LOADING

Type to search

يوميات لاجئ: “هاربون إلى تايلاند” – القصة الثانية: البومة والسردين

أدب

يوميات لاجئ: “هاربون إلى تايلاند” – القصة الثانية: البومة والسردين

Avatar
Share

يوميات لاجئ: “هاربون إلى تايلاند”

(هذه السلسلة تقوم على أحداث حقيقية)

القصة الثانية: البومة والسردين

بقلم: ابن البلد

بدأ الضوء يخبو من نافذة السجن فرُحْنا نجهّز أنفسنا لرحلة النوم. ألا ليت نور السجن يخبو أيضاً فنشعر بتعاقب الليل والنهار داخل السجن المر كزي “ساموت باركان”. عامان كاملان.. تمنيت أن أنام مرة وهذا الضوء خافت.

هذه ليلتي الأخيرة هنا. واخترتُ وضعية “البومة” لقضاء هذه الليلة.. فلدي الكثير من الذكريات لأستجمعها.. وقرارٌ مصيريٌ أتخذه قبل الصباح. وقفت مكاني على الجدار بجانب الحمّام المكشوف، وعلّقت عينيّ باتجاه الشراشف كي لا أنظر لمن يقضون حاجتهم بجانبي. كان المهرب الوحيد لعينيّ هو النظر باتجاه مكان وضع الشراشف، وهناك لم يكن سوى شرشفان ما زالا مطويّان لهذه الليلة. على هذين الشرشفين بقايا من صديقي “أدريان”.. أو “إدي” كما كنت أناديه. فقد قطع وريده بشفرة الحلاقة هذا الصباح وفارق الحياة.

لم يغسلوا الشرشف من بقاياه.. ولو عيناي أقوى قليلاً لرأيت خلاياه، وعاتبتها لما فعله بنفسه. ربّما لم يحتمل “إدي” فكرة أن يبقى وحيداً بعد أن أغادر.. فقد كنتُ صديقه الوحيد هنا.

إذاً خرج “إدي” من السجن أخيراً، كان هذا حلمه الوحيد.. وها هو قد أنجزه. لطالما كان “إدي” منطوياً ومنعزلاً ولا يتحدّث إلى أحد سواي. لم يتبقّ أمامه سوى ستّة أشهر ليعود إلى وطنه.. يا ليته انتظر.. يا ليته أخبرني، لما كنت سمحت له بالنزول لحلاقة ذقنه، ولا بوصول شفرة إليه. أنا أفهم حقاً كيف يفكّر “إدي”. بخروجي كان سيخسر آخر شخص يمكنه التحدث إليه. “فقد كان الدنماركي الوحيد معنا في هذا السجن. لا يعرف إلا الإنجليزية، ولكنه يحفظ بعض الكلمات الأساسية بالتايلاندية، مثل “طعام.. ألم.. حمّام.. ماء.. نوم”، وتلك الكلمات الأساسية هي فقط ما يحتاجه الرجل في هذه الحياة الخالية من الحياة. لأن لا أحد هنا سيكترث لذكرياتك أو أحلامك أو خططك المستقبلية أو حتى اسمك. اللغة لم تكن من قتل “إدي”.. وإنما الوحدة بعدي.. يا لك من تافه يا صديقي.. سأخرج وأنا أحمل هذا الذنب.

في هذه الليلة الأخيرة.. رحت أتأمل السجن حولي. لا مجال أن تسرح بنظرك وتبتعد كثيراً بفكرك. فالغرفة ليست أكبر من ستة أمتار طولاً وأربعةٍ عرضاً. فيها ثمانون سجيناً من جنسيات مختلفة. ويزيد العدد وينقص حسب الزائرين يومياً. فالسجن المركزي وجهة كل مخالفي الجوازات وحوادث تزوير الإقامات والتأشيرات.

خلال السنتين الماضيتين هنا، حرصت أن أجد اسماً جديداً لكل شيء حتى ابتسم وأضحك مع “إدي”. هذه هي الطريقة الوحيدة التي كنا نشعر خلالها بأننا على قيد الحياة. هذه الفكرة.. ربّما هي من دفعت “إدي” للانتحار، فهو كان يشعر بالحياة مثلي عندما يضحك. وبعد خروجي من هنا لن يضحك.. ولن يبقى على قيد الحياة.

ما هي إلا لحظات.. وبدأت ترتيبات النوم النهائية، ورحل آخر شخص من الحمّام مسرعاً ليجد مكانه على الأرض. وكما كنت مضطراً لرؤيته قبل أن يرفع ثيابه بسبب استعجاله، كان هو مضطراً للانتظار مع بعض الأشخاص حتى يتحوّل إلى “سردين”.

