الذاكرة المكبوتة-نجيب نصير
على الرغم من كثرة وضخامة الدراسات عن فلسطين، إلا أن فلسطين تبقى مبهمة في سياق النظر حول ضرورتها وضرورة تحريرها. فها هي سبعون قد انقضت، وقبلها خمسون أو أكثر منذ إعلان المشروع الصهيوني ومفاعيله، ولما تزل مشاريع تحريرها ( من منظمات وحكومات ودول إلخ) تزداد “رفعة وفخامة” وهي تعلن عن نياتها الدائمة بوقوفها مع الحق حتى يصح الصحيح وتتحرر فلسطين وتعود الأرض إلى أصحابها “الشرعيين”، أي إلى الفلسطينيين الذين يعانون من ويلات اللجوء، وسكرات الوجد والشوق إلى البلاد، التي كانت “عربية” وستبقى “عربية”. فهل حقاً كانت فلسطين كذلك وستبقى؟ أم أن شروخا معرفية حددت الوقائع والتفاصيل التي أدت إلى اغتصابها واستمرار هذا الاغتصاب، خصوصاً ونحن نرنو إلى انكشافات مذهلة لمشاريع “العرب” الأقحاح الذين ننسب فلسطين إليهم تباركاً أو افتخارا؟ لقد حاصرت التكنولوجيا هذه المشاريع ولم يعد من إعلانها بدٌّ، ليطفو السؤال فوق جثة الذاكرة المكبوتة التي تجاهلت واقعة استبدال المصالح بالنسب. فإذا لم تكن فلسطين المحررة مصلحة لإصحابها فما هي إذاً؟ هل هي صراع رومانسي إلى جانب الحق، حيث يتحول تدريجيا إلى حملة طوعية خيرية يمكن إيقافها بحجة نضوب الموارد ؟
لن نعود إلى بطل الحرية في وثيقة فيصل / وايزمن. فذاكرتنا المكبوتة توجته قائدا “للثورة العربية الكبرى” كمخترع لجنسيتنا الهائمة. ولن نعود إلى هزيمة 1967 التي توجت بطلها بطلا للتنمية والتحرير معاً. كما لن نعود إلى زيارة موشيه شرتوك لحسني الزعيم في بلودان الذي رُسم بطلاً بتسليمه أنطون سعاده “الداعية الإقليمي” إلى خشبة الإعدام. ولن نتكلم عن زيارة السادات للقدس ولا عن العلاقات المغاربية مع الكيان الغاصب، ولا عن إسراطين القذافي، ولا عن أسلو ووادي عربة، ولا عن أي شيء له علاقة بتأثير مواقف “العرب” في مسألة تحرير فلسطين وإعادتها إلى الحضن “العربي”. بل سنسأل ذاكرتنا المكبوتة التي تغسل الأموات وتضمن الجنة لكل من هؤلاء، عن دورهم النبيل في تحرير فلسطين ؟
هل من مصلحة لكل تلك المشاريع وأصحابها بتحرير فلسطين؟ أو بطريقة أخرى ما هي فلسطين بالنسبة إلى كل هؤلاء من أصحاب المشاريع؟ طالما مرت كل هذه السنين ولم تتأثر صيرورات تلك “الدول” بغياب فلسطين ، وظلت ذاكرتنا المكبوتة تجتر طهرانية وهمية مستهلكة وتسبغها على أشخاص ومشاريع لم يقربوا مفهوم المسألة الفلسطينية ( ولا غيرها طبعاً) من أي باب معرفي يمكن ممارسته أو تفعيله في العصر. لقد شكل وقع الهيجانات الشعبية بشعارتها الإجبارية مشكلة رأي عام كاسح أو أكثروي، سمي في ما بعد بالديمقراطية الثورية مرة، أو الديمقراطية الشعبية مرات، أو مشكلة استخدام مزدوج تارة في معناها الثقافي (الأيديولوجي)، وتارات في معناها السياسي الاستبدادي. وهكذا بقيت فلسطين ومسألتها دون تعريف واضح وعلني يمكن التعاقد عليه والمساءلة فيه، وبقي السؤال حولها معلقاً بين السياسة والأيديولوجيا وذهبت حكايات البطولة فيها هباءً في غالب الأحيان.
والذاكرة المكبوتة هي ذاكرة قبلية شفاهية اصطفائية غير معرفية، تسعى بالشعارات التي تحملها إلى تقديس الحق المهزوم. إنها تمارس الفخر لمواجهة استبداد المعرفة الشعبوية الأكثروية التي تعمل على تفتيت الهزائم وتوزيعها على القبائل.
