المؤسسات الحزبية: أغاية هي أم وسيلة؟
Share
مع كل استحقاق انتخابي جديد في الحزب السوري القومي الاجتماعي (مركز الروشة) تُثار إشكاليات دستورية هي في صميم الأزمات الداخلية التي تعصف بالحزب منذ فترة طويلة، خصوصاً في السنوات الثلاث الماضية حيث تعاقب على سدة السلطة ثلاثة رؤساء بعد أن أبطلت المحكمة الحزبية رئاسة النائب أسعد حردان بسبب لاقانونية التعديل الدستوري الذي سمح بانتخابه في أعقاب المؤتمر القومي العام سنة 2016. وعلى هذا الأساس ينقسم “المعارضون” إلى فئتين رئيسيتين:
-
دعاة المقاطعة الشاملة ترشيحاً واقتراعاً، بحجة أن القيادة المهيمنة على مقاليد السلطة منذ عقود باتت تتحكم بآلية الانتخاب لجهة منح رتبة الأمانة لأنصارها وكذلك “تنظيم” انتخاب مندوبي الوحدات الحزبية. فتكون النتيجة قيام مجلس قومي ذي أكثرية ساحقة لصالح القيادة المستمرة.
-
دعاة التغيير الداخلي، الذين يلتقون مع دعاة الفئة الأولى في نظرتهم إلى طبيعة الأزمة الحزبية وتداعياتها ومعالجتها… لكن من ضمن النظام. وهؤلاء يرون أن “الاعتراض” يجب أن يظل تحت سقف “المؤسسات”، وبالتالي هم يؤمنون بأن المؤسسات الحزبية الحالية ما زالت مؤهلة لاحتضان مساعيهم الإصلاحية التغييرية.
-
ولم يشذ الاستحقاق الانتخابي الحالي عن هذا الافتراق الجوهري الذي تكرّس في المؤتمر القومي العام سنة 2016، إذ قاطع العملية الانتخابية آنذاك “معارضون” كثر بينما شارك “معارضون” آخرون كثر أيضاً، تمكن بعضهم من “النجاح” في الوصول إلى عضوية المجلس الأعلى (السلطة التشريعية في الحزب)، فكانت النتيجة سلسلة متواصلة من الأزمات التي لاكتها وسائل الإعلام من كل حدب وصوب. ولسنا هنا في معرض إطلاق الأحكام لصالح هذا الطرف أو ذاك، وإنما نريد تبيان جوانب من مفهوم “المؤسسات” القومية الاجتماعية كما تصورها أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه.
ما هو المقصود بـ”المؤسسات” بشكل عام؟ بل ماذا أراد سعاده من “المؤسسات” التي أنشأها على مراحل خلال حياته القصيرة العاصفة؟
لنبدأ أولاً بـ”المؤسسات” عموماً، فنجد تعريفات متنوعة منها: “كيان قانوني”، “منشأة تؤسس لغرض معيّن أو لمنفعة عامة”. لكنني أخترت التعريف التالي لأنه الأقرب إلى مفهوم سعاده: “المؤسسة هي كلمة معقدة تدل من جهة على عمل (فعل أسّس بهذا المعنى خَلقُ وإيجادُ شيء)، ومن جهة أخرى على نتيجة هذا العمل بحيث يصبح معطى اجتماعياً متميزاً (…) وتتشكل المؤسسة غالباً لتلبية فكرة أو لحاجة اجتماعية، فتخلق لدى أفرادها شعوراً بالاختلاف والتميز تجاه الآخرين وتضطرهم إلى الدفاع عنها لأنها تصبح تعبيراً عن وجودهم ودورهم الاجتماعي (…) المؤسسة تستمد ديمومتها من الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها ومن مصالح الجماعة المرتبطة بها”.
في رسالة غير مؤرخة إلى الأديبة سلمى صايغ، يُعتقد بأنها كتبت في فترة الاعتقال الثاني بين 26 حزيران و12 تشرين الثاني 1936، يقول سعاده إنه وضع في السجن شرح مبادئ الحزب. ثم يُضيف: “وقد أنجزت، مع الشرح المذكور، أهم شغل في بناء الحزب منذ إنشائه، أي تكوين “جذعه” الذي هو عدة هيئات ومجالس دنيا وعليا. فقبل هذا الانشاء الجديد كنت أتصور الحزب رأساً وأعضاء بدون صدر وأكتاف، أما الآن فهو هيكل حيّ تام قابل النمو.”
ويعود سعاده مرّة أخرى إلى موضوع “المؤسسات”، لكن بصورة أوضح وأشمل، في خطابه المهم بمناسبة الأول من آذار سنة 1938. يقول:
“… وبعد زوال هذه المشاكل الملحّة تمكنت من العودة إلى الاهتمام بأهم عمل أساسي بعد تأسيس القضية القومية، ألا وهو إيجاد المؤسسات الصالحة لحمل مبادىء الحياة الجديدة وحفظ مطاليبها العليا وخططها الأساسية. فأعدت المؤسسات التي أنشأتها قبل انكشاف أمر الحزب وزدت عليها مؤسسات لجان المديريات الاستشارية ومجالس المنفذيات والمكتب السياسي وشُعَبه السياسية. وفسحت بهذا العمل المجال أمام الكفاءات السورية القومية للقيام بالأعمال المؤهلة لها بصورة نظامية. وهنالك طائفة من المؤسسات الصغرى الإذاعية والثقافية هي الآن في دور التأسيس ومتى استكملت تأسيسها كانت جهازاً دقيقاً عظيم الفاعلية. إنّ إنشاء المؤسسات ووضع التشريع هو أعظم أعمالي بعد تأسيس القضية القومية، لأن المؤسسات هي التي تحفظ وحدة الاتجاه ووحدة العمل، وهي الضامن الوحيد لاستمرار السياسة والاستفادة من الاختبارات. بواسطة مؤسساتنا الحزبية المنظمة تمكنا من القضاء على الفوضى وترقية خططنا وأساليبنا. ولولا مؤسساتنا القوية ونظامها المتين لكانت العوامل الشخصية الأنانية التي برزت في بعض الظروف تمكنت من تسخير جهاد ألوف السوريين والسوريات لمطامعها”.
