الدرونز، سلاح جو الفقراء- حسّان يونس
كانت إيران هي الحليف الأول والأساس للدولة السورية في الحرب المستمرة منذ ثماني سنوات. وإيران أيضًا هي من شجّعت روسيا على الدخول العسكري المباشر في خريف 2015. لكن، ومنذ ربيع 2019 وفي تبدل واضح للأدوار، بدأ جهد روسي ملحوظ لإخراجها – أي إيران – من سوريا، سيما في العلاقة مع تركيا والولايات المتحدة، حيث أجرى الروس اتفاقات حول سوريا، بدون استشارة الجانب الإيراني. كان هذا تماشيا مع التفاهم الضمني بين روسيا وإسرائيل، الذي سمح للأخيرة بتوجيه ضربات موجعة لمواقع إيرانية، بما في ذلك مستودعات عسكرية نوعية، في كافة أنحاء سوريا، وبدون أي رد فعل من الجانب الروسي الذي يفترض انه يتحكم في الأجواء السورية.
بالإضافة إلى ذلك كان الخروج الإيراني من سوريا أحد المطالب الأميركية الرئيسة التي أعلنتها إدارة ترامب ضمن شروط التفاوض مع إيران وبدء مرحلة جديدة من العلاقات بعد انسحابها من الاتفاق النووي المتعدد الأطراف في ايار 2018.
نتيجة ذلك وخلال ثلاث سنوات مضت أصبحت إيران تواجه تحديات خطيرة في سوريا والعراق من خلال الهجمات الإسرائيلية على مواقع التمركز والتخزين، التابعة لها أو لحلفائها، في سوريا. ولكن الجديد أن الهجمات الإسرائيلية أصبحت تطول الآن أهداف إيران وحلفائها في العراق، الذي تعمل حكومته على ايجاد توازن ما يمنع الصدام المحتمل بين إيران والولايات المتحدة على أرضه.
غارة إسرائيلية على موقع للحشد الشعبي على الحدود السورية العراقية
في 19 تموز، تعرضت قاعدة عسكرية لقوات الحشد الشعبي العراقية في محافظة صلاح الدين للقصف، وقد تبين لاحقًا أن عددًا من ضباط الحرس الثوري الإيراني، كانوا في القاعدة، أصيبوا أو قُتلوا، وأن القاعدة ضمَّت مستودعات سلاح إيراني. بعد أيام قليلة من حادثة القاعدة في محافظة صلاح الدين، تعرضت قاعدة أخرى للحشد على الحدود الإيرانية للقصف، وأيضًا بفعل طائرات مسيرة. في 12 آب، قُصفت قاعدة الصقر الضخمة، جنوب بغداد، التي تشغلها ميليشيات “سيد الشهداء” في الحشد الشعبي، وثيقة الصلة بالإيرانيين. في 20 آب، قصف معسكر للحشد بالقرب من قاعدة بلد الجوية، شمالي بغداد. وفي 25 آب، وفي خامس حادثة خلال شهرين، قصف معسكر آخر للحشد الشعبي قرب مدينة القائم العراقية الحدودية مع سوريا. في كل هذه الهجمات، يُعتقد وقوع إصابات بين عناصر من الحشد ومن الحرس الثوري الإيراني، إضافة إلى الدمار الواسع الذي أوقع بمستودعات السلاح في القواعد المستهدفة.
قبل اربعة عقود، وفي مطلع عام 1981 منح رئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن تصريحا مفاجئا للطيران الإسرائيلي لشن ضربة جوية ضخمة عُرفت باسم العملية “أوبرا”، أو العملية “بابل”، لاستهداف المفاعل النووي العراقي “أوزيراك” في قلب الأراضي العراقية على بُعد 17 كيلومترا فقط من العاصمة بغداد، كانت العملية “أوبرا” هي المرة الأخيرة التي قامت فيها إسرائيل بشن عمل عسكري مباشر داخل الأراضي العراقية، غير أن ذلك الهدوء العسكري الطويل في العلاقات الإسرائيلية العراقية قد بلغ نهايته بشكل مفاجئ خلال الشهرين الماضيين حين أقدمت الحكومة الإسرائيلية، على استهداف العمق العراقي في أربع مناسبات متتالية.
