الدجاجة العلمانية والبيضة الاقتصادية!
خالد معماري
العَلمانية تعني اصطلاحاً فصل الدين والمعتقدات الدينية عن السياسة والحياة العامة. وعدم إجبار أي أحد على اعتناق دين أو تبني معتقد، وعدم تبنّي دينٍ معيّنٍ، كدينٍ رسميٍ للدولة.
مصطلح (العَلمانيّة) في اللغة العربيّة مُشتقّ من كلمة (عَلَم)، وهو مصطلح يشير إلى الاهتمام بالقضايا الأرضيّة فحسب، ولا علاقة له بالعلوم أو سواها، وقد وجد بعض الباحثين أن اشتقاق المصطلح كان يفترض أن يؤخذ من (العالم)، أي الدنيا، ليصبح (العَالمانية).
أما باللغة الفرنسية (laïcité) تنطق la.isi.te، وهو مفهوم يُعَبِّرْ عن فصل الدين عن الدولة، وكذلك عدم تدخل الحكومة في الشؤون الدينية، تم اشتقاق كلمة (laïcité) من اللفظ اللاتيني (laicus)، والذي يعني (العامّة) أو (الشّعب)، ومنها أخذت الصيغة العربية (اللائكية)، ولا يمكننا أن نصف مجتمعاً، أو فكراً، أو أخلاقاً ما باللائكية، أو (laïcité)، إلا إذا تخلّصت تمامًا من أيَّ أثر ديني، فاللائكية الفرنسية لا تكتفي بتحرير السياسية من سيطرة الكنيسة، وإنّما تراهن على مقارعة الدين عامة، وطرده من الفضاء العام، لتحل محله القيم اللائكية الصلبة، ولهذا السبب لا نجد في اللغة الفرنسية مرادفاً لصفة علماني أو علمانية، فلا وجود لذلك الشخص الذي يتبنى العلمنة كموقف أيديولوجي أو سياسي.
أما في اللغة الانكليزية، وعلى عكس المسار الفرنسي، نجد كلمة علمنة (secularisation)، وكلمة تَعَلْمَنْ (secularism)، وكذلك كلمة عَلْمَاني (secularist)، وذلك لأنَّ المسار التاريخي الإنجليزي، لم يكن مسارًا صداميًا يفرض القطع الجذري، كما كان الحال في فرنسا. ولم تشهد بريطانيا الجدل الفرنسي بين رجال التعليم، ورجال الدين، بل كانت العلمنة، كمسار تطوري، هي العامل الحاسم، وقد تمثلت في موقف سياسي، ونظرة فكرية للواقع.
نشأت العلمانية في عصر التنوير والنهضة الأوروبية، لمواجهة الكنيسة، ومعارضة سيطرتها على المجتمع ومؤسساته، ومحاربة تنظيم المجتمع على حسب انتماءات الأفراد الدينية والطائفية، فوظيفة الدين تنظيم علاقة الفرد بخالقه، أمّا الدولة، فلا بد أن يكون تنظيمها الاجتماعي قائم على أساسٍ إنسانيّ بحت.
تحولت العلمانية إلى مذهب فكري في القرن السابع عشر، ولعلّ الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا (1632 – 1677) كان أول من أشار إليها من دون اصطلاح، إذ قال: “الدين يحوّل قوانين الدولة إلى مجرد قوانين تأديبية”، وأشار إلى أن الدولة هي كيان يحتاج إلى التطوير والتحديث بشكل دائم، على عكس الشرائع الدينية الثابتة الموحاة.
كما كتب الفيلسوف الإنكليزي جون لوك (1632 – 1704) في موضوع العلمانية قائلاً: “من أجل الوصول إلى دين صحيح، ينبغي على الدولة أن تتسامح مع جميع أشكال الاعتقاد دينياً أو فكريًا أو اجتماعيًا. ويجب أن تنشغل في الإدارة العملية، وحكم المجتمع فقط. لا أن تُنهك نفسها في فرض هذا الاعتقاد، ومنع ذلك التصرف.. يجب أن تكون الدولة منفصلة عن الكنيسة، وهكذا يصبح العصر هو عصر العقل، ولأول مرة في التاريخ البشري سيكون الناس أحرارًا، وبالتالي قادرين على إدراك الحقيقة.”
