السيارة أو باتت تعاني من أعطال ميكانيكية تمنعها من المضي قدما؛
ويمكننا أن نراها في أولئك الذين يعتقدون أن الحزب في حالة جيدة لأنهم مرتاحون في مناصبهم. إنهم مثل المواطن الذي لا يبالي بالخراب من حوله لأن ذلك خارج محيط منزله أو منطقته.
ويمكننا أن نراها في أولئك الذين يرددون مواعظ الاحترام والتقيد بدستور الحزب، ولكنهم يفعلون ذلك بعد أن انتهكوا كل القوانين الدستورية للوصول إلى ما هم عليه الآن؛
ويمكننا أن نراها في من يقفون في وجه الإصلاح والتقدم في الحزب خدمة لطموحات شخصية أنانية ومكاسب صغيرة يحققونها لأنفسهم.
ويمكننا أن نراها في أولئك الذين لا يأخذون بعين الاعتبار حقوق واحتياجات الآخرين، كما أنهم لا يقدرون وجهة نظر الآخرين أو الحدود في وجهة نظرهم لأنهم ملتزمون بخدمة مصالحهم الأنانية.
ويمكننا أن نراها في أولئك الذين يستخدمون مصطلحات أخلاقية في تبريراتهم ومعايريهم ولكنهم لا يستجيبون للاعتبارات الأخلاقية عندما يقتضي الأمر منهم. وهم، في الواقع ، لا يحترمون المبادئ الأخلاقية، بل يلجؤون إليها فقط حين تبرر لهم حصولهم على ما يريدونه لأسباب أخرى.
ويمكننا أن نراها في أولئك الذين يختارون تجاهل التعقيدات الحقيقية والمهمة في الحزب لصالح المفاهيم التبسيطية، لا سيما عندما يتطلب منهم النظر في تلك التعقيدات تعديلاً في مواقفهم أو تضحية ببعض مصالحهم.
ويمكننا أن نراها في أولئك الذين يدعون أمام الآخرين بأنهم أعضاء مخلصون ولكنهم يتجاهلون كل مبدأ أساسي إذا كان القيام بذلك سيمكنهم من الحفاظ على قوتهم أو كسب المزيد من القوة والمزايا.
ويمكننا أن نراها في أولئك الذين يفتخرون بالشفافية والنزاهة ولكن ليس لديهم أي هدف آخر سوى الاغتناء وإثراء أنفسهم.
ويمكننا أن نراها في أولئك الذين يحاضرون عن النظم الديمقراطية في الحزب، على الرغم من أنهم وصلوا إلى السلطة أصلا بطرق غير ديمقراطية، من انقلابات ومؤامرات دموية إلى اعتماد أساليب امنية وترهيبية بمؤازرة قوى خارجية.
نعم ، النزعة الفردية متفشية في الحزب، ويعاني الحزب من الركود والانهيار السريري لأن النزعة الفردية منتشرة وبشكل منتظم وروتيني على كل مستوى من مستويات مؤسساته. وحقيقة أنها راسخة ومنتشرة في أوساط القيادات العليا، وهي سبب أكثر لمزيد من القلق، لأنه يفترض أن تكون تلك الأوساط بمثابة عيادة دائمة لعلاج النزعة الفردية ومنعها ، وليس كحقل للانخراط وممارسة النزعة الفردية فيه.
علاج النزعة الفردية
إن النزعة الفردية عبارة عن مظهر من مظاهر الأمراض النفسية، والتعامل معها أمر شاق ومليء بالتحديات. لا تكمن الصعوبة في تحديد من يعانون من النزعة الفردية، إنما، وهو الأصعب في ذلك إن لم يكن مستحيلا ، هي في الحصول على اعتراف شخص ما بأنه يعاني من النزعة الفردية. ويعود ذلك إلى أن من يعاني من هذا الداء يقع تحت سيطرته فيبرر تصرفاته، تبعاً لصفة المخادعة التي سبق وتحدثنا عنها، بأن موقفه هو الموقف الوحيد الذي يمكن تبريره.
ومع ذلك ، هناك طرق للسيطرة والحد من انتشار النزعة الفردية ، أحدها هو تعزيز المحاسبة أو استحداث آليات جديدة واضحة ومحددة وصارمة وعاجلة للمساءلة. وطريقة أخرى يمكن اعتمادها تتمثل في تعزيز مبادئ وممارسات المساءلة الأخلاقية لتحسين المستوى الداخلي للسلوك الفردي والجماعي وذلك عن طريق زيادة الوعي بمسألة النزعة الفردية على جميع المستويات في الحزب، خاصة في الصف الحزبي. وهناك أيضا العديد من الاستراتيجيات والخطط التي يمكن تبنيها أو تطويرها لمكافحة النزعة الفردية، ولكن في النهاية، تتوقف كلّها على إمكانية بناء مؤسسة يقودها رجال ونساء قادرون على التفكير والتصرف بعقلانية وخلق ثقافة موجهة بقوة ضد هذه النزعة الهدامة.
وعليه، يجب تطهير المؤسسة الحزبية من أصحاب النزعة الفردية وذلك إذا كنا جادين بشأن مستقبلها. هذه خطوة لا بد منها لإفساح المجال أمام المخلصين والمصلحين الحقيقيين لكي يتمكنوا من إنشاء مؤسسة تحث الأعضاء على احترام التفكير العقلاني حتى ولو كان لا يتلاءم مع وجهات نظرهم ومعرفتهم بكيفية مراعاة وجهات نظر الآخرين؛ وكذلك توعيتهم بالآثار المترتبة عن تفكيرهم وسلوكهم الخاص؛ وتدريبهم على تحديد الهفوات المتعلقة بمنطق تفكيرهم والإقرار بأن هذه الهفوات إشكالية؛ وتمكنهم من تطوير فكر عقلاني واستخدام هذا التطور لمقاومة أو تصحيح أنماط التفكير الأناني.
يتطلب هذا الأمر مستوى معيّنًا من الالتزام والتخطيط، وهو ينطوي على تفكير منضبط، واستعداد العضو لتحمل المسؤولية والخضوع إلى المساءلة. وهذا بدوره يعني تطوير صوت داخلي يرشد التفكير ويساعد على تحسينه. كما يعني التمعن أكثر في الآثار المترتبة على التفكير قبل القيام بالفعل. إنه ينطوي على تحديد ومراقبة أهدافنا وجدول أعمالنا، والتحقق صراحة من النزعة الأنانية. إنه ينطوي أيضا على تحديد التفكير غير المنطقي وتحويله إلى تفكير عقلاني.
قد يبدو الأمر طموحا مبالغًا فيه، ولكن هذا بالضبط ما توقعه سعاده من مؤسسة الحزب.
لا يمكن التوفيق بين النزعة الفردية وجوهر المسعى القومي المتجسد في مبادئ الحزب وغايته
نفتقد اليوم روح الجماعة
تحيا سوريا
ن . م