الثقافة… المعرفة الإبداعية- سامي سماحه
لا يجوز لنا أن نُسطّح معنى الثقافة ونضعه في خانة ما قاله الأقدمون أو ما يقوله بعض الذين جادت عليهم الحياة بنعمة اليُسر المادي أو يُسر الموقع السياسي، فأصبح لهم في كل قضية رأي، وأصبح للمتملقين الذين أنعمت عليهم الدنيا طلاقة اللسان وكثرة الكلام الفارغ وموهبة توزيع الألقاب، فجعلوا من أسيادهم ميسوري الحال أعمدة ثقافية تشبه البالونات المنفوخة، تتلاعب فيها الريح وترميها قطعا منتفة حيث تشاء الأقدار.
لا تعني الثقافة تقويم الاعوجاج أو تأديب التلميذ وتربيته، كما جاء في معجم المعاني الجامع، لأن ما سبق اللغة العربية كان ثقافة لا تعني تقويم الاعوجاج بل تعني تطوير أساليب الحياة. فشريعة اوركاجينا فعل ثقافي، وشريعة حمورابي فعل ثقافي، وفكرة التوحيد فعل ثقافي، وفكرة اجتماع الناس في مدينة أوروك لاتخاذ القرارات المناسبة فعل ثقافي سبق الفلسفة اليونانية بردح من الزمن. حتى عمليات سد الحاجة التي مرت بمراحل ثلاث هي زراعة المعزق وزراعة المحراث وزراعة البستان، أليست فعلاً ثقافياً أنتج عادات وتقاليد جديدة عند الجماعة البشرية؟ ولم تعد الثقافة شأنا فرديا ينتقل عبر التلقين أو التدريس فنقول “فلان درس على يد فلان” كما كان يحصل في ماضي الأزمان.
أما من حيث هي صفة فتأخذ معنى الحذق والفطنة والذكاء وسرعة التعلم، وهذه صفات لا يكتسبها الإنسان من المجتمع بل تنشأ معه بالولادة وتنمو برعاية الأهل والمجتمع.
الثقافة تعني المعرفة الإبداعية وليست معرفة الحفظ أو النقل في شأن من شؤون الحياة كالسياسة والاقتصاد والفلسفة والأدب، الخ.
الثقافة تعني أن يرى المرء ويبني على ما رأى اجتهادا جديدا يطّور حالة المرئي بهدف تجويد الحياة.
الثقافة لا تعني معرفة المشكلة فحسب، بل تعني معرفة المشكلة وطريقة حلها. ولا تعني مُلكية المعلومة فقط بل تعني أيضاً طريقة عرض المعلومة، خاصة عندما تكون المعلومة شأنا عاما وليست شأناً فردياً، لأن طريقة العرض توازي بأهميتها أهمية المعلومة، ففعل المعلومة في المجتمع يتوقف على فهم عامة الناس لها وليس على فهم مطلقها.
نحن مازلنا نكرر إشكاليات القرن الماضي، وما زالت التحديات التي واجهها شعبنا في النصف الثاني من القرن الماضي حاضرة في كل ساحات الوطن.
فلا وحدة الدولة أُنجزت ولا وحدة المجتمع تمت، ولا الديمقراطية سادت ولا قوس العدالة استقام ولا الأرض المغتصبة عادت.
أحزاب الوحدة تراجعت وبحضن الكيانية استقرت. وأحزاب الطوائف من شرنقة العزلة خرجت، ومن نومها استفاقت، وفي الساحات راياتها ارتفعت، وعلى المنابر بأصواتها غرّدت، وبزيلها بقايا الأحزاب الوطنية رُبطت، وأحزاب الشعارات الوطنية المعلنة بأهدافها الطائفية حكمت البلد.
لم تستطع ثقافة الوحدة اختراق جدران المدينة، بل نجحت ثقافة المدينة احتواء الأطراف ، فلا الأطراف بقيت أطرافا ولا تحولت إلى مدينة، ولا المدينة استطاعت أن تدخل في زمن الدولة المدنية. ولأننا نُحسن الضيافة ونُكرم الضيف حلّت في ربوعنا ثقافة الغرب فأصابنا ما أصاب ذاك الراعي الذي هداه موسى إلى صلاة الأتقياء فنسي صلاته ولم يتعلم صلاة الأتقياء.
اذا كانت وظيفة المثقف تعريف الجماعة إلى هويتها وترشيدها إلى مصالحها وزرع الأفكار المحيية في المجتمع، فحري بنا أن نسأل: لماذا ثبتنا على حال واحدة ثم انحدرنا؟
أين نجد المثقف في كل هذه البسطات المتنوعة؟
هل غلب الماضي الحاضر والمستقبل؟
لماذا أجدنا السباحة في بحر الذاكرة .
هل غلب النقل العقل؟
نعود إلى الثقافة والمثقف؛ هل نستطيع الحديث عن مثقف انكسر وثقافة انهزمت أما أننا لم نشهد ثقافة وطنية ومثقفاً وطنياً؟
أعتقد الحديث عن الهزيمة والانكسار أقرب إلى المنطق.