تُعدّ صواريخ إيران الدقيقة أكثر خطورة بكثير من الصواريخ غير الدقيقة مع قدرتها على إصابة هدف محدد في دائرة يبلغ نصف قُطرها 15 قدما، بخلاف الصواريخ غير الدقيقة التي تحتاج إلى إطلاق أعداد كبيرة منها لإصابة أهدافها. ولما كان مدى الصواريخ الدقيقة التي تمتلكها إيران يتراوح بين مئة وستمئة كيلومتر (100-600 كم) فإن طهران لا تستطيع إصابة إسرائيل مباشرة عبر إطلاق هذه الصواريخ من أراضيها، وهي تحتاج إلى نقلها إلى مسافة أقرب، سواء لبنان وسوريا أو حتى العراق، إذا كانت ترغب في استخدامها لاستهداف إسرائيل أو حتى إدخالها في معادلة توازن الردع بين القوتين.
ونتيجة لذلك فإن إسرائيل كانت حساسة دوما تجاه أي عمليات نقل للصواريخ عبر الأراضي السورية إلى حزب الله اللبناني، وهناك تقديرات أن إسرائيل شنّت أكثر من 200 غارة جوية على سوريا منذ عام 2017 ركّزت خلالها على تدمير البنية التحتية للصواريخ والطائرات بدون طيار واستهداف أبرز القادة المسؤولين عن تشغيل هذا النوع من الأسلحة. وبحلول نهاية العام الماضي 2018، أصبح من الواضح أن استراتيجية إسرائيل الجديدة في سوريا تعمل بنجاح، وأن العمليات الجوية الإسرائيلية نجحت بالفعل في تدمير العديد من المواقع الاستراتيجية لإيران وأعاقت نشاطها في سوريا. لذا مع تعرض إيران لانتكاسات تشغيلية كبيرة في سوريا، فإنها قررت الرد عبر نقل جزء من أنشطتها الصاروخية إلى العراق.
في شهر تموز الماضي، أصدر عادل عبد المهدي مرسوما بضم وحدات الحشد الشعبي رسميا إلى الجيش العراقي. وفي التاسع عشر من الشهر نفسه بدأت الهجمات مجهولة الهوية المذكورة اعلاه في استهداف قواعد الحشد الشعبي في العراق. وفي البداية ومع تكرار عمليات القصف لمعسكرات الحشد الشعبي العراقي، تباينت مواقف المسؤولين العراقيين بين من وجهوا الاتهام للإسرائيليين، ومن أشاروا إلى مسؤولية الأميركيين. أما رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، فكان أكثر وضوحًا في مقابلة إعلامية، 23 آب 2019، عندما قال إنه أصدر الأمر لملاحقة الإيرانيين في كافة أنحاء الإقليم، وإن على إيران أن تدرك أن لا حصانة لها في الجوار.
كانت أصابع الاتهام بداية مُوجَّهة إلى الولايات المتحدة نظرا لكونها القوة المسيطرة بشكل فعلي على أجواء العراق. لكن مع مرور الوقت وتقدُّم التحقيقات العراقية وتسريبات المصادر الأميركية، أصبح من الراجح أن إسرائيل وليس الولايات المتحدة هي مَن قامت بشن هذه الضربات. يعضد ذلك ما
كشفه موقع “ميدل إيست آي” البريطاني مؤخرا حول كون بعض الهجمات الإسرائيلية في العراق تم شنها من قواعد تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية في سوريا، بدعم وتمويل من المملكة العربية السعودية، وهو ما يفسر التمسك الأمريكي بالجماعات الكردية السورية في مواجهة المطالبات والتهديدات التركية من اجل إنشاء منطقة آمنة شمال شرق سورية. وهو ما يفسر كذلك الدعم السعودي لهذه الجماعات وارتباطه بالحاجة إليها في ضرب الحشد العسكري الإيراني سواء في سورية أو في العراق. (زار تامر السبهان، وزير الدولة السعودي، منطقة السيطرة الكردية شمال شرقي سوريا قادمًا عبر كردستان العراق، وليس تركيا، حيث التقى القيادات الكردية في 19 يونيو/حزيران الماضي 2019). ومما لا شك فيه أن قيام إسرائيل بهذه الهجمات لم يكن دون تغطية أمريكية روسية بحكم اقتسام كلتا الدولتين للسيطرة على الأجواء السورية غرب وشرق الفرات.
