الأسس العلمية لتكوين المجتمعات الإنسانية- الدكتور جورج يونان

image_pdfimage_print

المزيج السلالي واقع مجتمعي

من البديهي أن ندرك أن العلوم الحديثة قد خطت خطوات واسعة في جميع الميادين التي كانت حتى أوائل القرن الماضي، لا تزال مجهولة لدى الإنسان. فقد أتى التقدم العملي – التكنولوجي على ذلك المجهول إلى حد بعيد، وزوّد العقل الإنساني بطاقات فذّة لكشف الحقائق وإثبات بيناتها بقرائن حسية لا تقبل الجدل. فعلم الطبيعيات الذي يعتبر، بل ويسير، في مقدمة تلك العلوم اثبت صحته وقدرته. ومكّن الإنسان من الغوص إلى أعماق الحقائق الكامنة خلف أسرار التركيب البنيوي البيولوجي للكائنات الحية، ودراسة وظائفه وخصائصه الفيزيولوجية، بحيث لم يعد الإنسان يقف عاجزاً أمام الظواهر الطبيعية أو جاهلاً الحقائق العلمية والاجتماعية الثابتة. وبنتيجة الغوص العميق في محيط العلوم الطبيعية، تمكن الإنسان من إدراك حقيقة التركيب الاجتماعي – النفسي – الاثنولوجي للمجتمعات البشرية، بواسطة علم الوراثة والمورثات (L’hérédité et la Génétique)  فهذا العلم قد كشف الكثير من خفايا التركيب البنيوي البيولوجي للكائنات الحية، ولا بد لنا من الرجوع إليه لدراسة وإيضاح مختلف مراحل التطور التي سلكتها المجتمعات الإنسانية في سياق تطورها ونموها وتمايزها الحضاري والاجتماعي. إذ إن المجتمعية (أو الاجتماعية) هي صفة ملازمة للإنسان منذ الكينونة الأولى فَرَضَتها الحاجة الاقتصادية. وتقابلها صفة التمايز الحضاري والاجتماعي. إلا أن ذلك لا يتعارض إطلاقاً مع احتمالات تطورية مقبلة لدى المجتمع، أو مع احتكاكه ومشاركته الحضارية والتاريخية لمجتمعات أخرى مع الاحتفاظ بشخصيته الاجتماعية والحضارية المستقلة. إذ من طبيعة التطور ان يحدث بأشكال مختلفة إلى جانب استمرار شخصية المجتمع المتطور. اما اذا زالت تلك الشخصية فيعني ذلك فناءها لا تطورها. علماً بأن قيمة المجتمع هي في استمراره بصورة فعالة وبطاقاته النادرة على عوامل الزوال والفناء.

وإثباتاً لحقيقة المزيج السلالي المتجانس كواقع اجتماعي منذ تكونه ثم بتفاعلاته الزمنية والمكانية والبيولوجية، لا بد من تحليل هذا المزيج ابتداءً من عناصره الأساسية، ودرس احتمالات تركيب تلك العناصر أو استحالته، ومن ثم نتدرج بالبحث لدرس هذا المركب. إن أية دراسة علمية لمركب ما تقتضي دراسة الوحدة التركيبية لهذا المركب بأكمله. والمجتمع هو مركب بشرياً من مجموعة أفراد. إذن فالفرد هو أصغر وحدة حياة بشرية في النطاق المجتمعي، كما تشكل الخلية أصغر وحدة حياتية في النطاق البيولوجي للكائن الحي. ولا بد لنا في هذه الدراسة من أن نتّبع مرحلتين:

مرحلة رقم 1: من الخلية كأصغر وحدة بيولوجية إلى الفرد ذي العرق الصافي كأصغر وحدة حية بشرية في المجتمع.

مرحلة رقم 2: من الفرد ذي العرق الصافي إلى المجتمع، المتبلور، المتمايز، مروراً بالمزيج السلالي.

  • من الخلية إلى الفرد ذي العرق الصافي:

لكل فرد صفات معينة تبقى ثابتة فيه مدى الحياة. وهذه الصفات تتلخص في المجموعات التالية:

  • الصفات النوعية: وهي التي تحدد النوع، كأن يكون هذا النوع إما الإنسان أو القرد، أو الثعلب، الخ… ولن نتعرض لهذه الصفات طالما أن هذه الدراسة تقتصر على نوع واحد هو الإنسان. والحجة في ذلك أن هذه الصفات لا تتعدل ولا تتغير من جيل إلى جيل. كما أن التزاوج بين الأنواع غير موجود. فلا زواج بين الإنسان والثعلب مثلاً. وهاتان الحجتان تثبتان أن الصفات النوعية باقية لا تتغير أبداً ما دام النوع باق. أو بالأحرى هي التي تؤمن استمرار النوع.
  • الصفات الفردية: وهي تختلف من فرد لآخر، وتعطي الفرد تمايزاً مختلفاً. هذه الصفات وحدها تتعدل وتتغير من جيل إلى جيل، وذلك بتدخل عاملي الوراثة والبيئة. من هذه الصفات القامة، حجم الجمجمة وشكلها، والوزن. ولون قزحية العين، الخ…
  • الجنس: هي صفة مستقلة، قائمة بذاتها، لا تدخل ضمن الصفات الفردية أو النوعية. لأن الجنس يحدده كروموزوم معين لا علاقة له بالكروموزومات الخلوية التي تحدد الصفات الفردية، كما أن الصفات الفردية التي نحن بصدد الحديث عنها، ليس لها خاصة التذكير أو التأنيث، إذ يمكن أن يكون الرجل قصير القامة، والمرأة كذلك. ويمكن ان يكون حجم الجمجمة متشابهاً لدى الجنسين. فالصفات الفردية إذن هي وراثية تنتقل من جيل إلى جيل. وهذا الانتقال يخضع لقوانين معروفة في علم الوراثة، كالقوانين التي استخدمها العالم (مندل Mendel) والتي عرفت باسمه. والاستعانة بها في فهم الموضوع ضرورية، وهي سهلة الفهم لأنها استخلصت من تجارب النفولة المنفردة Le Monohybridisme وتتلخص تجارب النفولة المنفردة بإجراء تلقيح بين فردين ينتسبان إلى عرقين صافيين يختلفان عن بعضهما بصفة واحدة فقط. (جميع التجارب في العلم الطبيعي تجري إما على الحيوان أو على النبات) فنجد كما يقول مندل:

أولاً: إن أنفال الجيل الأول جميعها متشابهة فيما بينها، مثال على ذلك: إذا لقحنا نبتة ذات زهور حمراء بغبار نبات ذات زهور بيضاء فإن سائر النباتات التي تنتج من هذا اللقاح تحمل أزهاراً وردية أي ذات لون وسط بين الأحمر والأبيض. فصفات الآباء هنا متزاوجة.

ثانياً: التصالب أو اللقاح بين أنفال الجيل الأول، يعطي جيلاً ثانياً ذا صفات مختلفة. فصفات الاباء في الجيل الأول تنفصل في الجيل الثاني، مثال على ذلك: إن اللقاح بين الأزهار الوردية التي حصلنا عليها في الجيل الأول يعطينا في الجيل الثاني أزهاراً 25% منها ذات لون احمر، و25% أخرى ذات لون ابيض، و50% الباقية ذات لون وردي. وواضح أننا حصلنا على ثلاث صفات مختلفة: أبيض، أحمر، وردي.

ثالثاً: إن انفصال صفات الآباء يتم بطريقة مستقلة في كل زوج من الصفات، بغض النظر عن وجود أزواج مختلفة من الصفات الأخرى. —- أزواج مؤلفة من لقاح الأخضر والأصفر مثلاً إلى جانب وجود أزواج من لفاح الأحمر والأبيض. (أنظر الشكل)

الزواج في الجيل الأول والجيل الثاني ليس بالضرورة أن يكون محصورا في العائلة الواحدة فالزواج بين الإخوة غير موجود، وإنما هو زواج بين موروثات. هذه الموروثات تأتي من عائلة ثانية تحمل نفس الموروثات. والأمر ينطبق على كل الموروثات في تنوعها وتشابهها حين تكون مركبة، وهي مركبة عند الكائنات الحية، فتصوَّر مقدار التنوع في الصفات وتصالبه الذي يؤدي إلى المئات من الآلاف منها وأكثر .

هذه القوانين صحيحة فيما اذا كانت الصفتان الحمراء والبيضاء متساويتين في القوة. ولكن قد يحدث في بعص الأحيان أن تكون إحدى الصفتين الأبويتين مسيطرة على الصفة الأخرى. ولو فرضنا أن الصفة الغالبة والمسيطرة هي الأحمر، في هذه الحالة لا نرى الأنفال ذات اللون الوردي لا في الجيل الأول ولا في الجيل الثاني، ولكن نرى محلها أنفالاً ذات لون احمر. في هذه الأنفال صفات الآباء لا تزال متزاوجة أي أحمر مع ابيض، ولكن بما أن الأحمر يسيطر على الأبيض فبذلك نحصل على زهور حمراء كلياً بدلاً من الزهور الوردية. وتصبح نسبة الورود الحمراء في الجيل الثاني 75%.

هذه هي تعميمات مندل. إذن فصفات الإنسان موروثة. ولكن ما هو المنطلق الذي تنطلق منه هذه الصفات؟ إنها مطبوعة على الخلية الأولى الأم. والخلية الأولى، وهي منطلق كل فرد منذ الأزل، تنتج من اتحاد النطفة وهي الخلية الجنسية المذكرة مع البيضة التي هي الخلية الجنسية المؤنثة. هذا الاتحاد يحدث في رحم الأنثى والخلية الناتجة عن الاتحاد تتطور في الرحم لتعطي الجنين. هذا التطور يشمل سلسلة من الانقسامات الخلوية الثنائية: فالخلية الأولى تعطي خليتين، وهاتان الخليتان تنقسمان إلى أربع خلايا وهكذا دواليك. ثم تخضع كل مجموعة من الخلايا الناتجة إلى نوع من التمايز لتكوّن شتّى أعضاء الجنين ثم الوليد فيما بعد، هذا التمايز هو تمايز وظائفي وبنيوي. ولا بد من الإيضاح بأن هذه السلالة الخلوية التي تكوِّن جسم الجنين لها نفس صفات الخلية الأم. أما عن التمايز الوظائفي والبنيوي، فأعني به أن كل عضو في الإنسان، كاليد والقلب والدماغ الخ… له بنية معينة ووظيفة معينة، فتأتي كل مجموعة من الخلايا لتأخذ شكل العضو المطلوب، ثم تكيّف عملها حسب الوظيفة المطلوبة من العضو.

