سعادة في ذهن الغرب
Share
سعادة في ذهن الغرب- د. عادل بشاره
محاضرة ألقيت في مؤسسة سعاده للثقافة
سُئلت منذ مدة طويلة: “ما الذي دفعك للكتابة عن أنطون سعاده باللغة الإنكليزية؟” لن يكون جوابي مختلفاً، لو طرح عليّ السؤال نفسه الآن، عن ردي الأول والذي هو: “تشويه صورة سعاده على نطاق واسع في الغرب، وكثرة المفاهيم الخاطئة وغير الحقيقية المنتشرة عنه وعن أفكاره“.
أستطيع أن أتحدث إليكم حول هذا الموضوع لساعات. ما زلت أتتبع الأشياء المكتوبة عن سعاده باللغة الإنكليزية لطالما أستطيع أن أتذكر. ولكن لن أزعجكم بذكر تفاصيل مملة، ولا أحملكم قراءات طويلة لبعض الأشياء السخيفة التي قيلت عن سعاده. وسأوجز بدلاً من ذلك النتائج التي توصلت إليها وأعدد الأسباب التي أدت لها.
*****
حتى وقت قريب، ربما على مدى السنوات العشر إلى الخمس عشرة الماضية، ساد مفهوم سلبي جداً عن سعاده في الغرب، وتطور هذا المفهوم من دراسة غير منتظمة عنه وتم تكريسها بدون منازع لسنوات عديدة.
تشكل هذا المفهوم انطلاقاً من خمس صور رئيسية تكرّست في ذهن الغرب منذ زمن طويل:
1 ـ أظهرت الصورة الأكثر تداولاً سعاده كنموذج مبدئي للفاشية والنازية الأوروبية، وعلى أنه “الفوهرر” و”هتلر المستقبل” الآتي من الشرق، وموسوليني سورية، وغيرها من النعوت المألوفة… وكلها تسميات تم تطبيقها بسهولة من خلال التركيز على بعض الأشكال الخارجية لحزب سعاده (العلم والتحية والانضباط) وأسلوب قيادته (السلطة المطلقة، الكاريزما). لم تبذل أي محاولة لدراسة سعاده أبعد من هذه المعايير. وركزت المحاولات القليلة التي تمت إلى حد كبير على العوامل التي اعتبرتها كافية بما يلزم لربطه بالفاشية الأوروبية. ولكن بشكل عام، لم تكن تلك المحاولات ناجحة جداً لسببين أساسيين:
الأول، عدم وجود أي دليل في المحفوظات النازية أو الفاشية عن تورط سعاده إما مع موسوليني أو مع هتلر.
الثاني، لأن وجهات نظر سعاده بشأن العرق والعنصرية لم تكن متلائمة مع المنظور النازي.
وعلى الرغم من ذلك، استمر الادعاء النازي الفاشي ضد سعاده بأشكال متنوعة ولأسباب مختلفة، رغم عدم وجود أي قاعدة علمية أو تاريخية له. بل لا يزال هذا الإدعاء قائماً في الصحافة ووسائل الإعلام الغربية إلى حد كبير، وتتم إعادة تدويره بناءً على جداول وأجندات سياسية مختلفة. وأحدث مثال على ذلك هو محاولة دانيال بايبس إعادة صياغة سعاده على أنه نتاج ليس للفاشية الأوروبية بل لفاشية أميركا الجنوبية.
2 ـ أبدت الصورة الرئيسية الثانية سعاده على أنه مفكر قومي يميني متطرف وصاحب برنامج وطني توسعي، وتم تصويره كرجل سياسي محبط لم يتمكن من أن يجد دوراً مريحاً له في الواقع السياسي الجديد الذي تكرّس بعد الحرب العالمية الأولى. فهو أحياناً نصير لرؤية قومية فاشلة (رؤية سورية مستقلة موحدة)، وفي أحيان أخرى مؤيد لبرنامج سياسي قائم على حلم سورية الكبرى. وبالتالي، هناك اتجاه قوي لتماثل سعاده مع مشروع سورية الكبرى الذي وضعه الملك عبدالله الأردني أو مع المفهوم الشائع لـ “سورية الكبرى” كمشروع توسعي. وقد كان لهذا أثر كبير في تقليص فكر سعاده إلى بعد واحد خالٍ تقريباً بشكل كلي من أي نطاق اجتماعي أو ثقافي أو فلسفي.
3 ـ أظهرت الصورة الثالثة سعاده على أنه شخصية لا قيمة لها عاشت على هامش المجتمع والسياسة. والمعيار المستخدم لإطلاق هذا الحكم كان دائماً “القومية العربية”: تم رفض كل من وقع خارج إطار القومية العربية باعتباره انحرافاً لا يستحق أي اهتمام. وقد اعتبرت شعبية القومية العربية مؤشراً حقيقياً إلى الصوابية والشرعية، وأن أي معارضة لها هي أمر عابر وتافه. وبناء عليه، كان غالباً ما يتم تصوير سعاده على أنه معاد للعرب، وبشكل ضمني، على أنه عنصري من دعاة الشوفينية. كانت معاداة العرب تعني مناهضة القومية العربية وتأييد الغرب ودعم الإمبريالية. وغالباً ما مرّ مفهوم سعاده عن “الجبهة العربية” من دون أن يلاحظه أحد، أو إذا لوحظ، تمت ملامسته على الهامش.
4 ـ رسمت الصورة الرابعة سعاده كعميل خائن للمصالح الأجنبية. وتم تقديم مجموعة من البلدان المختلفة بوصفها راعية لأنشطته التخريبية المزعومة، بحيث أن سعاده هو في وقت واحد جاسوس لإيطاليا الفاشية، وعميل سري لألمانيا النازية، وعميل محلي للبريطانيين ضد الفرنسيين، وأداة للمصالح الأميركية ضد الاتحاد السوفياتي. وهنا أيضاً لم تقدم أي أدلة ملموسة دعماً لأي من هذه الإدعاءات التي كانت تستند كلها تقريباً على السمع والآراء الظنية.
