العنوان المريب
سامي سماحة
أنطون سعاده من شاعر ضل الطريق الى فاشل في السياسة والإذاعة! لا شك أن العنوان مريب وصادم، ولكن الشاعر والسياسي زيد قطريب خلّصنا من الاستغراب بعد أن قرأنا السطر الأول من المقالة، وأدخلنا في جدلية العلاقة بين الشعر والفلسفة والسياسة، واستطاع بأسلوبه السلس وسرد الوقائع والتحليل أن يشرح العلاقة بين الأقانيم الثلاثة في الفلسفة السورية القومية الاجتماعية.
زيد قطريب لا يحب المشاكسة من اجل المشاكسة، ولا يكتب على طريقة شوفيني يا منيرة، لذلك تجد النقد عنده وسيلة للتوضيح والتعليل والاستنتاج ومن ثم بناء الموقف الايجابي مهما حمل النقد من سلبيات.
فهو يرأف بحال الشاعر محمد الماغوط الذي اعتبر أنطون سعاده شاعراً ضل ّالطريق، ويذكر الأسباب المخففة للحكم عليه، لأنه دافع عن الحزب وعقيدته عندما كان الحزب يمر بأزماته الكبيرة، وأبدع في كتابة القصائد والمقالات القومية والمسرحيات التي عالجت أوضاعنا الاجتماعية والسياسية بأسلوب مباشر وسهل.
أوضح قطريب ما معنى أن يكون صاحب النظرية الجديدة إلى الحياة والكون والفن شاعراً، وما معنى أن يكون صاحب فكرة بناء الدولة على طريقة الديمقراطية التعبيرية شاعراً، وإذا أردنا أن ننصف زيد قطريب نقول: إنه أول من كتب عن أثر سعاده الشاعر بسعاده القائد والفيلسوف، ليس فقط في بناء عقيدته بل في كل تفاصيل حياته.
أجاد قطريب عندما جعل فاتحة مقالته: يقتضي ألا يكون هناك محرمات على البحث وطرح الأسئلة والمكاشفات.
نعم يا رفيقي وصديقي فقد فعلت فينا المحرمات كما يفعل السوس بخشب التفاح، التزمنا بالمحرمات فدخلنا في أتون الانشقاقات، ووقعنا في جبّ التبريرات، وفي جبهة الدفاع عن باطل نحن نعتبره باطلاً، ولكن كي لا تتوسخ ثياب أولي الأمر، سكت السوريون القوميون الاجتماعيون وبلعوا الطُعمَ، ولم يصمت من ارتكب الفساد والانحراف، بل زاد من سلوكه لأنه اطمأنّ لعدم خضوعه للمحاسبة الجدية التي تقصيه من صفوف النهضة.
بدأت بذكر ما كان محرّماً على القوميين انتقاده والمتعلّق بشخصية الزعيم وبشاعر كبير كان من المساهمين بتأسيس الحداثة في الشعر والمقالة والمسرح، فكنت كمن يقول: إذا أردت تقليم الشجرة كي تصبح نضرة وتعطي موسماً كبيراً عليك أن تبدأ بالغصن الكبير.
نحن لم نحاول ولمرة واحدة فقط ممارسة فن التقليم لحزبنا، وتركنا أغصانه تتشابك وتتسابق إلى أن أصبحت عاجزة عن إعطاء الثمر، انظر إلى حالنا التي تتحدث عن قدوم الزمن الصحراوي.
يقول الرفيق زيد: هي ميزة من ميزات القوة لديه أن يذهب الى السياسة حاملا مخيلة خصبة وثقافة غنية. يا رفيقي لم نعتد حتى الآن على وجود السياسي الشاعر والأديب وإذا وجدناه يلبطه بغل السياسة خارج منظومة العمل السياسي.
للساسة في بلادنا مخيلة خصبة، ولكن هذه المخيلة لا تقوم على الثقافة ولا على الوجدان القومي بل تقوم على فكرة تراكم رأس المال، وتكبير حجم الممتلكات والإكثار من اكتساب الألقاب، أما مخيلة أنطون سعاده فكانت تقوم على طحن ثقافة الدنيا منذ بدء الاجتماع البشري حتى القرن العشرين في طاحونته لكتابة عقيدته الجديدة إلى الحياة والكون والفن.
لا تجوز المقارنة، ولكن لا بد من الإشارة إلى منطلقات كل فئة من ذوي الألقاب، فلقب الزعيم والمؤسس والقائد القدوة والشاعر في النشيد الرسمي وكاتب القصة في فاجعة حب وعيد سيدة صيدنايا، لا يشبه أبداً أولئك الذين اكتسبوا ألقابهم من النزعة الفردية التي حكمت سلوكياتهم.
ميزة الشاعر المبدع الصدق والوفاء والاندماج في قضايا الوطن حتى الثمالة، وهذا ما أخذه سعاده من الشاعر ليكتب فلسفته.
تقول يا صديقي: لو لم يدخل سعاده بمخيلات الشعراء لما ذهب طوعا الى الاستشهاد. هذا افتراض ممكن، ولكن ليس هو الافتراض الوحيد.
لا أعتقد أن سعاده أراد أن يتقمص المتنبي في موقفه. قد يلتقي سعاده مع المتنبي بموهبة النفسية الشعرية، وقد يلتقي معه أيضاً بموضوع استلام الدولة، ولكن الفرق كبير جدا بين الرجلين. كان يريد المتنبي سلطة يمنحها له كافور الإخشيدي لقاء قصيدة مدح، أما سعاده فإنه كان يريد بناء دولة هادية للعالم.
نعم افتراضك ممكن ولكن يجب أن نضيف عليه افتراضاً آخر، وهو أن سعاده أراد المحاكمة، المحاكمة التي اعتاد عليها وانتصر في كل جولاتها، حتى أصبحت جزءاً من تاريخ الحزب، ولو حصلت تلك المحاكمة فكانت ستصنّف في خانة أهم المحاكمات في التاريخ القديم والحاضر، لأن سعاده من أهم الرجال في التاريخ الماضي والحاضر. وسيكون في المحاكمة الدفاع والادعاء والمدعي العام والقاضي الذي سيصدر الحكم.
نعم رفيقي لأن إضافة الشاعرية للقائد والفيلسوف، لا تدفعه إلى هلاك نفسه.
لم يُكمل سعاده رحلة خروجه من دمشق لأنه أراد المواجهة عبر المحاكمة وقد يكون وضع في عقله خيار الإعدام دون محاكمة.
لا أريد الكتابة عن سعاده الفاشل في السياسة، فلهذا الموضوع مكان آخر وشرح آخر وموقف آخر.
لك الشكر مرتين: الأول لأنك اجتهدت وأحسنت الاجتهاد..
الثاني لأنك فتحت مجال الاجتهاد أمام قلمي وأقلام غيري ممن يشبهونك.