وهنا يلجأ أصحاب الذاكرة إلى تبرير كل الهزائم، المبكرة منها وتلك التي أدت إلى انهيار معنى القضايا والمسائل المصيرية. ومن هنا أيضاً تبدو فلسطين، كقضية أو كمسألة، فارغة من المعنى الفعلي والعملي المجدي (ومثلها أيضاً مسائل الكيانات /الدول أو ما يسمى تجزئة، وكذلك الأراضي المغتصبة أو المسلوخة إلخ ). هذا الفراغ ناتج تماما عن فراغ في معنى الوجود الاجتماعي لكل الكيانات/ الدول وعن عدم جدوى المشاريع المولجة بإعادة فلسطين إلى مكانها الطبيعي أي في مجتمعها ذي الدورة الاقتصادية /الاجتماعية. فتحرير فلسطين ليس استعادة للحق أو الانتقام من الظالم – فهذي نتائج ثانوية – إنما التحرير حاجة أساسية وتأسيسية للوجود ومعناه، إن كان بالنسبة “للمشاريع التحريرية” أم بالنسبة للدول / الكيانات التي ترفع شعارات التحرير. فبغياب المعنى المجتمعي للوجود يبقى هذا الأخير متردياً ومحفوفاً بشتى أنواع الفناء. وهو ما تعاني منه هذه الدول وهذه المشاريع إذ تفتقد تماماً إلى استراتيجيات الوجود النابعة من الوجود ذاته.
يظهر دور الذاكرة المكبوتة راسخاً في مجالات الأداء “التحرري” عبر محورين ثقافيين :
أولهما : تجديد البيعة للفشل بواسطة تبرير الهزائم المتنوعة، وتحميل الفشل على شماعة المؤامرات أو على شماعة الابتعاد عن المقدس (من ديني ودنيوي)، ما يؤدي إلى عقوبات قومية لا تبدأ بالاحتلالات ولا تنتهي بالأعاصير والكوارث الطبيعية. إنه أمر لا يتم إلا في ظل أمية تأريخية عبر تكريس الأعمال والأبطال نماذج رائعة للنوايا الحسنة التي أجهضتها المؤامرات أو الابتعاد عن المقدس. لقد امتلأ تاريخ المسألة الفلسطينية بهؤلاء الأشخاص الخارقين على الرغم من فشلهم في توظيف العمل النضالي المتراكم وذي التكلفة العالية للحصول على نتائج مجدية.
ثانيهما : قمع الخروج عن القطيع، والدفاع عن أداءات أثبتت كارثيتها، ( على الرغم من التضحيات الغالية). يمكننا الاسترسال في ذكر أمثلة عن أداءات المشاريع التحريرية التي أدت إلى كوارث، لكن اتفاقية أسلو تكفي للتذكير بالقرار الفلسطيني المستقل كأداء نضالي تحريري. واليوم لا يمكن للذاكرة المكبوتة أن تلد من لدنها ذاكرة قابلة للنقد (هنا لا أقصد الانتقاد)، لا بل تعاود إنتاج المرارة حزناً على فخر منتجاتها من أبطال حسني النية، من أصحاب الكاريزمات الاستثنائية الذين لا يأتيهم الباطل من حدب. فيبدو نقد هؤلاء ومشاريعهم لاسترجاع فلسطين كنوع من أنواع الكفر والجهالة وسوء الطوية.
هكذا يتحول الصهيوني الغاصب والمحتل في الذاكرة المكبوتة من صاحب مشروع يتوسل العقل والمنطق كي يستخدم كل ما يقع تحت يده في سبيل انتصاره إلى مجرد مارق لا يعترف بالحق. وهكذا تطالبنا هذه الذاكرة بالتوجه إليه وتذكيره بعدم استخدام الدسائس والمؤامرات في حربه معنا بل وتتمنى عليه ان ينزل إلى الساح مسلحاً بما نحن مسلحون به لنكتشف من هو الأشجع والأنبل والأكثر بطولة، فتعيدنا إلى ذاكرة مكبوتة أوسع وأعرق: إنها ذاكرة الغزو والرمال والشمس الحارقة، ذاكرة هي الأخرى قبلية وشفاهية لم تصل الينا بواسطة قراءة معرفية للتاريخ ، بل عبر انتقائية فانتازية شكلت الهيكل التأسيسي لرؤيتنا لمشاريع تحرير فلسطين .