5 ـ الصورة الخامسة ركزت على تصوير سعاده كمعادي للسامية. وهذا التصوير هو عبارة عن تحريف خطير جداً لأنه أحبط العديد من العلماء عن التأمل في أفكاره أو عن دراسته بشكل أكثر عمقاً. لن أخوض في صحة هذا الادعاء، ويكفي القول إنه لا يزال مستمراً حتى يومنا هذا.
أعتقد أنني قدمت لكم وصفاً غير مداهن. وربما كنتم تسألون أنفسكم: هل الأمر حقاً متشائم كما يبدو؟ هل هناك أي بقع وردية وسط هذا التشاؤم؟ قبل أن أجيب على هذا السؤال، اسمحوا لي أن أشاطركم انطباعي عن سبب ظهور هذه السمات السلبية واستمرارها لسنوات عديدة.
السبب الأول والأكثر وضوحاً هو غياب أي من كتابات سعاده الرئيسية في اللغة الإنكليزية، إذ فقط حتى وقت قريب جداً بدأت مقتطفات من كتاباته تظهر بالإنكليزية، ولكن في كثير من الأحيان تكون خارج السياق أو غير دقيقة. وعلى النقيض من ذلك، فإن الترجمات الإنكليزية للكتاب القوميين العرب، أمثال ساطع الحصري وقسطنطين زريق وميشيل عفلق، وصلت إلى رفوف المكتبات في وقت أبكر بكثير. إن عدم وجود مصادر بالإنكليزية عن سعاده يعني أنه كان لدى المفكرين الغربيين القليل جداً من المواد للاستفادة منها في دراسة سعاده أو تحديد صحة الآراء والتصورات القائمة بشأنه.
السبب الثاني، ولسنوات عدة بعد زمن سعاده، بالكاد حاول أي شخص الاعتراض على هذه الصور، حتى أنصار سعاده الذين أصبحوا مفكرين غربيين بحد ذاتهم (أمثال هشام شرابي وجورج عطية) ظلوا غير مبالين، وفضلوا عدم الرد. كتب بعضهم على نطاق واسع حول القضايا التي كان يبدو فيها نفوذ سعاده كبيراً، لكنهم فشلوا في الإشارة إلى سعاده أو قاموا بذلك في إشارات عابرة. وقد خلق ذلك انطباعاً بأن سعاده لا يستحق مزيداً من الاهتمام مما كان عليه، وساعد أيضاً في تعزيز الصور النمطية الموضوعة عنه.
السبب الثالث هو ندرة الدراسات الأكاديمية عن سعاده، على الأقل حتى وقت قريب. كانت أول دراسة رئيسية كتبت عنه، أطروحة دكتوراه في عام 1946، لكنها ظلت مطمورة لسنوات عديدة. ومنذ عام 1946 وحتى منتصف الثمانينات، وهي فترة ما يقرب من 40 عاماً، وُضعت اثنتان فقط من الرسائل المعروفة عن سعاده: واحدة كتبها نديم مقدسي والآخرى لبيب زويا. ومن المفارقات أنه خلال هذه الفترة الطويلة، كتب العديد من أعضاء الحزب والأعضاء السابقين فيه أطروحات أكاديمية، لكن أياً منها على حد علمي لم يكن يتعلق بأي مواضيع ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بسعاده. وساهمت هذه الندرة الأكاديمية أيضاً في المفهوم السلبي الذي نشأ حول سعاده.
بالعودة إلى السؤال: “هل الأمر حقاً تشاؤمي كما يبدو؟”
الجواب هو نعم ولا. بعض المفكرين تحدثوا عن حياة سعاده كناشط سياسي، وعن روح التفاؤل الثوري لديه، وعن عدائه الذي لا هوادة فيه للطائفية والتعصب والسياسات التقليدية، ولكن ليس بتفصيل كبير. وهناك من أعطاه حقه في تأسيس أول حزب سياسي ذي بعد إيديولوجي أو اعتبره مناهضاً حقيقياً للإستعمار والاستغلال السياسي المحلي.
وأيضاً يمكن القول أنه، منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين، تطورت الاهتمامات والمفاهيم عن سعاده تدريجياً في اتجاه إيجابي، وزاد الوعي بأفكاره والتقدير لعقيدته وحياته النضالية. ويمكن إدراك هذا التطور الجديد من الاهتمام المتزايد الذي حظيت به آراء سعاده غير السياسية، ولا سيما الأدب والدين والفن.
ما السبب في هذا التحول؟
هناك عاملان اثنان:
1 ـ توافر كتب جديدة وأكثر تفصيلاً عن سعاده، وازدياد توافر كتاباته باللغة الإنكليزية.
2 ـ سقوط القومية العربية من سياق النعمة السياسية، واتجاه المفكرين الغربيين إلى دراسة وفهم الأفكار والإديولوجيات المعاكسة والمناهضة للقومية العربية.
وانطلاقاً من مبدأ سعاده القائل: “إن سقوط الآخرين لا يعني نهوضنا نحن”، نشدد هنا على أن سقوط القومية العربية من ذهن الغرب لا يعني بالضرورة نهوض الفكر السعادي في هذا الذهن. كل ما في الأمر أنه يفتح لنا المجال لكي نقدم سعاده كبديل أمثل للواقع القومي والسياسي في المنطقة. وهذا أمر لا يتم بالتمنيات بل بالأفعال التي تساعد على بلورة وإيصال الصورة الحقيقية عن سعاده.