أربع سنوات من المغامرة – البابا فرنسيس في عزلته
يفتتح الخبير الإيطالي في الشأن الفاتيكاني ماركو بوليتي كتابه المعنون بـ”البابا فرنسيس في عزلته” بفصل يتمحور حول مفهوم الألوهية عند البابا فرنسيس (برغوليو)، بعيدا عن الصياغات اللاهوتيّة الجامدة، بشأن الألوهية. مستعرضا الكاتب محاولات فرنسيس بناء معتقد حيوي منفتح، يرفض الانغلاق السائد والمزمِن في تصوّرات الكنيسة الكاثوليكية. ثمة تشاركية عَقَديّة يودّ فرنسيس ترسيخها في أوساط الكاثوليك خصوصا. إذ يدرك الرجل أنّ أتباع الكنيسة الكاثوليكية ممّن تربّوا داخل الكاتكيزم (أي التلقين الديني) قد تشبّعوا بما فيه الكفاية بأنّ معنى “أبناء الربّ” في المدلول الكاثوليكي الصرف، يعني المعمَّدين على الطريقة الكاثوليكية لا غير، وأن ما دونهم من أتباع المسيحيات الأخرى على ضلال، دون أن نتطرّق إلى أتباع الأديان الأخرى من مسلمين وهندوس وبوذيين وكنفشيوسيين بوصفهم أكثر من ضالين، وممن ينبغي جلبهم إلى المسيحية بكافة الطرق. هذا المفهوم العقدي الضيق السائد في التصورات الكاثوليكية، والمتمركِز حول مفهوم كريستولوجي للاعتقاد، يقلق البابا الحالي. ففي عصر الانفتاح والتواصل والتجاور الذي يعيشه عالمنا ما عاد الاعتقاد على ذلك النّحو الكاثوليكي الجامد مواكبا لتطورات التاريخ. يحاول فرنسيس إعادة بناء مفهوم الاعتقاد في الضمير المسيحي لاستيعاب التقاليد الأخرى بعيدا عن الهيمنة المتجذرة في التصورات الغربية، بأنّ الغرب على صواب وما دونه من حضارات أخرى على خطأ. ثمة رفض للسّكنى في العمارات اللاهوتية الجاهزة لدى البابا فرنسيس، كما يقول ماركو بوليتي. وتحوير زاوية النّظر العَقَدية للآخر من قِبل البابا ليست شيئا بسيطا أو هيّنا، وهو ما يخلق عزلة عَقَدية لفرنسيس في بيته وداخل كنيسته.
بهذا المدخل للحديث عن توجهات البابا على مستوى الاعتقاد، يحاول ماركو بوليتي رسم معالم العزلة التي يعيش فيها فرنسيس داخل الكنيسة وخارجها. فقد اختار الرجل الانفتاح العقدي على الأديان الأخرى دون مواربة أو لفّ أو دوارن، منذ إصدار إرشاده الرسوليّ الأوّل “فرح الإنجيل” (Evangelii Gaudium) (في 24 نوفمبر 2013)، حيث أكّد في مضامينه في ما يتعلّق بالمسلمين على “أنّ العلاقات مع أتباع الإسلام، في هذا العصر، تكتسي أهمية كبرى لحضورهم في سلسلة من البلدان ذات تقليد مسيحيّ، ومن حقّهم إقامة شعائرهم بحرية والعيش في كنف تلك المجتمعات بأمان. وأنّ هؤلاء المسلمين على إيمان إبراهيم، ويعبدون معنا الله الواحد، الرّحمن الرّحيم، الذي يدين النّاس في اليوم الآخر. وأن مرجعيات الإسلام المطهَّرة تتضمّن جوانب من تعاليم المسيحية؛ فالمسيح ومريم موقّران جليلان”. لقد تضمّن الإرشاد الرسولي من جملة ما تضمّن دعوةً صريحة للمراجَعة، والتنبّه لما رسّخته المشاحنات الدينية في الأذهان أنّ المسلمين بمثابة عُبّاد إله آخر مغاير لإله المسيحيّين. حاول فرنسيس أن يشطب تلك الدعاية المضلِّلة وأن يعيد للتخاطب مع المسلمين نقاءه وصفاءه، مبرِزا أن اللّفظة المستخدَمة من قِبل المسيحيين العرب ومن قِبل المسلمين على حدّ سواء، في مجال الاعتقاد، هي ذاتها. وبشكل عام يحاول فرنسيس، أكان مع المسلمين أو مع غيرهم من التقاليد الدينية الأخرى، التطرّقَ إلى إله كونيّ لا إلى إله خصوصي، فتلك اللغة العَقَديّة هي القادرة على إنشاء وحدة جامعة بين البشرية جمعاء. لكنّ فرنسيس كما يبيّن ماركو بوليتي يجابه إرثًا عقديًّا ثقيلا استمرّ فاعلا وحاضرا إلى سلفه الراحل البابا راتسينغر الذي رسّخ في عقول الناس أنّ ما عدا الكاثوليكية من عقائد هي أدنى مقاما وأبعد ما يكون عن الصواب. تلك الرؤية المجدِّدة في الاعتقاد التي يحاول فرنسيس بناءَها خلقت معارضين لا زال عددهم كبيرا، وهو ما يحرج البابا ويضعه في عزلة عقدية.