أثبت العلم الحديث أن الصفات الفردية التي تحدثنا عنها، تحملها الخلية في بنيتها البيولوجية. فيوجد في نواة كل خلية من خلايا الجسم عصبات صغيرة تسمى الصبغيات (les chromosomes) تكون الصفات الفردية مطبوعة عليها. (أنظر الشكل المقابل).

وجميع خلايا الجسم تحمل نفس نوعية الصبغيات ونفس العدد منها ويرمز لهذا العدد بـ (2 ن) ، وكذلك الخلايا التناسلية تحملها ولكن عدد الصبغيات في كل منها يساوي (ن) وبما أن البيضة (الخلية الأم) التي تعطي الخلايا الجسمية، هي حاصل اتحاد خليتين تناسليتين. فيكون مجموع الصبغيات في كل من البيضة والخلايا الجسمية يساوي ( 2 ن). من هنا نفهم آلية انتقال الصفات الفردية من الأبوين إلى الأبناء، أي الوراثة. فالصفات الفردية لدى الأبناء هي حاصل اتحاد صفات الأبوين المطبوعة على صبغيات الخلية الأم (البيضة). إذن فجميع الصفات الفردية تطبع بطابع الخلية الأم، التي منها انطلقنا، وقد أثبتت التجارب التي أجريت على العروق الصافية لدى الحيوانات  Les lignées pures، أن الصفة المولدة هي صفة مجردة من الجنس. وهي حاصل اتحاد الصفة الأب بالصفة الأم وكلتاهما أيضاً مجردتان من الجنس. فسواد البشرة مثلاً غير مقيد بالجنس، وقد يوجد عند الذكر كما قد يوجد عند الأنثى. وكذلك الذكاء. وبناء على قوانين (مندل) تتناسب درجة الكمال أو الرقي عند الخلية المولودة، وبالتالي عند المولود، طرداً مع درجة الرقي لدى كل من الأغراس الأبوية. فإن كانت إحدى الصفتين – الأم أو الأب – منحطة كانت لنا صفة مولودة تميل نحو الانحطاط. والتزاوج بين الأفراد ذوي الصفات المنحطة يعطينا عرقاً منحطاً. ولكن نظرية العرق الصافي خيالية ومخالفة للاجتماع نفسه. ذلك أن العلم الطبيعي نفسه يطلب شرطين لتحقيق أي عرق وحفظه وهما: – الانعزال الجنسي – والانعزال الجغرافي.

وهما شرطان لم يتحققا في أي متحد اجتماعي متطور. وقد نجدهما في المجتمعات والأقوام المتأخرة والمتقوقعة في اعتقاداتها العرقية. كبعض القبائل الأفريقية، وسكان الأصقاع الجليدية كالأسكيمو وبعض قبائل الهنود الحمر. وبرأي أنطون سعاده فإن الاجتماع البشري يقسم إلى نوعين رئيسيين: الاجتماع الابتدائي ورابطته الاقتصادية الاجتماعية هي رابطة الدم. والاجتماع الراقي ورابطته الاقتصادية الاجتماعية مستمد من حاجات الجماعة الحيوية للارتقاء والتقدم بصرف النظر عن الدم ونوع السلالة.

وفي الاجتماع الأول تقع الشعوب والقبائل التي هي في بداوة وبربرية، وفي الاجتماع الثاني تقع الشعوب التي أخذت بأسباب الحضارة وأنشأت الثقافة”. (سعاده – نشوء الأمم ص 55).

إن عرقية اليهود واعتقاداتهم برابطة الدم جعلتهم ينعزلون انعزالاً جنسياً عن الأقوام والمجتمعات التي حلّوا فيها رغم أن الانعزال الجغرافي لم يكن قد تحقق. وهذا الانعزال الجنسي أدى إلى تكريس عرقيتهم، التي أدت إلى نبذهم من المجتمعات الأخرى، وطرحهم كعوامل غريبة عن تركيب المجتمعات التي عاشوا فيها، لا تساهم في تطويرهم، وليس لها بالتالي، قيمة حضارية من أجل الإنسانية. إن الأعمال التي قام بها اليهود في فلسطين ولا يزالون، وتصرفاتهم في المجتمعات التي كانوا فيها، تنم عن عقيدة إنعزالية، وعرقية هدفها الإنعزال الجغرافي، كما يحصل في فلسطين بالتجمع اليهودي فيها، وفي الهلال الخصيب فيما بعد إذا لم تنتبه للأمر ونعد العدة لصدِّ هذه الموجة، وللحؤول دون تمكينهم من تحقيق كامل عرقيتهم، أي بتحقيق الشرط الثاني لوجود العرق الصافي وهو الانعزال الجغرافي. إن صد العرقية اليهودية لا يكون بالمساعدة على تحقيق أهدافها في الانعزال الجنسي والانعزال الجغرافي. ولكن بالحيلولة دون هذين الانعزالين، والحيلولة دونهما ضرورة حضارية، وحتمية لا يمكن التعايش معها، أو الهروب منها. إذ لا يمكن قيام هكذا مجتمع إلى جانب متحد حضاري يُؤمنُ بوحدة الحياة في بيئة الهلال الخصيب كلها، ويؤمنُ بمجتمع حضاري راقٍ منفتح على المجتمعات الأخرى، وعلى الحضارة الإنسانية، والفكر العالمي المتجدد أبداً. لقد حاولت هكذا عرقية، مراراً، قبل آلاف السنين تحقيق نفس الانعزال الجنسي ونفس الانعزال الجغرافي، وكان من المستحيل هضم هذا الانعزال، فحطمته الدورات الحضارية في المنطقة، من بابل وآشور، وبعثرته، وقضت عليه لمدة طويلة، وكان من الممكن أن تقضي عليه إلى الأبد لولا الموجات الاستعمارية على مدى قرونٍ في الماضي والحاضر، ساهمت ولا تزال في إعادة إحياء هذه العرقية، من أجل غاياتٍ سياسية طمعية بإعادة. وواضح أن مهمة صدِّ ذلك، تقع، أولاً وأخيراً، على مجتمع حضاري موحد، يعرف أبعاد المشكلة ويحصرها، مجتمع لا بد من قيامه في بيئة الهلال السوري الخصيب.

