قراءة في رواية “القبر 779” لمنير الحايك-فاتن المر
Share
تداول الرواية وتداول التاريخ
رواية تخرج عن إطار ما اعتدنا قراءته من الروايات العربية، رواية تتوغل عميقاً في الواقع حتى تخالها نتاج الأحاديث التكرارية التي خضناها ونخوضها في سهراتنا وجلساتنا التي تطمح إلى إبعاد شبح الوحدة عنا، في مجتمع يصبح كل يوم أكثر غرابة وغربة. رواية تروينا
أفكار وأحاديث تتقاطع، وفق تقنية تيار الوعي، أو السرد الذي يشبه تخبط الأفكار كما تحضر إلى الذهن، من دون ترتيب أو تنظيم، بين شخصيات من ثلاثة أجيال: الأب المريض الذي يشارف على المرت، والإبن الذي يسعى إلى تلقف حكايات أبيه قبل أن يرحل، والجد الذي أورث إبنه الانتماء إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، كما أورثه سراً. والسر يختبئ خلف كلمة تطل من وقت إلى آخر في الرواية، من دون أن يرافقها أي نعت أو تفسير: “اللوحة”. ولا ينكشف السر إلا قبيل نهاية الرواية، حين يشرح الأب كيف حصل على تلك اللوحة الثمينة التي بقيت مخبأة طوال سنين الحرب في غرفته، خوفاً عليها من الوقوع في أيدي السارقين والتجار:
“ما يهمني الآن هو كيف سأخبره بتفاصيل حصول أبي عليها وما قاله له العجوز العراقي الذي التقى به في السجن. شهران وهو يشرح له قيمة اللوحة ، وكيف استطاع تهريبها وطمس معالم مدخل القبر قبل وصول المنقب الإنجليزي ليونارد وولي ومن معه، قبيل الفجر في حزيران من العام 1949، ليعطيها إلى الزعيم الذي ذاع صيته وقتها بأنه من أهم الذين فهموا التاريخ واعتمدوا عليه في إنشاء حزبه، ولكنه لم يستطع إعطاءه إياها لأنه أعدم في تموز قبل أن يستطيع اللقاء به.” ص. 87
هكذا انتقلت اللوحة من القبر 779 في العراق وحطت في لبنان لتدفن في غرفة الأب، وديعة ثمينة لخصت له معاني “الموت والحياة”. وإذ يقف في مواجهة الموت، تتراكم الأسئلة في فكره، على مدى الرواية، حول مصير هذه اللوحة، ومن سيأتمنه عليها بعد رحيله. كما تتراكم تلك التي تعيد التنقيب في ماضيه وماضي أبيه وحاضر ومستقبل أبنائه.
الراويان، الأب والإبن، يتداولان السرد، كما يتداولان تاريخ عائلتهما المرتبط بتاريخ البلاد، تاريخ عاشاه من زاوية محددة، زاوية القوميين الاجتماعيون الذين لم يحيدوا يوماً عن درب الصراع، وبشكل خاص الصراع مع الطائفية المستشرية. سرد يعيد إلى ذهن القارئ المطلع على تاريخ الحزب السوري القومي الاجتماعي محطات هامة كتلك التي شكلها الانقلاب الذي لو قيّد له النجاح، كان سيجنب البلد الكثير من المآسي، إلى مرحلة العمل السري، إلى أحداث من الحاضر ما زالت تحمل آثار مرض الطائفية العضال.
ما يميز هذه الرواية هو، بالدرجة الاولى، التقنية المستعملة، وهي تقنية تعدد الأصوات الروائية، بالإضافة إلى تقنية سردية أخرى مثيرة للاهتمام، هي في المستمع الذي يوجه الراوي إليه سرده والذي يظهر بصيغة المخاطب، فيتبين لاحقاً أن المخاطب ليس إلا الراوي نفسه. كما يعمل الراوي على ممارسة ما يسمى وظيفة الإدارة التي يطرح من خلالها الأسئلة حول كيفية إدارة السرد وتنظيمه…
ولكن الصفة التي تمح رواية “قبر 779” فرادتها هي جرأتها في التطرق إلى مواضيع يجتنبها الكتاب عادة، خوفاً من إثارة بعض الحساسيات، وتهميش كتاباتهم من قبل جمهور النقاد الذي يحدد بحزم متحيز ما يجب أو لا يجب أن يُكتَب. منير الجايك لا يخشى الخوض في مواضيع إشكالية بالنسبة لثقافة مجتمع يعمل الكثيرون على حرفه عن قيمه الأصيلة، فيذكر باعتزاز عمليات بطولية مثل عملية حبيب الشرتوني وخالد علوان… كما يثير، في النقاشات بين الشخصيات، مواضيع سياسية معاصرة لا زالت تثير جدلاً قد يتحول أحقاداً راسخة بين أبناء الشعب المشتتين.
ولعل مصير اللوحة المجهول يحاكي مصير هذا المجتمع الذي يسعى الكثيرون إلى سلبه ثقافته وهويته.
رواية ” القبر 779″ تُقرأ كما نتذكر ماضينا، تُقرأ كما نفكر بحاضرنا ومستقبلنا ولا تُنسى لأننا لا ننسى من نكون.