وكما يذكر ماركو بوليتي أبدى البابا فرنسيس تعاطفًا مع قضايا المهاجرين المقيمين في إيطاليا، والقادمين إليها، منذ اعتلائه السدة البطرسيّة. بدا ذلك جليا في زيارته التاريخية إلى جزيرة لمبيدوزا ترحّما على أرواح الغرقى من المهاجرين، التي باتت رمزَ المحطة الأولى في رحلة القادمين إلى إيطاليا. لم تلق تلك المواقف ترحيبا من وزير الداخلية اليميني ماتيّو سالفيني. واتخذت الحكومة المشكّلة من الحزب اليميني، ممثّل رابطة الشمال ذات النزعة المعادية للمهاجرين، موقفا من البابا فرنسيس واعتبرته يسير في خط مناقض للسياسة الحكومية. منذ ذلك التاريخ بدأت الهوة تتّسع بين الحكومة ذات التوجه اليميني وفرنسيس. لم يرق للحكومة ذات التوجه الشعبويّ التقارب الذي يسير فيه البابا مع العالم الإسلامي ومع المهاجرين المسلمين. بلغ الأمر مستوى من التوتر أن أعلن وزير الداخلية ماتيو سالفيني – فيما يعني القطيعة مع رأس حاضرة الفاتيكان- في تجمع لأنصار حزبه في شهر سبتمبر من العام 2016 “انّ البابا الذي يجلّه ويقدّره هو راتسينغر لا فرنسيس” نظرا لمواقف البابا السابق المتشدّدة من الإسلام والمسلمين، وأنّه لا يعترف بالبابا الذي يشرّع أبواب الكنيسة إلى الأئمة المسلمين. مواقف سياسية متشدّدة تقف على نقيض ما يسعى إليه فرنسيس من تطبيع للعلاقات مع العالم الإسلامي ومن تقارب ندّي بين العالمين على أساس الاحترام. ساهمت تلك التوترات السياسية مع حاضرة الفاتيكان في تضييق الخناق على فرنسيس وكبح اندفاعه لتسوية العديد من الملفّات مع الأديان الأخرى. والواقع أن السياسات الشعبويّة التي شاعت في أوروبا خلال السنوات الأخيرة قد أضحت خطيرة على المستوى البعيد، لِما تخلّفه من توترات بين المكونات الحضارية العالمية.