أما عن قبائل الأسكيمو، والقبائل الأفريقية المتوحشة، فقد تحقق لها انعزال جنسي أدى بها إلى التوغل في حالة انحطاطية لا يجهلها أي باحث. هذا بالإضافة إلى الانعزال الجغرافي في بيئات قاسية لها تأثير سيء على الإنسان، الذي جعل صيغتها البيولوجية تتوغل أكثر فأكثر في الانحطاط. واضح أن العرق الصافي ممكن نظرياً كحالة بيولوجية، ولكنه غير ممكن اجتماعياً، إذ لا يمكن وضع حواجز عازلة بين المتحدات الاجتماعية. وإن تفاعل الإنسان عبر الزمان والمكان يقضي على إمكانية الوجود البيولوجي للعرق الصافي.

  • من الفرد ذي العرق الصافي إلى المجتمع عبر المزيج السلالي:

قلنا إن وجود عروق صافية ممكن نظرياً. وبالتالي فإن وجود عروق منحطة وعروق راقية وما بينها الوسط، هو حقيقة علمية لا يمكن نكرانها. ولكن لا يستمر هذا الوجود عبر الزمن إلا إذا كان هناك انعزال جغرافي وانعزال جنسي للعرق عن غيره من العروق. وأن كلا الانعزالين لم يتحققا إلا عند بعض المتحدات البربرية. وتحقق هذا الانعزال أيضاً عند بعض الحيوانات الصغيرة، التي عزلت في نطاق محدود، أي في المختبرات، لهدف علمي بحت. وإن انعزال تلك الشعوب كان مرادفاً للانحطاط والبربرية، وعاملاً في استمرار بعض الصفات المنحطة والضعيفة في هذه الشعوب، إذ أن الصيغة البيولوجية لم تتلقح بصفات جديدة. إذ كيف يمكن تفسير وجود بعض الأمراض عند اليهود فقط، وفقدانها عند الأقوام الأخرى، وهي في غالبيتها أمراض وراثية أو شبه وراثية، إن الشعوب المتحضرة في الوقت الحاضر هي مزيج متجانس نتج عن الاتصال الجنسي بين مختلف المتحدات الاجتماعية، وكل مجتمع أفراده مكونة من مزيج سلالات تَجَمَّعَ هذا، وتبلور، وتمايز بفعل البيئة، كما سيأتي. ويتوقف مقدار رقي، أو انحطاط أي مجتمع على نوعية السلالات الداخلة في تركيبه، خلال عصور التاريخ المختلفة. والرقي، والانحطاط ليسا حادثتين اجتماعيتين، إنما هما نتيجتان بيولوجيتان. والعرق الصافي أو المنحط هو غير موجود اجتماعياً، لكن الصبغيات التي تحمل صفة الرقي أو الانحطاط تنتقل بعوامل الوراثة متفاعلة مع الصبغيات المتزاوجة معها. ولا بد من الإشارة إلى أن مجموعة السلالات التي تجمعت وامتزجت وتبلورت وتمايزت في بيئة واحدة، هي نفسها نتجت في بيئات مختلفة، والظروف التي كانت سائدة في كل بيئة هي التي أعطت لكل متحد اجتماعي (الذي نسميه خطأ سلالة) فرصة البقاء في بيئته والتمسك بها، أو الانتقال منها إلى بيئة أخرى. والظروف البيئوية هي أصل كل التحركات الاجتماعية في العالم سواء كانت هذه التحركات حربية أم حضارية، امتدادية أم انكفائية. ولا بد من الإشارة إلى أن عملية الاتصال الجنسي لمتحد اجتماعي في بيئة معينة مع متحد اجتماعي آخر ممتد أو منكفئ، لا تلغي البنية البيولوجية لصبغيات المتحدين، لكن تعدلها تعديلاً نظامياً متناسقاً في عنصري الطرفين المتزاوجين، يؤدي في النهاية إلى تشابههما والتقائهما في الصفات. إن أثر هذا الاتصال الجنسي ليس إلغاءً ولا تراكماً، بل تناسقاً حياً. وتتناسب درجة رقي المركب الناتج انسياقاً مع درجة رقي العنصرين الأبوين. إذن يمكن القول بوجود مجتمعات منحطة، ومجتمعات راقية، بدلاً من القول بوجود عروق منحطة وعروق راقية. استناداً إلى الحقيقة البيولوجية والمجتمعية التي بيّناها، حقيقة وجود مركب هو المزيج السلالي، وحقيقة وجود عناصره الأولية المتفاعلة فيه ومع البيئة. وان عودة بسيطة إلى تاريخ المجتمعات الإنسانية ترينا هذه الحقيقة العلمية بوجودها الفاعل، وذلك بظهور الحضارات في مناطق معينة من العالم، كسورية، ووادي النيل، وحوض البحر الأبيض المتوسط، والصين. وفقدانها في مناطق أخرى كأواسط أفريقيا وجنوبها، والمناطق القطبية، والصحراوية. ولا بد من الإشارة إلى أننا لا نستطيع أن نوجه عملية خلق المجتمعات وتركيبها كيفما نشاء، بواسطة التدخل لتحويل العناصر البسيطة الداخلة في التركيب، وذلك للسببين الآتيين:

  • إن عملية التركيب ليست عملية تراكم أو جمع، إنها فعل حي، وهي استمرار لعملية الخلق.
  • لا يمكن تجاهل أثر البيئة في توجه المركب الاجتماعي والإنساني كما سيتضح في سياق البحث.

المزيج السلالي استمرار، واستمراره فعل حي، إن عملية المزج السلالي هي فعل حي، وقد ظهر لنا ذلك من كونها عمل بيولوجي مستمر. وكل حادثة بيولوجية لا يمكن أن تحدث إلا في حيزها الطبيعي In vivo.

ويمكن أن نتتبع مراحل هذه الحادثة. وسنرى لاحقاً أن جميعها تخضع للبنية البيولوجية. 1- الجاذبية الجنسية: هي حادثة مركبة معقدة عند الإنسان، تجذب الرجل، نحو المرأة أو بالعكس، وهي تساهم مع العقل في التعبير عن حاجة وشعور بالاجتماع لدى الإنسان. فهذه الجاذبية، وإن كانت مجهولة الطبيعة عند الإنسان حتى الآن، لا بد من امتداد جذورها إلى العامل البيولوجي، بالاستناد إلى كونها تعبيراً عن حاجة، وكل حاجة هي ظاهرة بيولوجية، بدليل ما اكتشف عند بعض الحيوانات من إفرازات بيولوجية تعطي رائحة معينة تجذب الذكر نحو الأنثى. أما العقل فلا يمكن أن نعزله عن سلامة البنية البيولوجية لأنه فعل فيزيولوجي. 2- الاتصال الجنسي: هو نتيجة دافع بيولوجي تحركه الإفرازات البيولوجية أيضاً كالهرمونات. 3- اتحاد العناصر في الرحم: فهذا الاتحاد، وان كان قد تحقق بشكل اصطناعي حتى الآن، يبقى مبتوراً في المستقبل ما لم يحدث في حيزه الطبيعيin vivo  وهذا الاتحاد موجه من قبل العناصر الداخلة فيه إذ أن التزاوج ضروري بين الصبغيات المذكرة، والصبغيات المؤنثة حتى داخل الخلية. (وهذا لا يعني التذكير والتأنيث بل النسبة أو الأصل) وهذا التزاوج غير خاضع للإرادة، ولا يمكن التحكم فيه بأي وسيلة تجريبية كانت. هذا فضلاً عن أن كلاّ من النطفة والبيضة تفرز مواد كيميائية تساهم في التحامها. إذن فعملية التركيب أو المزج السلالي هي عملية تلقيح حية ومستمرة، إلى ما لا نهاية.

 

قلنا سابقاً ان الصبغيات هي التي تحمل الصفات الفردية. ولمزيد من الوضوح، لا بد من قول بعض الكلمات حول ما يسمى بالمورثات. فالصبغيات نفسها تتألف من ألواح صغيرة متواضعة هي المورثات. ومن خواص هذه المورثات أن كل واحدة منها تعتبر مسؤولة عن صفة من صفات الفرد. فلو فرضنا انه لدينا صبغية عليها المورثات أ، ب، ج.

 

ولو فرضنا أن (أ) مسؤولة عن خضرة القزحيتين، و(ب) مسؤولة عن لون الشعر الأشقر، و(ج) مسؤولة عن تفلطح الرأس. فإن مجرد اختفاء أي مورثة من هذه المورثات وعدم وجودها لدى الأبناء يؤدي إلى اختفاء الصفة المعينة. فالمورثة (أ) التي تلون قزحية الأب بالأخضر، يمكن أن تحل محلها لدى الأبناء مورثة (أ) موجودة لدى الأم وتكون قزحيتها باللون البني. وهكذا دواليك. فالحديث عن المورثات يكون مرادفاً للصفات.

