السوريون في مواجهة الأمراض النفسية!
علي قطريب
رغم عدم وجود إحصاءات رسمية دقيقة، إلا أن المعلومات التي يمكن جمعها عبر الأطباء النفسيين ومن الوسط الاجتماعي، تؤكد ارتفاع عدد ضحايا الأمراض النفسية في سورية خلال السنوات الماضية. هذا الأمر يبدو طبيعيًا أثناء الحروب، وإذا ما أضفنا تبعات الحصار الاقتصادي والفاقة الكبيرة التي يعاني منها السوريون، لن نُفاجأ بانتشار أمراض كثيرة مثل القلق والاكتئاب ثنائي القطب والفصام عند الشباب بسبب انعدام الأفق وندرة فرص العمل والبطالة وغير ذلك من الهموم التي تُحدث خللاً في التوازن النفسي.
من ناحية ثانية فإن الأرقام تشير إلى تواضع عدد الأطباء النفسيين في سورية حيث لا يتجاوز المئة إلا بقليل، بل إن هذا الرقم انخفض كثيرًا خلال الحرب ليقتصر على عشرات الأطباء الموزعين في العيادات الخاصة إلى جانب المشافي العامة الكبيرة وهي “ابن سينا في ريف دمشق، وابن رشد في دمشق، وابن خلدون في حلب” التي تعاني هي الأخرى من نقص كبير في الكادر، كما يقول المدير الطبي السابق لمشفى ابن سينا للأمراض العقلية والنفسية وعضو الرابطة العالمية للطب النفسي، راغد هارون، الذي أكد أنه لم يتوفر في المشفى خلال خدمته إلا طبيبين اثنين، مع أن المشفى يحتاج إلى أكثر من ستين طبيبًا!
قدرت دراسة قامت بها مجلة الصحة العالمية ومجلة “لانسيت” الطبية حول الصحة العقلية في المناطق المتأثرة بالنزاعات أن شخصًا من بين كل خمسة أفراد، يعاني من اضطرابات ناتجة عن النزاع، وتتنوع تلك الأضرار بين القلق والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة. وإذا ما طبقنا هذا الكلام على عدد السكان في سوريا، إذا افترضنا أن عددهم يبلغ عشرين مليونًا، فإن نسبة المحتاجين إلى المعالجة النفسية تصل إلى 4000000 مليون شخص، وهذا الرقم ولا يمكن أن تستوعبه القدرات الحالية للمشافي والكوادر الطبية العامة والخاصة المتعلقة بالصحة النفسية.
عينات عشوائية من الشباب
استعنّا بعينات عشوائية من الشباب عبر سؤالهم إن كانوا قد تلقوا علاجًا نفسيًا أو لجؤوا إلى الأطباء النفسيين فكانت الإجابات على الشكل التالي:
كُمي/ 22 عامًا: لم أذهب إلى معالج نفسي قط، رغم أنني لا أمانع الفكرة، يمكنني القول إن وضعي قد ازداد سوءًا عمّا كان عليه خلال فترة الحرب. لكنني أشعر أنني قادر على تجاوز المشاكل بنفسي.
طوني/ 21 عامًا: سبق وذهبت إلى معالج نفسي بسبب تراجع صحتي النفسية وتم تشخيصي بالاكتئاب الحاد، أستطيع القول إن أغلب من بقوا هنا، هم مرضى عقليون بشكل أو بآخر.
كريم/ 23 عامًا: ذهبت إلى طبيب نفسي خلال الفترة الماضية، تم تشخيصي بالاكتئاب الإكلينيكي واضطراب ثنائي القطب، كان الخيار الوحيد هو الاستطباب عن طريق الأدوية لكنني رفضت لأن الجميع يعلم أن الأدوية ما هي إلا مخدرّ وليست علاجًا حقيقيًا، حتى طبيبي النفسي أكد لي ذلك، أجزم أنّ أغلب السوريين بحاجة ماسة إلى علاج نفسي وخاصةً فئة الشباب.
ديمة/30 عامًا: لم يسبق لي الذهاب إلى معالج أو طبيب، أفضّل أن أعالج نفسي بنفسي دون اللجوء إلى الأدوية.
آراء خبراء وأكاديميين
هبة/ متطوعة في مجال الدعم النفسي وطالبة في كلية علم النفس بدمشق:
عملت مع الشريحة العمرية من 15-17 عامًا، يمكنني القول إن أغلب الحالات التي صادفتني هي اكتئاب ناتج عن ظروف الحرب وحساسية هذه المرحلة العمرية، نعاني نقص في الكوادر الطبية سواء كانوا معالجين أو أطباء. فالاعتماد يكون على كوادر غير مدربة بشكل أكاديمي وإنما عن طريق دورات، فئة كبيرة من تلك الكوادر غير مؤهلة بشكل جيد للأسف.
سلاف معروف، أخصائية نفسية:
منشأ الأمراض النفسية في الأساس اجتماعي يمتد إلى مراحل الطفولة الأولى، صحيح أن الظروف الطارئة مثل الحروب وغيرها، تفاقم هذه الأمراض وتغذيها، لكن الخلل يكون موجودًا مسبقًا وهو مستقر في قاع دفين يحتاج مختصًا أن يقوم بالبحث عنه والوصول إليه من أجل المعالجة عبر جلسات اختصاصية نفسية وليس عبر الأدوية.
المجتمعات العربية بشكل عام تعاني من ضغوطات كثيرة. وبسبب التربية والعلاقات الاجتماعية غير السليمة، يتعرض الإنسان للكثير من الأمراض بسبب التنمر والعنف والاضطهاد وغير ذلك، وهو ما من شأنه أن يترك أثرًا بالغًا لديه مستقبلاً. لقد عملتُ في الكثير من المراكز والجمعيات ولم أفاجأ بانتشار الأمراض النفسية عند شريحة كبيرة من الناس، حتى الأمراض التي يسمونها فيزيولوجية، يكون منشؤها نفسيًا.
إنّ بشاعة الحروب والنزاعات المسلّحة، لا تكمن فقط في أنها تدمّر كلّ ما هو حي مع مقومات الحياة المادية، إنما مأساتها تتجسد في معاناة الذين /يبقون على قيد الحياة/، ويحملون على أجسادهم وفي نفوسهم وقلوبهم آثار الجروح والشظايا ووشوم الوحشية البشرية، إلى آخر لحظة في حياتهم! هذه البصمات لا نراها على الجسد، فحسب، بل في كل تفاصيل الحياة النفسية، فتبرز الاضطرابات النفسية المختلفة والأمراض والحالات التي لم نكن لنشاهدها من قبل، أو لم نكن نشاهدها بهذا الكمّ الهائل الذي نصطدم به أينما توجهنا!
تكهنات بلا إحصاءات رسمية
المشكلة أنه خلال سنوات الحرب، لا يوج أية إحصاءات رسمية عن المرضى النفسيين في سورية، لكن عيادات الأطباء المزدحمة، على ندرتها، تشي بما يجري بشكل مباشر. ففي ظل البطالة الشديدة وعيش معظم السكان تحت خط الفقر، إضافة إلى سوء الخدمات الأساسية، واضطرار فئات كبيرة إلى الهجرة طلبًا للنجاة، لابد أن تتفاقم الأزمات النفسية وتصبح الصحة ضربًا من الخيال. فهل يستطيع الاختصاصي النفسي معالجة كل هذا عبر جلسات تقتصر على رفع المعنويات والنصح والإرشاد؟