المحصلة النهائية للعبارات الواردة أعلاه هي أن “المؤسسة”، مهما كان نوعها ومجال نشاطها، إنما تنشأ لتحقيق هدف ما أو غاية ما. وهي تتمايز عن غيرها بتلك الغاية التي يناضل أعضاؤها دفاعاً عنها وسعياً لإنجازها. وفي التعريف العام الذي ذكرناه سابقاً نقف عند كلمتين ترتبطان بمفهوم “المؤسسة” هما عمل ونتيجة. أي أن الحكم على عمل أية مؤسسة، سلباً أو إيجاباً، يرتبط بالنتيجة التي تحققها في مجال اختصاصها. وهذا يتطلب أن تمتلك المؤسسة غاية معينة تسعى إليها. ومقياس النتائج هو مدى اقتراب العاملين فيها من الغاية التي لأجلها انخرطوا في تلك المؤسسة بعينها. وبقدر ما ينجزون باتجاه الغاية بقدر ما تنمو المؤسسة ويتعزز وجودها. ولذلك فهي “تستمد ديمومتها من الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها ومن مصالح الجماعة المرتبطة بها”، وأي خلل في هذه الوظيفة سيؤدي حكماً إلى فقدانها مبرر وجودها.
المؤسسات القومية الاجتماعية التي أنشأها سعاده تختلف كثيراُ عن “المؤسسات العامة” من حيث أنها مرتبطة عضوياً بالعقيدة القومية الاجتماعية ومؤطرة دستورياً بالحزب السوري القومي الاجتماعي، وهي محكومة في الوقت نفسه بغاية الحزب. وهكذا نرى أن كل أنواع المؤسسات تلتقي عند مفصل أساسي هو النتيجة. فقد تختلف أسباب النشوء والتأسيس، وقد تتنوع أنماط العمل، وقد تتباين جهود العاملين… لكن القاسم المشترك بينها جميعاً هو ما يمكن أن تسفر عنه نشاطات المنضوين إلى تلك المؤسسات لجهة تحقيق الغاية العليا. يصف سعاده “المؤسسات” التي أنشأها بأنها تلك “الصالحة لحمل مبادىء الحياة الجديدة وحفظ مطاليبها العليا وخططها الأساسية”. وبكلام آخر: العمل لتحقيق غاية الحزب التي هي بعث نهضة سورية قومية اجتماعية، وتنظيم حركة تؤدي إلى استقلال الأمة، وإقامة نظام جديد…
ومن واجبنا، في خضم الأزمات الحزبية المتراكمة، أن نطرح التساؤلين التاليين: هل مؤسسات الحزب الحالية هي نفسها المؤسسات التي أنشأها سعاده؟ وهل هي “صالحة لحمل مبادئ الحياة الجديدة”، وتعمل جاهدة لتحقيق غايتها السامية؟
لا ينكر أحدٌ منا أن تعديلات جذرية أدخلت على الدستور الذي ينظم عمل المؤسسات الحزبية. وسعاده نفسه كان يتوقع حدوث “تطوير” عندما أورد في رسالته إلى سلمى صايغ عبارة “هيكل حيّ تام قابل النمو”. ولاحظوا هنا عبارة “حي تام” ثم لاحقتها عبارة “قابل النمو”. فليس في هذا الكلام تناقض، بل المقصود أن ما وضعه سعاده “تام” في وقته، لكنه كما كل شيء حي “قابل النمو” من ضمن الفكر الدستوري النابع من مفاهيم العقيدة القومية الاجتماعية. فإذا تطلب الأمر تعديلاً في ذلك “الهيكل”، فذلك لا يطال “مبادىء الحياة الجديدة” بل الأشكال التي تعزز العمل لتحقيق “المطاليب العليا”.
وهذا يقودنا إلى التساؤل الثاني المتعلق بمدى فعل المؤسسات الحزبية الحالية على الأصعدة المختلفة، بما فيها المنظمات الثلاث التي تحمل اسم الحزب السوري القومي الاجتماعي (لا نعرف حتى اللحظة المصير النهائي لجناح الأمانة العامة المنحل في دمشق). ولا نبعد كثيراً عن جادة الصواب إذا قلنا إنها عاجزة تماماً بوضعها الراهن. أما إذا أردنا أن نكون كرماء فنقول إنها غائبة عن الفعل المؤثر في المجتمع. هي مؤسسات تحاول المحافظة على الأشكال الخارجية، بعد أن تكون قد طوّعت المضمون لصالح إحكام سيطرتها السلطوية. إنها “هيكل”، لا كما وصفه سعاده بأنه “حي تام قابل النمو”، بل كما وجده يسوع الناصري في أورشليم (يوحنا 2: 13- 17): “وكان فصح اليهود قريباً، فصعد يسوع إلى أورشليم. ووجد في الهيكل الذين كانوا يبيعون بقراً وغنماً وحماماً، والصيارف جلوساً. فصنع سوطاً من حبال وطرد الجميع من الهيكل، الغنم والبقر، وكب دراهم الصيارف وقلب موائدهم. وقال لباعة الحمام: ارفعوا هذه من ههنا. لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة”.