ولنعد إلى عملية التركيب أو المزج السلالي لنرى آليتها: (انظر الشكل). فلو فرضنا أن هناك نسل مذكر منطلقه الفرد (ب)، وهو حسب تتابع الأجيال: الابن (ب1)، ثم الحفيد (ب2)، ثم ابن الحفيد (ب3)، ثم حفيد الحفيد وهو (ب4) …الخ… إن الصيغة البيولوجية للأفراد (ب1)، (ب2)، (ب3)، (ب4)… الخ ترجع ببعض جذورها إلى الصيغة البيولوجية للفرد (ب). ونجد أن بعض المورثات في (ب1) هي نفسها المورثات في (ب) ولكن ابتداءً من (ب 1) نقع على بعض المورثات التي لم يكن لها وجود في (ب) والتي أتت من اللقاح الذي مصدره الأنثى. كما أن الأب (ب1) بزواجه من الأنثى (د) يعطينا فرداً (ب2) صيغته البيولوجية تختلف عن صيغة والده (ب1) بظهور بعض المورثات المستمدة من والدته (د). ويستمر ظهور المورثات الجديدة، تدريجياً، كلما أتينا على جيل جديد حتى نصل إلى (ب4) مثلاً أو (ب ما لا نهاية) فنرى أن نسبة المورثات الجديدة هي أضعاف نسبة المورثات القديمة المنحدرة من الأب (ب). هذا إذا فرضنا، نظرياً، أن المورثات الجديدة تبقى ثابتة (انظر الخط البياني الذي هو توضيحي فقط):

ولكن الحقيقة أن المورثات الجديدة نفسها تخضع في الجيل التالي إلى نفس المصير الذي خضعت له المورثات (ب) في الجيل الأول وتعطينا منحنياً بيانياً مشابهاً، وهكذا نحصل على منحنيات عديدة متشابهة، هذه المنحنيات توضح مدى التغييرات التي تخضع لها البنية البيولوجية لنسل ما. ومن جهة أخرى إن المورثات الآتية من الزوجات، على طول النسل، ليست من نوعية واحدة، ولكن تختلف في كل جيل حسب الصيغة البيولوجية للأنثى. إذ ليس هناك من علاقة بيولوجية، أو بالمعنى الشائع، ليس هناك من قرابة حتمية بين الأنثى (ج) والأنثى (د) أو الأنثى (ه) أو الأنثى (و).

من هنا نستنتج:

  • استمرار فعل المورثات الأولية، في الجسم المركب. فالمورثات لا تختفي كلياً، ولكن يتناقص عددها تدريجياً كما ظهر في المنحني البياني. وهذا التناقص غير متناهي ذلك أن عدد المورثات كبير وغير معدود.
  • استمرار عملية المزج السلالي إلى ما لا نهاية. فالمزيج السلالي ليس معيناً إلا في جيل ما، ويعدل في الجيل الثاني.
  • عملية المزج السلالي، عملية تحدث في التركيب الحي للفرد، وليس في التركيب العام للمجتمع. وهذه الحقيقة تدحض النظريات العنصرية التي تحاول تقسيم المجتمع تقسيماً عمودياً. والمزيج السلالي دائماً متجانس وتختلف صيغته من فرد لآخر في المجتمع، وفي الجيل الواحد. ولكن تبقى النسب الداخلة في المزيج، من المورثات الأولية والجديدة، نسباً متقاربة بين هؤلاء الأفراد.

 

أثر البيئة: البيئة هي وحدة أرضية معينة بحدود جغرافية أبدية وهي ذات طبيعة جيولوجية واحدة أو متقاربة في تنوعاتها، وتسود فيها دورة مناخية واحدة، ودورة زراعية – اقتصادية واحدة مرتبطة بالمناخ. فلا يمكننا عزل حادثة المزج السلالي عن تأثير البيئة والعوامل الطبيعية السائدة فيها. وهذا ما عنينا بقولنا أن الانعزال الجغرافي كان شرطاً أساسياً واجب التحقيق، لاستمرار العرق الصافي، إلى جانب الانعزال الجنسي. وقد رأينا أن هذا الشرط مستحيل التحقيق، بالنسبة للإنسان على الأقل،