ما يحدّده الكاتب ماركو بوليتي من عناصر مكوّنة لعزلة البابا فرنسيس في الواقع الإيطالي، يضيف إليها عناصر أخرى يعتبرها داعمة لتلك العزلة. إذ وقف البابا على نقيض جملة من خيارات السياسة الأمريكية للرئيس الأسبق ترامب، سواء في إفغانستان أو فلسطين أو مع إيران. فالخيارات العسكرية الأمريكية في إفغانستان، والقول بأنّ القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، والميل إلى الحلول الحربيّة مع إيران، كلها عناصر مقلقة لحاضرة الفاتيكان. إذ يدعو الفاتيكان إلى تجنّب الخيار العسكري كحلّ مصيري لإفغانسان ويميل إلى انتهاج الحلّ الدبلوماسي والتفاوضي لحقن الدماء من الجانبين الإفغاني والأمريكي، وقد تبيّن فشل الخيار العسكري كسبيل لتسوية الأمور؛ وأما ما تعلّق بالشأن الفلسطيني فلا زال الفاتيكان مصرّا على حلّ الدولتين واعتبار تسوية الخلاف حول مدينة القدس في تحويلها إلى مدينة مشترَكة للأديان الثلاثة خارج الهيمنة الإسرائيلية؛ وأمّا ما يخصّ الملفّ الإيراني فالفاتيكان على غرار موقف المجموعة الأوروبية يسعى جاهدا إلى ضمّ الجمهورية الإسلامية إلى حضيرة المجتمع الدولي، دون العمل على شيطنتها وعزلها كما سعت سياسة ترامب في ذلك. كلّ تلك العناصر الخلافية في السياسة الخارجية بالنسبة إلى الفاتيكان من شأنها أن تجعل فرنسيس خارج التأثير الفاعل الذي يُفتَرض أن يتمتّع به كزعيم ديني عالمي بوصفه بابا الكنيسة الكاثوليكية. إذ يزداد صوت فرنسيس خفوتا بسبب الحلف الذي صنعه ترامب مع بعض الحلفاء في السياسة الدولية والذي يناقض خيارات حاضرة الفاتيكان.
من جانب آخر ودائما في نطاق رصد عناصر تلك العزلة التي تُطوِّق فرنسيس، يذكر ماركو بوليتي أنّ مع نهاية شهر أغسطس من العام الماضي 2019 مرّ البابا بفترة حرجة، انطلقت من داخل الكنيسة هذه المرّة وامتدّت تداعياتها إلى الخارج. تمثّلت في دعوة صريحة من مجموعة من رجال الدين بقيادة الأسقف كارلو ماريا فيغانو بتنحّي فرنسيس، بموجب اتهامه بالتستّر على انتهاكات وفضائح جنسية للكردينال تيودور ماكريك. والواقع أنّ فرنسيس بمجرّد علمه بخبر تورط تيودور ماكريك في فضائح جنسية عمل على طرده من مجلس الكرادلة وفتح تحقيقا في الشأن. مَثّل ذلك الاتهام الثقيل بالتستّر قمّةَ جبل الجليد العائم، فقد صاغ كارلو ماريا فيغانو تقريرا مفصّلا أورد فيه جردا بانحرافات فرنسيس عن خطّ الكنيسة التقليدي والمحافظ. الواضح أنّ الامتعاض من فرنسيس موجود داخل الكنيسة وخارجها، فالانتهاكات الجنسية سواء ضدّ القاصرين، أو السلوكات الجنسية غير المشروعة لبعض رجال الدين، هي من الحوادث التي تؤرق الفاتيكان ولا زال حدّ الساعة يعجز عن غلقها أو تسويتها لكثرتها وتشعّبها. وأمّا ما تعلّق بشأن اتهام فرنسيس بالانحراف عن خطّ الكنيسة التقليدي فهو خاضع لرؤى وتأويلات، فهناك من يذهب إلى أنّ التوجهات التصحيحية والإصلاحية التي انتهجها فرنسيس منذ مقدمه إلى روما، قد مسّت العديد من المصالح داخل الفاتيكان، وهو ما جعل شقّا من المتضرّرين يبحث بشتّى السّبل للحدّ من اندفاع فرنسيس، بالتماس التبريرات الصائبة والزائفة لإيقاف الرجل عن مساره ودفعه للتريّث وعدم المغامرة. يُصنَّف كارلو ماريا فيغانو ضمن خصوم فرنسيس الذين ما زالوا على حنين للخطّ اللاهوتي المتشدّد للبابا بندكتوس السادس عشر (راتسينغر). ولذلك يفسّر ماركو بوليتي الحدث بالطبيعي والمعتاد، أن يجد البابا فرنسيس معارضة من داخل الجهاز المتحكم بحاضرة الفاتيكان. فمختلف الأساقفة والكرادلة الذين يتحكّمون بمصير المؤسسة الدينية قد نشأوا وتربّوا في ظلّ عقلية لاهوتية دغمائية محافظة، وذلك على مدى فترة البابوين يوحنّا بولس الثاني (ووجتيلا) وخلفه راتسينغر، ولذا ليس من المستبعَد معارضة التوجهات الإصلاحية للبابا فرنسيس. معتبرا ماركو بوليتي انتفاضة فيغانو هي عملٌ سياسيٌّ داخل الكنيسة ولا تمتّ للعمل الدينيّ.
