قبل أيام أُتيح لي مجال حضور ندوة للرفيق الدكتور ميلاد السبعلي بدعوة من الرفقاء القوميين الاجتماعيين في نيويورك ونيو جيرسي، وذلك احتفاء بمناسبة الأول من آذار ذكرى ميلاد أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه. محور الندوة المركزي تناول مسألة: هل من الضروري تطوير المؤسسات؟ ويُقصد بذلك المؤسسات الحزبية… وإن كان يشمل أيضاً أية مؤسسة على الإطلاق. ذلك أن التطوير سنة الحياة، والكيان الذي لا ينفتح على التطوير الخلاق هو كيان محكوم عليه بالترهل والانحطاط وصولاً إلى الموت الحضاري. والوقائع التي نشهدها بأم العين تؤكد صوابية المعادلة التالية: التطوير يعني النمو والحياة، بينما الجمود يقود إلى الفناء!

الرفيق الدكتور السبعلي خير من حاضر في هذه المسألة، فهو يمتلك ناصية العلم الأكاديمي معطوفاً على خبراته الواسعة والعميقة في حقول عدة، منها ظروف المؤسسات في أمتنا والعالم العربي. ولا نستثني من ذلك المؤسسات الحزبية كونه شغل مناصب عدة وعلى مستويات مختلفة من الوحدات الحزبية الصغرى (مفوضية – مديرية) وصولاً إلى مسؤوليات مركزية عليا. إن هذا الخزان المعرفي يؤهله لأن يضع الأصبع على الجرح لتحديد طبيعة الأزمات التي تعصف بالحزب السوري القومي الاجتماعي (الأحزاب؟)، وانعكاسها على مساهمات القوميين الاجتماعيين من خلال المؤسسات.

لست أدري، وأنا أتابع الرفيق ميلاد في شرحه المفصل والمُحكم، لماذا ألحت عليّ صورة ابنتي التي كانت قد أرسلت للعائلة قبل أيام شريطاً مصوراً قصيراً سجلته أثناء تدريب ابنها (ثلاث سنوات) على ركوب الدراجة الهوائية للمرة الأولى. إذ بينما أنا أتابع الخطوات الأولى المتعثرة لحفيدي، رحت أستعيد في الوقت ذاته كيف أنني قبل ثلاثين سنة توليت مهمة تدريب ابنتي نفسها على ركوب الدراجة. وها أنها بعد ثلاثة عقود تطبّق على ابنها ما تعلمته مني، مع إضافة بعض ما اكتسبته من خبرات راكمتها من خلال استعمالها الدراجة للتنقل في شوارع لندن المكتظة.

ما الذي شدّ انتباهي في الشريط المصور الذي أرادته ابنتي مؤشراً إلى مرحلة جديدة في حياة ابنها؟ وما علاقته بموضوع محاضرة الرفيق ميلاد حول تطوير المؤسسات؟

خطر على بالي أن أجري مقارنة غير متكافئة بين العمل المؤسساتي وبين التدريب على الدراجة، فوجدت أمامي العناصر التالية:

1 ـ الدراجة التي يستعملها حفيدي “متطورة” شكلاً عن تلك التي تدربت عليها ابنتي، لكنها ما تزال بدولابين ودواستين وكابحين وكرسي ومقود… أي أنها الثابت المستمر عبر الأجيال!

2 ـ ابنتي تستعمل نفس أساليب التشجيع والتوجيه و”الرشوة” التي لجأت إليها أنا قبل ثلاثين سنة.

3 ـ الهدف الذي تسعى إليه ابنتي لا يختلف عن هدفي الذي سعيت إليه في الماضي، أي تلقين الطفل/الطفلة كيفية الحفاظ على التوازن. إضافة إلى بناء عامل الثقة بقدراته على تطويع هذه “الآلة”!

4 ـ لكن حدث تطوير ملحوظ بين المرحلتين، إذ أن تعليمات السلامة والأمان حالياً باتت تفرض قانونياً ارتداء خوذة واقية للرأس تحمي الدرّاج من الإصابات الخطيرة في حال وقوع حادث. ولم يكن هذا “التطوير” إجبارياً في أيامي الخاليات.

النتيجة التي خرجتُ بها تشير إلى أن عملية التدريب على ركوب الدراجة تندرج ضمن قاعدة عريضة ثابتة، وأن أي “تطوير” يجب أن ينبثق من تلك القاعدة ويلتزم بها. والمقصود أن كل خطوات “التطوير” تهدف إلى تمكين الطفل/الطفلة من قيادة الدراجة بثقة، والحفاظ على التوازن، والالتزام بتعليمات السلامة والأمان، وإعداده/إعدادها نفسياً وجسدياً لاكتساب مهارات جديدة.