لأنه لا يمكن التحكم في العوامل السائدة في البيئة على نطاق واسع. ومن الثابت تاريخياً حتى الآن أن الحضارات انحصرت في مناطق معينة من العالم، كسوريا ومصر الخ…. وانعدمت في الأماكن الأخرى كأفريقيا والمناطق القطبية. وبغض النظر عن نوعية المزيج السلالي التي تداخلت في هذا التوزيع الجغرافي للحضارة، وبدراسة بسيطة للظروف المناخية وطبيعة الأرض في هذه المناطق، نجد أن البيئة كان لها دور في هذا التوزيع. لا بل من جهة أخرى يمكن الجزم بأن البيئة هي المسؤولة عن إعطاء المزيج السلالي نوعية معينة (متطورة أو منحطة)، وذلك على مدى طويل من السنين. “إن تقسيم الأرض إلى بيئات هو السبب المباشر لتوزيع النوع البشري جماعات. فالبيئة كانت ولا تزال تحدد الجماعة، لأن لكل بيئة جغرافيتها وخصائصها… فلو أن الأرض كانت سهلاً منبسطاً في درجة واحدة من الحرارة والرطوبة، خاليةً من الحدود الجغرافية من صحارى وجبال وانهار وبحار، لكان من البديهي أن يؤدي انتشار النوع البشري فيها إلى إنشاء جماعة واحدة كبيرة. ولكن الحدود الجغرافية الطبيعية جعلت انتشار الإنسان في الأرض موافقاً للبيئات الجغرافية، التي لولاها لما استطعنا تفسير ظواهر المدنيات المختلفة”. (سعاده – نشوء الأمم ص 41). إن أثر البيئة في الفرد سكوني ومحرك. فهي تؤثر سكونياً في الصيغة البيولوجية للفرد، دون أن يكون هناك رد فعل إرادي معاكس أو موازي. فحياة الإنسان تتوقف على “درجة الحرارة، أو البرودة، ومعدل الأوكسجين في الهواء” وطبيعة الإشعاعات الشمسية السائدة في كل بيئة. والعلم الطبيعي يعتبر كل هذه العوامل مؤثرة وفاعلة في بنية الإنسان. مثال على ذلك: مع أن لون البشرة هو من الفوارق الظاهرة بين الجماعات البشرية فهو ليس فارقاً سلالياً أصلياً، بل مكتسباً من تأثير البيئة الطبيعية (سعاده – نشوء الأمم ص 34). ما يهمنا من هذا القول هو أن البيئة مسؤولة عن اللون. وسنرى أن كل ما تكونه البيئة ينتقل تدريجياً لينطبع على الصيغة البيولوجية. وفي الوقت نفسه تؤثر البيئة في الفرد تأثيراً محركاً، فهي تؤثر في الألية الفيزيولوجية مما يولد عنده رد فعل إرادي يتمثل في التكييف الذي يأخذه الفرد تجاه هذا الأثر. وتكيفه ليس تجنباً أو هروباً من أثر البيئة، ولكن محاولة للتوافق بين ثوابته البيولوجية والفيزيولوجية من جهة وأثر البيئة من جهة أخرى. إنه عملية احتواء لهذا الأثر لصبه في وجهة إيجابية ومفيدة. “الأرض تكيف الإنسان، وهو بدوره يرد الفعل ويكيفها، وإلى هذه العلاقة المتينة يعود تفوق الإنسان على بقية الحيوانات في تنازع البقاء. يكيف الإنسان الأرض ولكن الأرض نفسها تعين مدى هذا التكييف وأشكاله حسب بيئاتها الإقليمية. وفي الوقت الذي يسعى هو لتكييف الأرض لتوافق حاجاته الحيوية يجد نفسه مضطراً لتكييف حاجاته حسب خصائص الأرض النازل فيها”. (سعاده – نشوء الأمم ص 40).

إن أثر البيئة في المجتمع عبر الأفراد يؤدي إلى:1- المساهمة في ارتقاء المجتمع 2- المحافظة على تمايزه وديمومته. هذا اذا كانت الظروف البيئية ملائمة للحياة. أما اذا كانت غير ملائمة فإن تأثير البيئة يؤدي إلى: 1- المساهمة في انحطاط المجتمع. “فمدنية الجماعة المستقلة مستمدة من بيئتها لأن الاستبسال والتكييف يجب أن يكونا ملازمين لخصائص البيئة الطبيعية وموافقين لها”. (سعاده – نشوء الأمم ص 42). 2- المحافظة على تمايزه. ولكن هذا التمايز ليس مقروناً بديمومة المجتمع، أن تأثير الظروف البيئوية غير الملائمة يؤدي إلى انقراض المجتمع. ويتفق كل العلماء على نظرية أثر البيئة في الفرد، وبالتالي في المجتمع، ولكنهم يختلفون على درجة هذا التأثير. وقد أطلقت نظريات عديدة، بهذا الشأن نورد منها الآتية: نظرية لامارك: وهي ذات شقين: 1- نظرية التكيف الوظائفي: “في كل حيوان لما يكتمل نموه، يفضي استعمال عضو من الأعضاء أكثر من غيره استعمالاً دائماً إلى نمو العضو وتقويته، واكتسابه قدرة متناسبة مع مدة هذا الاستعمال. ويفضي الإهمال الدائم وعدم استعمال هذا العضو إلى إضعافه وضموره حتى يزول في النهاية”. هذا التكيف يأخذ ثلاثة مظاهر: أ- التحول البيولوجي وفيه يفقد الكائن الحي إحدى صفاته ويكتسب صفة أخرى. وقد ثبت ان زراعة بعض النباتات في أقاليم تختلف عن الإقليم الذي تعيش فيه عادة، تعطينا نباتات ضامرة ذات منتوج أقل. ب- التكيف الشكلي: مثال ذلك: طول عنق الزرافة الذي يعزى إلى كونها عاشت في أماكن غير معشّبة فاضطرت إلى أن تشرئب بعنقها لتصل إلى الأشجار العالية. سماكة الطبقة الشحمية عند الحيوانات القطبية، فقدان الأطراف لدى الحيوانات الزاحفة. ضمور العيون لدى الحيوانات التي تعيش في الكهوف. كثافة الطبقة الصبغية لدى المجتمعات التي تعيش في الأماكن المعرضة أكثر من غيرها لأشعة الشمس.

ج- التكيف الفيزيولوجي أو نشاط الهيبوتلموس (Hepothelamus) أو التفاعل مع الحرارة الخارجية. هناك نوع من التوازن بين العوامل السائدة في البيئة وبين العوامل المحافظة على الثوابت الفيزيولوجية في داخل الإنسان كالحرارة الداخلية وإن اختل هذا التوازن أدى إلى حالة مرضية.