إن القصف الإسرائيلي للتواجد الإيراني في العراق والمغطى بقواعد الحشد الشعبي، يمثل انتهاكا للتوازن الأمريكي الإيراني في العراق، حيث تمتلك إيران تأثيرا حقيقيا على العديد من المسئولين والنخب السياسية والحزبية في بغداد، ويمكنها استخدام هذا النفوذ من أجل التضييق على تحركات واشنطن السياسية والعسكرية وحتى الاستخباراتية. فعلى سبيل المثال، يمكن لإيران أن تشجع البرلمانيين العراقيين على تحدي النفوذ الأميركي. وفي حال تصاعد الأمور يمكن لطهران استغلال نفوذها على الميليشيات العراقية من أجل دفعها لشن هجمات على المصالح الأميركية، مثل الهجوم الصاروخي الذي استهدف محيط السفارة الأميركية في بغداد في أيار الماضي، حيث يوفر العراق ساحة مثالية للإيرانيين يمتلكون فيها الخبرة اللازمة والقدرة اللازمة لضرب واشنطن بدون الوصول لمستوى قد يؤدي بالعسكريين الأميركيين إلى انتقام مباشر.
في المقابل، تمتلك الولايات المتحدة أوراقها الخاصة لإدارة الصراع في العراق أيضا وعلى رأسها العقوبات. كما يمكن لأميركا في حال تصاعد الأمور أن توجه ضربات استباقية للميليشيات الإيرانية في العراق بهدف تقليل قدرة طهران على العمل خارج حدودها خاصة في سوريا ودول الخليج، ولكن هذا السيناريو يخاطر بقيام هذه الميليشيات باستهداف المصالح الأميركية بشكل مكثف في المقابل.
على الرغم من هذه المخاطر، يبدو أن الحكومة الإسرائيلية قد حسمت خياراتها باستهداف النشاطات الإيرانية لنقل وتخزين الأسلحة في العراق إضافة إلى ما تمارسه من استهداف مشابه في سورية ولبنان، حيث قصفت معقل حزب الله اللبناني، في 24 آب الماضي وما أسفر عنه ذلك من مواجهات، وهي هجمات غير مسبوقة منذ الحرب بين إسرائيل وحزب الله عام 2006.
في مواجهة هذا الزخم الإسرائيلي، كانت قائمة الاحتمالات المطروحة أمام الإيرانيين للرد واسعة، وكانت الترجيحات تتطلع إلى استهداف إيران للقوات الأمريكية المنتشرة في العراق، أو في قاعدة التنف على الحدود السورية العراقية عبر الميليشيات العراقية الحليفة لها. لكن الإيرانيين فاجئوا العالم بالرد في مكان آخر تماما، فضربوا عصبا أكثر حساسية واقل مباشرة من استهداف المصالح الأمريكية في العراق، من خلال استهداف منشآت ارامكو النفطية السعودية بطائرات مسيرة بدون طيار، ما خفّض إنتاج الشركة من النفط بمقدار 5.7 مليون برميل يومياً، أو أكثر من 5٪ من المعروض العالمي من النفط الخام، وهو ما يعادل حوالي نصف إنتاج الشركة يوميا. ومن اللافت أن الهجوم جاء في الوقت الذي تستعد فيه شركة أرامكو لإدراج أسهمها في سوق الأوراق المالية.