أما العلمانية كاصطلاح (Secularism)، فكان أول من ابتدعها هو الكاتب البريطاني جورج هوليوك، عام 1851، غير أنه لم يقم بصياغة عقائد معينة، بل اكتفى فقط بتوصيف ما كان الفلاسفة قد صاغوه سابقًا، كنظام اجتماعي منفصل عن الدين، ولا يقف ضده، إذ يقول: “لا يمكن أن تفهم العلمانية بأنها ضد المسيحية، هي فقط مستقلة عنها، ولا تقوم بفرض مبادئها وقيودها على من لا يود أن يلتزم بها. المعرفة العلمانية تهتم بهذه الحياة، وتسعى للتطور والرفاه.”
انقسمت الدول الحديثة بين من تنص دساتيرها صراحة على هويتها العلمانية، مثل: الولايات المتحدة، وفرنسا، وكوريا الجنوبية، والهند، وكندا.. ودول الأخرى، لا تذكر العلمانية في دساتيرها، لكنها لا تحدد دينًا للدولة أو لرئيسها. وتنصّ قوانينها على المساواة بين جميع المواطنين، وعدم تفضيل أحد الأديان، والسماح بحرية ممارسة المعتقد والشرائع الدينية، وحرية الأفراد بتغيير دينهم، أو حتى الإلحاد، أو استحداث أديان جديدة، وهي بالتالي تعتبر دولاً علمانية.
أما الشريحة الثالثة من الدول، فتنصّ دساتيرها على دين الدولة، كسورية، ومصر، وموناكو، واليونان، غير أن دساتيرها تحوي المبادئ العلمانية العامة، كالمساواة بين جميع مواطنيها وكفالة الحريات العامة، مع تقييد لهذه الحريات، ففي سورية ومصر تعتبر الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع، ما أدى إلى فرض قيود حول حرية تغيير الدين، وغيرها من القضايا المرتبطة بقانون الأحوال الشخصية. وهذا المثل ينطبق على عدد من الدول الأخرى، ما دفع بعض الباحثين لإجراء تعديلات اصطلاحية، فأحلت (الدولة المدنية) بدلاً من (الدولة العلمانية)، غير أن ذلك حسب رأي بعض الباحثين، يلغي العلمانية، ويفرغ مبادئ المساواة والحريات العامة من مضمونها.
لكن بالنظر إلى اقتصاد الدول وعلاقته بالعلمانية، نجد أن هناك ارتباطًا واضحًا، وقد ناقش عديد من العلماء، عبر التاريخ تلك العلاقة، بدءًا من عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم (1858 – 1917)، الذي رأى في أبحاثه أن التنمية الاقتصادية تفرض العلمانية، فالدين يحقق الوظائف العملية للمجتمع، مثل التعليم والرفاهية، لكن عندما تبدأ المجتمعات المزدهرة في أداء هذه الوظائف بمفردها، يتم دفع الدين إلى الهامش. بينما وجد عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864 – 1920)، بأن العلمانية هي السبب في الازدهار الاقتصادي، وأكد على تلك النظرية قائلاً: “لماذا ظهرت الحداثة العلمية والتكنولوجية في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية فقط؟ بمعنى آخر: لماذا تطورت العقلانية في هذه المنطقة من العالم، أكثر مما حصل في سواها؟ نقول ذلك ونحن نعلم أن الحداثة تعني عقلنة العالم، أي دراسة العالم بشكلٍ علميٍ، موضوعيٍ، عقلانيٍ، لا بشكلٍ غيبيٍ، ميتافيزيقيٍ، خرافيٍ.. وهنا يكمن الفرق بين مجتمعات الحداثة والمجتمعات التقليدية.”
استمر جدل العلماء حول العلاقة بين الاقتصاد والعلمانية حتى فترات متقدمة، إلى أن نشرت جامعة (بريستول) البريطانية، أول دراسة علمية موسعة، أجرتها بالتعاون مع باحثين من جامعة (تينيسي) الأمريكية، حاولت من خلالها إثبات العلاقة بين العلمانية والتنمية الاقتصادية.