صحيح جاء البابا فرنسيس بأحلام إصلاحية كبرى، تمثّلت في إدخال تحويرات على “الكوريا الرومانية” (الجهاز الرئيس المتحكم بسياسة الفاتيكان الدينيّة)، وإجراء تحويرات هيكلية على مؤسسة “الإيور” (أي إصلاح الجهاز المالي الكنسي بعد تبيّن ما يعتريه من خور وفساد)، ومراجعة المهام الوظيفية الكنسيّة (لا سيما ما تعلّق منها بالتكوين والأدوار بقصد الخروج من البيروقراطية الدينية التي باتت ترهق كاهل الكنيسة وتعوق تقدّمها). تلك المحاور أساسية في نظام سيْر حاضرة الفاتيكان، تتطلّب جرأة وقدرة ودربة وكذلك سرعة في التنفيذ حتى يُتبيَّن جدواها. فعلى سبيل المثال مرّت عشر سنوات منذ تناول راتسينغر قضايا الفساد الجنسي في الكنيسة، لم تُطرَح المسألة بشكل جاد سوى أثناء انعقاد قمة رؤساء الأساقفة في روما (21 فبراير 2019) شارك فيها ما يربو عن 190 شخصية دينية، تناولت قضايا النزيف الخُلقي الذي يعصف بالكنيسة. ثمة تباطؤ داخل الفاتيكان في فتح الملفات الجادة وتسويتها وهو ما يزيد من تفاقم الأوضاع.
بعد ستّ سنوات من تنصيبه في الثالث عشر من مارس 2013 لم يتقدّم البابا فرنسيس كثيرا في تسوية تلك الملفات، وربما فَقَدَ الحماس الذي جاء به، أو بدأ يتلاشى، على إثر تنحّي البابا المستقيل. في هذه الأوضاع ثمة من يطرح ضرورة عقد “مجمع فاتيكانيّ ثالث” على غرار “مجمع الفاتيكان الثاني” 1962/1965، تُطرَح فيه القضايا الجوهرية للكنيسة اليوم. ولكن في ظلّ هذا المطلب الملحّ هناك من يشكّك في قدرة جهاز الأساقفة والكرادلة، في الوقت الحالي، على خوض تلك المغامرة، والتريّث بشأن ذلك الطرح والانتظار حتى يحصل نضجٌ تاريخيٌّ لاهوتيٌّ داخل الكنيسة. لعلّ ذلك ما حدا بالبابا فرنسيس للتصريح، أمام مجلس “الكوريا الرومانية” عشية أعياد الميلاد 2017، بأنّ القيام بإصلاحات داخل حاضرة الفاتيكان يشبه تنظيف تمثال أبو الهول المصري بفرشاة أسنان، وذلك لصعوبة العملية وتشعّبها، فتفكيك الأجهزة المتحكمة بالكنيسة وإعادة بنائها مجدّدا ليس بالأمر الهين أو السّهل كما قد يُتصوَّر.
لذلك تبدو عزلة فرنسيس متنوعة الأبعاد، ثمة من يطرح للخروج من هذا المأزق، اختصار طرق الإصلاح والتخلي عن العملية الإصلاحية الكبرى والسعي الجاد للتركيز على دَمَقْرطة الحياة الدينية داخل الكنيسة. بإعطاء كنائس الأطراف، أي مختلف المجالس الأسقفية المنتشرة حول العالم، نوعا من السلطة المحليّة في تقرير مصيرها الدينيّ، وعدم الرجوع في أيّ صغيرة وكبيرة إلى حاضرة الفاتيكان. إذ تبدو مرَكَزة السلطة الدينية التي سعى البابوات السابقون في ترسيخها قد أمست وبالًا على الكنيسة اليوم. البابا فرنسيس يدرك أهمية ذلك الطرح في تجديد الكنيسة، ولعلّه السبيل الأيسر والأقصر لفكّ العزلة التي يعانيها.
الكتاب: البابا فرنسيس في عزلته.
تأليف: ماركو بوليتي.
الناشر: منشورات لاتيرسا (باري-إيطاليا) ‘باللغة الإيطالية’.
سنة النشر: 2021.
عدد الصفحات: 248 ص.