هكذا تُنبت الذاكرة المكبوتة مشاريع للتحرير والتنمية دون أية مراجعات معرفية للتجارب أو الممارسات النضالية ولا حتى لمعايير الخطأ والصواب . فتتم مقاربة الحق مع الحلال في المضمون بما يكفي لتبرير أية هزيمة وتتويج أياً كان بطلاً، كما لو أنه فاعل خير، دون النظر إلى نتائج أدائه وممارساته الفاشلة. وهكذا تصبح أسلو انتصارا لحق استقلال القرار ( وهو حق ليس مستقلاً كما أن مصادرته ليست ذا بال على مسألة التحرير). وتصبح كذلك هزيمة 67 انتصاراً لعدم سقوط الأنظمة، والى ما هنالك من أمثلة تضعنا ذاكرتنا المكبوتة أمامها. إن مسألة إدارة الأزمات تظهر واقعياً أن ما من مستفيد من إنهائها بالرغم من كثرة الخاسرين. ولا بأس بذلك مادام الثمن يدفع من حساب بلاد لم تتحول الى مجتمعات وأوطان كرمى لعيون أبطال إدارة الأزمات .
اليوم، وعلى أرض الواقع، لا توجد فلسطين ، بل يوجد فلسطينيون يعانون الأمرين فرداً وجماعة للحصول على حق الحياة . إنهم يدخلون ذاكرتنا المكبوتة بوصفهم صامدين وجبابرة. إنما في الحقيقة ليس هناك من حل منصف أمامهم سوى العودة إلى بلادهم وقد وجب عليهم تحريرها ومن ثم تحويلها الى وطن. والوطن هو مجتمع معاصر، أي هو دورة اقتصادية اجتماعية يجب اكتشاف حيويتها ومداها في الحقوق كما في الجغرافيا، تحولت في الواقع إلى متاهة على الرغم من بساطتها ومنطقها. إن الفلسطينيين بشر أولا وآخرا، ولا من مبرر في الذاكرة المكبوتة لتحويل الفلسطينيين إلى نماذج ما فوق البشرية فرض عليها المعاناة حتى آخر رمق للحصول على شرف الصمود. ما من مبرر لمحاصرتهم و دهسهم تحت سنابك الوطنية ( صبرا وشاتيلا على الأقل) وتركهم ليشبعوا معاناة حتى يثبتوا للعالم بأن حقهم بأرضهم لن يضيع !، ……ما هذا؟؟؟؟؟…… هل نحن في تراجيديا إغريقية مستحيلة ؟
هذا هو الأمر الواقع. إن ذاكرتنا المكبوتة التي تشكل جزءً تأسيسياً من ثقافتنا المعاشة والتي تقفز فوق الثقافة المعرفية للعالم وتتقوقع على الذاتيات والخصوصيات، لما تزل تعّرف الصراع على أنه غزو قبائلي متجاهلة في ذلك تأسيس المجتمع وحضوره. بمعنى أن المجتمع هو المستفيد من التحرير معطياً للحقوق المستعادة (من أراض ومكانة) معنىً حضارياً يمكنه الاتساق مصلحياً مع هذا العالم. ولا توجد حاليا أية حقوق مسلوبة خارج هذا المعنى. فالعالم ليس فقط فلسطينيين ينامون على قهرهم ويستيقظون على تشتتهم. كل الكيانات السياسية والمشاريع التحريرية والدول تصبح بلا معنى إذ لا معنى لفلسطين دون مجتمع معاصر.
فلسطين الفلسطينية هي جزء من الدورة الاقتصادية الاجتماعية للأردن وخسارتها هي خسارة أردنية وتحريرها هو أرباح أردنية. كذلك الأمر بالنسبة الى كل دول الطوق وسيناء (التي أهدتها المندوبية البريطانية في فلسطين إلى المندوبية البريطانية في مصر 1937) إن ذاكرتنا المكبوتة تتوهنا وتربك بوصلتنا وتقودنا إلى مجاهل ماكرة. فالبحث عن المجتمع الفلسطيني (أقصد المجتمع المعاصر المفهوم عالمياً) والإعلان عنه معرفياً، هو ما يعطي لفلسطين وللنضال من أجل تحريرها معنى. لم يسفر هذا النضال حتى الآن عن شيء سوى كمية كبيرة من الشهداء المضحين ، وكمية كبيرة من المظلومين تحت نير الاستبداد المتنوع، وعزبتين لكل واحدة عمدة في رام لله، وغزة.
الفشل ليس خيانة أو عمالة ( وكذلك الجهالة والغباء) ، ولكنه يقود إلى نتائج أفظع وأعظم. إن ما حصل لفلسطين وللفلسطينيين هو تجميل الفشل برد تهمة الخيانة عنه وما كان هذا كافيا لرد الهزائم ومنع تكرارها. فقد أعلن الكثير من الفاشلين عن نيتهم في تحرير فلسطين وحاولوا بواسطة مشاريعهم متغافلين كما الذاكرة المكبوتة عن شأنها المجتمعي ليقفوا مرة أخرى أمام السؤال: من هي فلسطين ؟ ولماذا هي ضرورة؟ عن هذه الضرورة تجيبنا الحداثة بمعانيها المجتمعية الحقوقية والتنموية. ولكن هل من مستمع مستوعب لما تقوله إن قطار التحرير بالصيغ والمشاريع القديمة قد فات منذ فترة طويلة لدرجة أنه لم تبق إلا الدماء الزكية للتذكير بوجودها. لقد فشل التدويل والعوربة في إعطاء معنىً مجتمعياً إنسانياً لفلسطين الوطن (ولا أقصد البلاد)، الذي هو ضرورة قصوى ونهائية للعيش بكرامة إنسانية، وفقرة تأسيسية في شرعة حقوق الإنسان. هنا تبدو فلسطين « البلاد » ثمينة، لابل وثمينة جدا، كأزمة يمكن استثمارها. فغياب فلسطين عن طريق تحريرها أو إلغائها رسميا من الخارطة لا يشكل مصلحة لأحد بمن فيهم حركات التحرر الفلسطينية أو ما اطلقت عليه الذاكرة المكبوتة أسم “فصائل”. فصائل تتنازع البقاء محافظة على حلم التحرير كشعار أزلي – بينما هو مسألة بسيطة لا بل بدهية يختلف على رؤيتها الجميع (ولا ننسى هنا “الدول”)- فصائل متشاكسة كلها تنعم بشرف البطولة والفخار والإخلاص للقضية ولكنها تفشل في المهمة البدهية المناطة بها فقط. وهنا لا يسعنا إلا الإشارة بسخرية إلى الظروف الدولية والمؤامرات التي بتنا نصدقها ونمارسها كسلوك ثقافي جمعي، ما يضعنا في خانة من تلقى مليون صفعة على حين غرة ، محاولين أخذ دور العبقري الذاهل عن الصفعة/ات القادمة.
قبل أسلو (وهي هنا كمثال فقط) لم يكن أحد يعلم كيف ستتجلى نتائج الأداء النضالي الذي أوصلنا إليها هذا “النضال”. ولكن، كان الجميع يأمل بدولة تصلح كقاعدة للتنمية والتحرير. أولا لأن صراعنا هو مع كيان تكنولوجي بارد وأصم ـ (ليس في دولة الكيان الغاصب من تأسيسيات مجتمعية تفرز ثقافة إنسانية بالمعنى المتعارف عليه عالمياً)ـ ما يفترض استعداداً صراعياً حداثياً على الأقل. وثانيا لأن التجربة الفلسطينية موضوعة تحت مجهر أعين الجماهير المسقوفة بالاستبداد التي تلوك أمالها وآلامها في بيئة الذاكرة المكبوتة ذاتها، باحثة عن تبريرات وذرائع لفشل « الدول » في تجربة التنمية والتحرير، ومرتكزة على خبرات هذه الذاكرة في تذويب الفشل في أحماض العمل السياسي وتفاصيله؛ عمل سياسي خارج عن عقال المعرفة وما توصلت اليه في بناء المجتمعات المعاصرة. ستبقى فلسطين منتظرة في ذاكراتنا المهووسة بعيدة عن مجتمعها الذي لم يتأسس بعد، إلى أجل غير مسمى .