نظرية توارث الصفات المكتسبة: “كل ما كَسَّبته الطبيعة أو أفقدته من صفات الأفراد نتيجة لتاثير مستمر لعوامل البيئة تنتقل بالوراثة إلى الإنسان”.

نظرية دارون: ” يقول دارون بأن التطور الذي مرت فيه مختلف الكائنات الحية، يعود سببه إلى تأثير الوسط (البيئة). وهذا التطور حصل بالاصطفاء الطبيعي. فالكائنات الحية الأكثر قدرة على التكيف مع عوامل البيئة هي الأكثر قدرة على الحياة والبقاء. وهذا يفسر اختفاء بعض الأنواع الحيوانية في العالم مع تغير الظروف البيئية فيه. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، هناك كثير من التغيرات البيولوجية التي تحدث خلال الانتقال من الأبوين إلى الأبناء وتؤدي إلى اختفاء بعض الصفات الفردية، وظهور صفات أخرى. وهذه التغيرات لا يمكن أن تحدث إلا بحادثة الفجائية التي يقول دارون بأن أسبابها مجهولة. إلا انه برأيي لا يمكن أن نفصل هذه الحادثة الفجائية(Mutation) أيضاً عن تأثير الوسط. وهي تحدث تحت تأثر عوامل بيئوية شديدة القوة.

نظرية ليسكو وميتسورين: هذان العالمان يفترضان أن هناك عناصر حية أخرى في الخلية، غير النواة، تحمل وراثة خاصة، وأن تعريض هذه الخلية لعوامل البيئة يؤدي إلى تغير المادة الحية، وإلى إثبات هذا التغير مع الزمن في الأنسال التالية. ينتج مما تقدم أن البيئة تترك أثراً كبيراً في الكائن الحي، هذا الأثر الذي تختلف درجته باختلاف درجة العامل المؤثر، وباختلاف مكان تأثيره la cible. وعمل البيئة ينضم إلى عمل الالقاح المتتالي في مختلف الأجيال، الذي هو – أي عمل البيئة – عمل ارتقائي في أغلب الاحيان. فالبيئة الخصبة تسهل عملية الارتقاء وتساهم فيها كما ثبت ذلك في أماكن عديدة من العالم. أما البيئة الصحراوية فإنها تعاكس الارتقاء وتحاول القضاء على الحياة بما يسود فيها من عوامل مناخية واقتصادية قاسية. وكذلك الامر في البيئة الشديدة البرودة كما في المناطق القطبية. ليس التوزيع البشري في العالم إلا نتيجة للعوامل السائدة في البيئات المختلفة، والعكس ليس صحيح. وهذا التوزيع هو توزيع مجتمعي. إن العوامل المناخية الصعبة السائدة في القمر هي التي حالت دون ظهور الحياة عليه. ولا نستطيع أن نقول بأن العوامل المناخية الصعبة هي نتيجة لعدم وجود حياة على سطحه. “لا بشر حيث لا أرض، ولا جماعة حيث لا بيئة، ولا تاريخ حيث لا جماعة”. (انطون سعاده – نشوء الأمم ص 45). ومن حيث المحافظة على تمايز المجتمع وديمومته فنقول إن المزيج السلالي في ارتقائه يتبع تحولات العوامل السائدة في البيئة، خلال مدة زمنية طويلة. وهذه العوامل التي هي مناخية – اقتصادية تختلف من بيئة لأخرى، مما يعطي التحول اتجاهاً معيناً ووجهاً خاصاً، إتجاهاً ووجهاً نابعين من طبيعة هذه العوامل. وإن انتظام الدورات المناخية والاقتصادية في البيئة وخلال الزمن يكفل ديمومة المجتمع وتمايزه. لأن دوام انتظام الدورات المناخية والاقتصادية مرتبط بثبات الحدود الجغرافية للبيئة نفسها، هذه الحدود التي هي حواجز طبيعية أبدية لا يمكن إزالتها، كالبحار، والجبال والصحاري، المناخ مرتبط بالجغرافيا. المطر مثلاً ليس إلا حادثة طبيعية مناخية موزعة توزيعاً جغرافياً. إذن، وبالإجمال نستطيع أن نقول بأن ارتباط الأثر البيولوجي بالبيئة، وحدوث هذا الأثر ضمن خط عام موجه ومقرر من قبل البيئة، ثم انتظام الدورات المناخية التي هي عامل التأثير الأساسي، وأبدية هذا الانتظام بديمومة الحدود الجغرافية، كل هذا يعطي الصفة المميزة للمجتمع، صفة لا نلاقيها في مجتمع آخر، ويعطيه صفة الديمومة.

والخلاصة:

  • كل مجتمع هو مزيج سلالي تكوّن خلال مدة معينة في البدء، وتبلور في بيئة معينة آخذاً صفة الديمومة.
  • الارتقاء يتناسب طرداً مع جودة عاملين دائمي الفعل في المجتمع:

– نوعية المزيج السلالي.

– البيئة.

***

في هذا العدد<< مجلس تعاون المشرق العربي- ميلاد سبعليفي حضرة الحبّ- عفاف ابراهيم >>
0 0 votes
Article Rating

You may also like...

Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments