الشام، في الإصلاح القضائي- نورس الديب

image_pdfimage_print

في خضم الصراعات العديدة الدائرة على أرض الشام، يتبادر إلى أذهان السوريين بين الفينة والأخرى تصور عن وضع البلاد والخطط التي من المفترض أن تكون الحكومة الشامية قد بدأت بالعمل على تجهيزها لمرحلة ما بعد الحرب. وإذا كانت إعادة إعمار الحَجَر أمرًا مفروغًا منه، فإن الخطة التي يجب التركيز عليها هي إعادة اللحمة والانسجام للنسيج الاجتماعي في الشام والذي أثّر به ما أثّر من حرب وتهجير.

الخطوة الأولى، في رأينا، يجب أن تكمن في إعادة الثقة بين الدولة، ممثلةً بمؤوسساتها، والمواطن. فمما لا شك فيه أن فقدان عامل الثقة بين الدولة والمواطنين كان أحد العوامل المنشئة والمؤججة للحرب الشامية.

عند حديثنا عن المؤسسات، تتبادر إلى أذهاننا المؤسسة القضائية التي قدمت عددًا ليس بالقليل من الشهداء على مذبح الحرب السورية. فبحسب مقابلة لوزير العدل السوري، هشام الشعار، مع موقع سيريا ستيبس، بلغ عدد الشهداء من القضاة خلال الحرب ثلاثة وثلاثون قاضيًا. إضافة إلى ذلك، فقد كان لاستمرارها في أداء عملها عظيم الأثر في طمأنة النفوس، في بعض الأحيان، إلى أن هناك من يحمي الحقوق ويمنع التعديات. في المقابل، فإننا نجد عددًا ليس بالقليل من القضاة قد استغل الأزمة لجمع الثروات.

تكثر القصص المتداولة في أروقة المحاكم السورية عن أناس خسروا حقوقهم ليس لسبب سوى أن خصومهم كانوا “أشطر” منهم في عملية اختيار “السمسار” ودفع “المعلوم”. والسمسار، في غالب الأحيان، هو أحد المحامين الذين يشكل صلة الوصل بين أحد اطراف النزاع والقاضي، والذي تجري من خلاله عملية التفاوض. من هنا يأتي البحث في أسباب في ظاهرة الفساد في المؤسسة القضائية السورية. ومع أن إعطاء جواب مختصر لهذه الإشكالية ليس بالأمر السهل لارتباطه بعدد من العوامل التي سنتناول بعضها في هذا المقال منطلقين من استقلال القضاة واَلية تعيينهم، وصولًا إلى الوضع الاجتماعي العام في الشام، قبل الحرب وبعدها.

تقسم السلطة في الشام، كما في معظم دول العالم، إلى ثلاثة أقسام مستقل واحدها عن الآخر: التشريعية والتنفيذية والقضائية. ولما كانت مهمة السلطة التشريعية تنحضر في وضع التشريعات والمحاسبة (المقصود بالمحاسبة هنا محاسبة السلطة التنفيذية في حال تقصيرها)، تقوم السلطة التنفيذية بوضع وتنفيذ الخطط والسياسات العامة. أما الدور الأهم، في رأينا، فهو بيد السلطة القضائية، لأن هذه السلطة تشكل الضمانة لحماية الحقوق وفض النزاعات، ليس بين الأفراد وحسب بل بين الأفراد ومؤسسات الدولة أيضًا.

بناءً على ما سبق، سوف نقوم في البحث باستقلال السلطة القضائية في سوريا بهدف معرفة ما إذا كانت هذه السلطة تتمتع بالقدر الكافي والمطلوب من الاستقلالية لممارسة أعمالها، أم أن هناك ما يحول بينها وبين هذه الاستقلالية.

توالى على الجمهورية العربية السورية منذ تأسيسها سنة 1920، ستة عشر دستورًا، كان اَخرها دستور العام 2012. تضمّن الفصل الثالث من الباب الثالث من هذا الدستور النصوص المتعلقة بالسلطة القضائية. ولا نبالغ إذا قلنا أن من بين هذه الأحكام ما يشكل انتهاكًا واضحًا لمبدأ استقلالية القضاء. لتبيان ذلك، سوف نقوم بإجراء مقارنة بين دستور العام 1950 الذي كان اَخر الدساتير التي نصت على النظام البرلماني. والذي أعيد العمل فيه في الفترة الواقعة بين عزل أديب الشيشكلي والوحدة مع مصر، والدستور المعمول به حاليا.

نصب دستور العام 2012 في المادة 133 منه، كما العديد من الدساتير التي سبقته، رئيس الجمهورية رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى. يشكل هذا النص برأينا تدخلًا سافراً في عمل السلطة القضائية وانتهاكاً واضحًا لمبدأ فصل السلطات. فكيف للجهة الضامنة لاستقلال القضاء أن تكون مرؤوسة من قبل رئيس السلطة التنفيذية في البلاد؟! يضاف إلى النص السابق أن نائب رئيس مجلس القضاء الأعلى في سوريا هو وزير العدل. في الإجابة على هذه النقطة، يصر السيد وزير العدل، هشام الشعار، على أن “وزير العدل هو عضو من الحكومة وبالتالي هو موظف كأي موظف فهو لا يتمسك بمنصب نائب رئيس مجلس القضاء الأعلى لغاية شخصية.” لا يجيب تعليق السيد وزير العدل على إشكالية انتهاك فصل السلطات، والأهم، أن السيد الوزير قد تجاهل – وهو من أمضى أكثر من 35 عامًا في القضاء – النص الستوري القاضي بأن رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء الأعلى. بالعودة إلى دستور العام 1950، نجد أن رئيس المحكمة العليا هو من يرأس مجلس القضاء الأعلى.

إضافة إلى ذلك، نصت المادة 137 على أن النيابة العامة هي مؤسسة واحدة يرأسها وزير العدل. لا يخلو هذا النص، كحال سابقه، من انتهاك سافر لفصل السلطات وتنازع واضح في المصالح. فكيف لوزير العدل، الذي هو عضو في السلطة التنفيذية أن يرأس مؤسسة النيابة العامة التي من المفترض أن تكون خصمًا عامًا وعادلًا. وتجدر الإشارة هنا إلى قراررات نقل وترفيع السادة القضاة تصدر عن السيد وزير العدل، وإن كان ذلك يتم بالتشاور مع مجلس القضاء الأعلى. هذا وحاول الوزير الشعار، في المقابلة المشار إليها أعلاه مع موقع سيريا ستيبس، الإشارة إلى عملية التشاور هذه. وهنا تجدر الإشارة إلى فرق جوهري بين نظامين قانونيين، النظام الأول هو نظام القانون المدني، وهو النظام المعمول به في سوريا، وفيه تتكون النيابة االعامة من قضاة نيابة. في المقابل، نجد نظام القانون العام، المعمول به في أميركا وكندا على سبيل المثال، وفيه تتألف النيابة العامة من محامي نيابة عامة يتبعون وزير العدل، وهو أمر لا ضير فيه، بحسب اعتقادنا، نظرًا لكون هؤلاء محامين وليسوا قضاة.

أما فيما خص المحكمة الدستورية العليا، فقد أناطت المادة 140 من دستور العام 2012 صلاحية تعيين أعضائها برئيس الجمهورية. في حين أن دستور العام 1950 أناط بمجلس الشعب مهمة انتخاب أعضاء هذه المحكمة. تشكل سلطة رئيس الجمهورية في تعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا تنازعًا واضحًا في المصالح. فكيف يمكن لشخص أن يعين من هو مختص بمحاكمته ومحاسبته؟

يضاف إلى ما سبق، اَلية تعيين القضاة. فالقضاة في سوريا يتم تعيينهم بعد اجتيازهم لفحص كتابي واَخر شفهي تتدخل فيهما، في كثير من الأحيان، المحسوبيات والتوصيات. بعد النجاح في كلا الفحصين، يصدر رئيس الجمهورية مرسومًا بتعيين الناجحين دون أي تصديق أو استجواب من قبل السلطة التشريعية للمعينين. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى اَلية تعيين القضاة الفيدراليين في الولايات المتحدة. ففي حين يسمي رئيس الجمهورية المرشح للمنصب القضائي، تقوم السلطة التشريعية ممثلة بمجلس الشيوخ بالتصديق على هذه التسمية. وتأتي المصادقة بعد جولات من الاستجواب، يُختبر فيها المسمّى أخلاقيًا ومهنيًا. من الأمثلة على ذلك الاستجواب المعمق والمكثف الذي خضع له القاضي المعين حديثًا في المحكمة العليا في الولايات المتحدة، بريت كافناه. حيث تناول هذه الاستجواب بعض السلوكيات العائدة للفترة التي كان فيها كافناه طالبًا في كلية الحقوق والتي تتضمن التحرش الجنسي والكحولية.

أما على الصعيد الاقتصادي، فلا ينعم السادة القضاة بكفاية مالية تجعلهم محصنين تجاه المغريات والضغوط العديدة التي يواجهونها أثناء قيامهم بأعمالهم. فلا يعقل أن يعامل القاضي على أنه موظف مخصص براتب معين، في حين يكون مسؤولًا عن تقرير منازعات تصل قيمتها في بعض الأحيان إلى ملايين الدولارات. يضاف إلى ذلك، التراجع الحاد في القوة الشرائية لليرة السورية بعد الحرب، ما يجعل القاضي، حاله حال أي موظف حكومي، يقع فريسة سهلة للإغراءات العديدة أو الضغوط التي من الممكن أن تمارس عليه من قبل أصحاب النفوذ. في محاولة لتناول هذه الإشكالية، يشير السيد وزير العدل إلى أن الوزارة تعمل على تحسين الوضع المعيشي للسادة القضاة، إلا أنه لا يعطي أية خطط محددة للقيام بذلك.

يُقال إن رئيس الوزراء البريطاني في الحرب العالمية الثانية، ونستون تشرشل، سأل مستشاريه عن حال القضاء في بلاده بعد أن وصل الاقتصاد إلى الحضيض نتيجة الحرب، فأجابوه أنه بخير. فقال مقولته المشهورة، “طالما أن القضاء بخير، فكل البلد بخير.” على الدولة السورية أن تعي بأن الخطوة الأولى من خطوات الإصلاح الألف هي الإصلاح القضائي، لأن بها ضمانات إعادة الإعمار المادي والأخلاقي ومحاسبة أثرياء الحرب، والأهم من ذلك كله كسب ثقة شعب لم تنل منه الحرب والحصار بقدر ما نال منه الفساد.

في هذا العدد<< ما بين المحكمة وغيرها من المجالس- وليد سعادةدولة المليشيات طريق إلى الفيدرالية >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
1 تعليق
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
trackback
4 سنوات

[…] الفينيق و تتناول في مقالتها الأولى موضوعاً مهماً سبق للفينيق أن طرقت جانبا منه، ألا وهو موضوع الدستور في الجمهورية العربية السورية […]