اتفقت كافة التصريحات الأمريكية والسعودية على اتهام إيران مباشرة بالهجوم، حيث نقلت شبكة “سي أن أن” الأمريكية عن مسئول أمريكي قوله، يوم 18 أيلول/سبتمبر، إن أمريكا والسعودية حددتا “بدرجة احتمال كبير”
المسؤول ومن يقف خلف الهجمات الأخيرة التي استهدفت معملين لشركة أرامكو السعودية في بقيق وخريص، ووفق المصدر، فإن “الهجوم انطلق من قاعدة إيرانية قريبة من الحدود العراقية “.
يأتي ما ذكرته الشبكة الأمريكية متزامناً مع إعلان مصدر مسؤول في وزارة الدفاع السعودية أن بلاده قررت الانضمام لمهمة بحرية دولية لحماية الملاحة البحرية في مضيق هرمز، فيما وصف السيناتور الأمريكي ليندسي غراهام الهجوم على منشآت شركة ارامكو في 17 أيلول/سبتمبر، بأنه “هجوم حربي يستدعي رداً حازماً”. في الوقت نفسه دعا فيه مشترعون أمريكيون في 17 ايلول/سبتمبر، إلى توخي الحذر في الرد، بعد لقاء أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين مع نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس.
في مقابل ذلك تعاملت إيران مع كل هذا الضجيج ببرود دبلوماسي، ونفت مسئوليتها عن هذه الهجمات على لسان وزير الدفاع الايراني أمير حاتمي: “إن طهران ليس لها أي دور في الهجمات التي استهدفت منشأتي النفط التابعتين لشركة أرامكو السعودية”. مرجعا الحدث بكل بساطة إلى أن “هناك صراع بين بلدين (اليمن والسعودية)”. وهو خطاب كانت قد أكدته جماعة الحوثي اليمنية المدعومة من إيران حين أعلنت في صباح 14 أيلول، أنها استهدفت منشأتين تابعتين لشركة “أرامكو” النفطية السعودية في محافظتي بقيق وخريص بـ 10 طائرات مسيّرة.
بعيدا عن هذا التراشق الإعلامي المرتبط بهذا الحدث، وتحميل المسؤوليات المتبادل، أصبح واضحا أن حرب الطائرات المسيرة بدون طيار، المستعرة بين الإيرانيين وحلفائهم من جهة، والأمريكيين وحلفائهم من جهة أخرى دخلت في مرحلة جديدة تلامس حافة النار الإقليمية الشاملة. فالترافق الزمني بين توقيت استهداف منشآت شركة ارامكو النفطية السعودية، وبين توقيت الاستهداف الإسرائيلي (المدعوم سعوديا بقوة) للتواجد الإيراني في العراق ليس عبثيا، وغير مرتبط بالصدفة، بل هو تجلٍ جديد للعبة عض الأصابع بين هذه الأطراف المتحاربة، بعد أن استنفذت حرب ناقلات النفط بينهما إمكاناتها في مضيقي هرمز وجبل طارق، ما أوصل الطرفين إلى توازن في هذا المجال، فأصبح لزاما عليهما إيجاد إطار جديد لإدارة النزاع من دون ان تنفلش الأمور وتتدحرج إلى نقطة اللاعودة. فكانت حرب الطائرات المسيرة بدون طيار والتي ربما تكون قد استنفذت إمكاناتها هي الأخرى، ذلك أن قصف الحوثيين بالوكالة عن الإيرانيين لمنشآت شركة ارامكو ردا على القصف الاسرائيلي المتكرر للتجمعات الإيرانية في العراق، يناظر احتجاز إيران لناقلة النفط البريطانية في مضيق هرمز تموز الماضي ردا على احتجاز حكومة جبل طارق البريطانية لناقلة النفط الإيرانية في الشهر نفسه، ما يجعل المنطقة على موعد مع نمط جديد من المواجهة في هذا الصراع المنضبط والمتعدد التجليات.