استعانت الدراسة ببيانات من رابطة (مسح قيم العالم) (WVS)، ورابطة (مسح القيم الأوروبية) (EVS)، وهما مشروعان بحثيان عالميان يهدفان إلى اكتشاف قيم الأفراد ومعتقداتهم، ويوضحان كيف تتغيّر بمرور الوقت، إضافة إلى التأثير السياسي والاجتماعي لتلك القيم.. ومن خلال المسح، الذي أجري في 109 دول، تعرّف الباحثون على اختلاف أهمية الدين لدى الشعوب خلال الفترة بين عامي 1990 و2014، وأضافوا إليها ما توفر من معلومات طوال القرن العشرين، أي من عام 1900. ثم قام الباحثون بمقارنه النتائج مع التطور الاقتصادي لكل دولة.
يقول الدكتور (داميان روك) من جامعة بريستول، وهو أحد المشرفين على الدراسة:
“عرفنا منذ عقود أن الدول العلمانية تميل إلى أن تكون أكثر ثراءً من الدول الدينية، ويعود السبب إلى عوامل معرفية واجتماعية معقدة لدى أفراد تلك الدول. ومن هنا انطلقنا في الدراسة، لمعرفة ما إذا كان للعلمانية أثرًا على الاقتصاد، وحاولنا إيجاد إجابة واضحة لسؤال: هل جاءت الدجاجة العلمانية أولاً، أم البيضة الاقتصادية؟”
لحظت الدراسة التي نشرت عام 2018، في منهجيتها عدة عوامل، منها عامل يتعلق بأهمية الدين في حياة الإنسان، وهو العامل الذي حدد الباحثون على أساسه مقياس العلمانية في بلد معيّن. وهناك عامل آخر متعلق بمدى تقبل المواطنين لبعض السلوكيات، التي غالبًا ما تكون ممنوعة اجتماعيًا، ومنها الانتحار، والمثلية الجنسية، والإجهاض، وأطلق الباحثون على هذا العامل اسم (التسامح الديني)، كما رصدت الدراسة عدة عوامل أخرى.
تؤكد الدراسة في نتائجها أن: “هناك علاقة تربط بين التنمية الاقتصادية والعلمنة، فنجد أن البلدان شديدة التدين، تميل إلى أن تكون الأشد فقرًا.” وتتابع: “قارنا درجة العلمنة مقابل الناتج المحلي الإجمالي للفرد، في كل بلد عبر الزمن، ووجدنا أدلة واضحة على أن التغييرات في العلمنة، تسبق التغيرات في الناتج المحلي الإجمالي للبلدان، فعندما يحدث أي انخفاض في العلمنة، يرافقه انخفاض مماثل في الناتج المحلي الإجمالي، والعكس. كما وجدنا أن انخفاض العلمنة يسبق انخفاض التنمية الاقتصادية، والعكس.”
يذكر الباحثون، طرق إجراء الاختبارات، عبر المسح والاستبيان بواسطة المقابلات الشخصية، باللغات المحلية لكل دولة، وقد تمت معالجة النتائج، واستخدامها في الرسوم البيانية، حيث وجد الباحثون أن حركة مؤشر العلمانية، يسبق بشكل دائم حركتي التنمية الاقتصادية والناتج المحلي، في جميع الدول التي أجريت عليها الدراسة، وقد أكدت النتائج أن احترام الحقوق الفردية والتسامح معها، سببان رئيسيان للتنمية الاقتصادية، فالبلدان التي يمتلك مواطنوها القدرة على التسامح مع أمور مثل الإجهاض، والطلاق، والمثلية الجنسية، يكون لديها فرصة أكبر للازدهار الاقتصادي، على عكس الدول التي لا تتسامح مع تلك الأمور، أو تعاقب أصحابها. كما أظهرت الدراسة أن تطوير نظام التعليم في بلد ما، سوف يؤدي إلى تطور الناتج المحلي الإجمالي.
ويختم الدكتور (داميان روك) في تعليقه على الدراسة قائلاً:
“يعتبر احترام حقوق الأفراد انتصارًا أخلاقيًا للثورة الإنسانية، ومن خلاله يتوفر (الدعم) الذي تحتاجه المجتمعات، للوصول إلى الازدهار الاقتصادي، فالأمر يتطلب احترام الحقوق الفردية والتسامح مع السلوكيات الاجتماعية، وقد أظهرنا في دراستنا أن المجتمعات العلمانية تصبح مزدهرة فقط بمجرد أن تطور احترامًا أكبر للحقوق الفردية.”