والذاكرة المكبوتة هي ذاكرة تدليسية، بسبب إخفائها لمقدرة الذاكرة على التشخيص (تشخيص العلل) وإسقاطها لمبدأ المساءلة قبل الإدلاء بشهادتها. فليس من مذنب في حكاية الـ 67 ، ولا في اغتيال ناجي العلي ، ولا في الحرب اللبنانية أو غيرها. ليس لهذه الذاكرة مقدمات لأي شيء، فهي تناقش الحدث معزولاً عن من أوصل إليه. وهكذا تنزلق الهزائم من بين أيدي المدققين من عامة الناس، لتتحول إلى أيقونات مؤامراتية يسأل عنها الحظ العاثر، أو كراهية الغرب، أو عدم الوحدة العربية، أو ابتعادنا عن الله. واليوم تتعالى المناقشات حول تصريحات دونالد ترامب عن علاقة أمن السعودية بأمن “إسرائيل” دون النظر في تطورات هذه العلاقة ونشأتها وذلك ريثما يتم إيجاد تصريف لها في الثقافة الجماهيرية بواسطة الذاكرة المكبوتة إياها . وهنا الكارثة الكبرى. إنها تكمن في تسرب هذه الذاكرة إلى المنتجات التفكيرية لتصبح ثوابت لا يمكن الجدل معها. منتجات تفكيرية تستخدم سلاح التخوين لتترسخ شعبوياً كثوابت ومعارف دائمة تتحكم بالمنتجات الثقافية الفكرية والفنية. ونلاحظ هذه الآثار متوفرة بكثرة في فعالية مثل مقاومة التطبيع. فبينما يجري التطبيع على مستويات فاعلة من سياسية واقتصادية ومخابراتية إلخ وعلى فترات طويلة ، إلا أن من يقوم بالتطبيع هو نفسه من يعلن عن نفسه مقاوما له، (الرئيس المصري محمد مرسي مثالاً ، طبعاً وغيره كثر). فتبقى مقاومة التطبيع في جوهرها كمقاومة ضرورية بالبداهة، “تتمرمط” في دهاليز ثقافة الذاكرة المكبوتة كي تحافظ على وجود أقله وجداني تذكاري دون أية نتائج ملموسة على أرض الواقع. فبينما ترسل التحيات والشعارات الى مقاومي التطبيع، تقدم الانحناءات والتبريكات والتخليدات ـ حتى من بعض مقاومي التطبيع ـ للقائمين بالتطبيع.
ستبقى بلدان دول الطوق ، تحت ضغط الأزمات العضوية المخّلقة لها طالما رضخت لذاكرتها المكبوتة حول ظروف تأسيسها. فجميعها أوجد بقرارات خارجية تحولت بعرف الذاكرة المكبوتة إلى أعياد تأسيس واستقلال “أمم” مكتملة العضوية في هيئة إدارة الأزمات المسماة “الأمم المتحدة”. وعليه فإن “الأمة” الفلسطينية هي أمة مستقلة ظنياً، لها حدود دولية معترف بها وهي حدود الاحتلال الصهيوني حالياً. وهي موجودة وغير موجودة في آن معاً مما يشكل أزمة دائمة بحاجة إلى إدارة دائمة، تغرف من الذاكرة المكبوتة مفاخر محاولات التحرير، غارفة من رصيد الوطن ما يكفيها للاستمرار. ولكن فلسطين لن تتحرر والبلاد كلها لن تتحول إلى وطن. فالوطن هو من صناعة مجتمع بالمعنى المعاصر، تتكامل دورته الاقتصادية الاجتماعية ليتشكل على هيئة مجال جيوسياسي استراتيجي عصي على الفناء. وعلى هذا تبدو الأزمات مستعصية ومستمرة وعديمة الحل، لإن المجتمع المعاصر لم يتأسس بعد وربما لم يفكَّر به. ففلسطين والأجزاء السليبة الأخرى هي من مانعات تأسيس المجتمع المعاصر في حال ظلت تحت الاحتلال. هذا هو الظلم والقهر بحد ذاته حيث لن يستطيع حتى أبطال الإصلاح الزراعي صنع دورة اقتصادية اجتماعية قادرة على توحيد مصالح الناس في المجال الجغرافي الطبيعي لها ، ولسوف تستمر كل هذه الكيانات السكانية في العيش على شفير الانهيار وربما الفناء طالما استمرت في لوك منتجات هذه الذاكرة المكبوتة.
اليوم نقف أمام كومين هائلين تنتجهما هذه الذاكرة: كوم للفشل وكوم أكبر من سابقه هو كوم التضحيات والشهداء غير قادرين على التساؤل أو المساءلة عن مصير دماء الشهداء وتضحيات المضحين، فالمساءلة خيانة في عرف الذاكرة المكبوتة، وتشخيص العلل هو عرقلة لمسيرة « التنمية والتحرير ». هذا إذا لم نقارب معضلة الفساد والمفسدين.
على ذاكرتنا أن تتحرر وتنزل هؤلاء الأبطال من منزلتهم المنزهة عن الفشل ومناقشة إنجازاتهم مناقشة نقدية وتحميلهم مسؤوليتها . فليس للذاكرة أي دور سوى التعلم من الأخطاء. واستخدام الذاكرة بما نحن عليه الآن ليس إلا إدارة لأزمة قد لا نستفيق من حلاوة انتصاراتها الوهمية.