دعونا الآن ننتقل إلى المؤسسة، أية مؤسسة، لنجد أن هناك عناصر مشابهة لما ذكرناه في الأعلى. من حيث المبدأ، تنشأ المؤسسة من أجل غاية معينة. وقد يكون لها أهداف مرحلية تغطي جوانب من تلك الغاية. ولا شك في أن الظروف المتغيرة تستدعي إحداث “تطوير” في نشاط المؤسسة، وعندها سيكون لازماً على المسؤولين تبني كل ما يأتي بالفائدة العملية. لكن “التطوير” ليس غاية بحد ذاته، ومن الخطأ الفادح الإقدام عليه لمجرّد “التطوير” فقط، أو لكي يُقال إن هذه المؤسسة “متطورة”.

النتيجة التي أكدها الرفيق ميلاد في ختام الندوة هي أن “تطوير المؤسسات الحزبية” أصبح حاجة ملحة. ولا أعتقد أن أحداً من القوميين الاجتماعيين يخالفه هذا الرأي، إلا إذا كانت عضويته في الحزب سطحية أو تم توظيفها لخدمة مآرب شخصية. قلنا إن المؤسسة وُجدت لتحقيق غاية معلنة ومتفق عليها، ولذلك فأن أي ابتعاد عن تلك الغاية يعني أن المؤسسة فقدت مبرر وجودها. وقد لا “تموت” المؤسسة بسبب الوضع المستجّد، لكنها تصبح حكماً غير المؤسسة التي ارتبط بها الأعضاء.

ونحن نرى أن لعملية “التطوير” شروطاً ومستلزمات:

• أن تنطلق من القاعدة التي قامت عليها منذ البداية.
• أن تصون الغاية التي لأجلها نشأت.
• أن تبقى قيد المراجعة الدائمة والتقييم المستمر.
• والأهم من كل ذلك أن تكون الغاية الأساسية مرجعيتها المطلقة.

يمكن أن تصدر الدعوة إلى التطوير عن فرد أو عن مجموعة أفراد، شريطة أن يكونوا على دراية تامة بغاية المؤسسة وتاريخها العملي. إن عضو المؤسسة الفاعل والمنخرط وجودياً في نشاطها هو المؤهل أكثر من غيره لمعرفة المسار الذي يتوجب خوضه لتحقيق التطوير المناسب. ولنا من تراث سعاده ما يساعدنا في فهم هذه الناحية. فقد كتب بتاريخ 19 تشرين الأول سنة 1943 رسالة إلى الرفيق الأب ميخائيل ذبيه الذي كان حديث الإنتماء إلى الحزب، ومع ذلك لم يجد غضاضة في توزيع انتقاداته وملاحظاته على الرفقاء وجريدة “الزوبعة” والمؤسسة الحزبية… وصولاً إلى الزعيم!

يقول سعاده في رسالته التربوية التوجيهية: “أطلب منك، يا رفيقي العزيز، أن تتروى في انتقاداتك، وأن تتوخى التفاهم لا الاقتناع بالاستنتاجات الـخصوصية والوصول إلى بناء أحكام سريعة عليها. وقبل أن نطلب التفاهم مع الذين خارج الـحركة، يجب أن نتفاهم وأن يكون تفاهمنا تاماً داخل الـحركة. ولذلك أحب أن أراك تستعمل الصبر والروية والـحزم تـجاه ما تـراه وتسمعه في داخل الـحركة، كما في خارجها، وأن تتخذ، قبل كل شيء، قاعـدة أنّ الرأي رأي لا حكم. وطريقة إبداء الرأي هي غير طريقة لفظ الـحكم”. ويضيف: “كل رأي وكل اقتراح مدعوم بتحليل ودراسة يوصلان إلى نتيجة أخيرة يُقبل بكل سرور ضمن شروط الرأي والاقتراح ويُنظر فيه ويُعطى حكمه”.

وختام القول إن التطوير في عرفنا ليس ترفاً فردياً أو طقطقة مسبحة أفكار، كما يقول أديبنا القومي سعيد تقي الدين، وإنما هو عمل نهضوي متصاعد لتحقيق الغاية  الأساسية من وجود المؤسسة… أياً ما كانت المؤسسة!