“السردين”.. أول مرحلة من النوم. إذ يختار الشخص طرفاً من جسده ينام عليه حتى الصباح، وعلى الأغلب ينام المساجين على جانبهم الأيمن. ثم ينام شخص آخر مقابله بحيث يلتقي رأس الأول بقدمي الثاني وبالعكس. وتتكرر هذه الوضعية في كامل الغرفة. دون ترك أي مساحة بين النائمين للتقلب أو الحركة ليلاً، وطبعاً لا يمكن لأحد بعد ذلك مغادرة مكانه إلى الحمّام قبل الخامسة والنصف صباحاً. فبعد أن يستلقي الجميع بهذه الوضعية، تبدأ أصوات النفس بالاختفاء تقريباً.. قبل أن تدرك بأنه ما زال عدد من الأشخاص واقفين ينتظرون مكاناً للنوم. وهنا.. تأتي الخطوة التالية.

“المكبس”. يسند رئيس المساجين “الجَيْب” مع مساعديه ظهورهم إلى جدار السجن ويدفعون صفوف النائمين بأرجلهم، تماماً كما تَرصُّ ثيابَك داخل حقيبة لتضع أحزمتك في الطرف الذي أفسحت له مكاناً. وبهذه الخطوة يستطيعون توفير صف أو أكثر لمزيد من السردين. ولا يتبقى إلا بضعة مساجين واقفين.

“البومة”.. هكذا أسميها أنا، لكنّهم يسمّونها “السكيوريتي”. وهم صف من المساجين يقفون على الجدار بجانب الحمّام، مهمتهم مراقبة النائمين وإخطار المسؤولين في حال وقوع أي مشاجرة أو طارئ ما ليلاً. وبعد ذهاب البوم إلى مكانه.. يبقى شخصان أو ثلاثة بانتظار مكانهم على الأرض.. ليأتي موعد الخطوة الأغرب.

“المطرقة والحشوة”، يأمرُ المسؤولون الواقفين بالاستلقاء فوق صفوف السردين، ثم يدوسون عليهم ويضغطونهم بقسوة حتى ينزلوا بأي فراغ ممكن بعد كل عمليات الكبس والتكديس والخنق السابقة. وهكذا.. ينام السردين حتى الصباح.

لن يصدّق عاقل.. بأن وضعية السردين هذه ليست مجانية. بل أن المساجين يدفعون قرابة الدولار حتى لا يكونون “بوماً” مثل ما اخترته أنا طوعاً لليلتي الأخيرة. مسكين “إدي”.. أول ليلة له هنا.. تذمر بأنه لا يستطيع التنفس، فضربوه حتى اختفت ملامحه. يا له من ذنب عندما لا تستطيع التنفّس! سيضربونك مثل إدي، ولن يتركوك قبل أن يغمى عليك حتى الصباح.

كانت تلك الليلة بداية صمته وانعزاله.. كما كانت بداية سجنه. في الحقيقة.. لا أعرف إن كانت هذه شخصية “إدي” الحقيقية، أم أنه تحوّل بعد تلك الليلة.. إلى “إدي” الذي أعرف.

الوحيد هنا من يقرر البوم والسردين.. اسمّيه “الجيب”. وهو السجين المسؤول عن زملائه بالغرفة. يتم اختياره لأنه يتحدث التايلاندية بطلاقة. بيده ترتيب واختيار كل شيء هنا. بأجزاء من الدولار يجعلك “سرديناً”.. وإن لم تدفع يحوّلك إلى بومة. أنا لدي المال لهذه الليلة.. ولكنني لا أريد النوم. اخترت البومة طوعاً في ليلتي الأخيرة.. حتى أتخذ أحد أهم قرارات حياتي.

عرفت أن الليل هيمن أكثر بحضوره من خلال ارتفاع الأصوات حولي، كالشخير أو بكاء أحدهم في زاوية ما، وأنين آخر بسبب المرض أو عدم قدرته على النفس أو التقلّب.

إذا نال منك الأرق يوماً.. قد تشاهد مراحل تطوّر الأنين. فبعد أن يولد ذلك الأنين فجأة من صدر أحدهم، يكبر ليصبح بكاءً عالياً ثم صراخاً هيستيرياً، تتبعه موجة من غضب حرّاس السجن، ثم هراوات تصفع جسماً ما. وما يلبث ذلك الصراخ بالتحول إلى ألم ويختفي بشكل مفاجئ تماماً! وبعد أجزاء من الثانية.. تسمع ارتطام عظام ورأس على الأرض. لا أحد يحاول أن يعرف من ذلك الشخص الذي انهار، فلا أحد يعرف أحداً أصلاً. سنعرف إن مات أم لم يمت في اليوم التالي، عندما يستطيع أهل السردين التنفس أكثر. فكل شخص يرحل من هنا.. يساوي شهيقاً وزفيراً للباقين.

مر العامان كأنهما عمران ونيّف، مذ وصلت إلى تايلاند قادماً من سوريا بجواز سفر مزوّر. كانت الخطة هي الوصول إلى السويد عبر تايلاند، لكنني لم أعبر بوابة الجوازات ولم أغادر تايلاند منذ ذلك الوقت.

بعد أن أمسك بي موظف الجوازات، اقتادني عبر ردهة المطار. كانت الشمس يومها تتسلل بقوة عبر زجاج المطار لدرجة أنني كنت أغلق عينيّ وأنا أمشي بغير هدى.. حتى وصلت إلى ممرات المكاتب الداخلية. كانت تلك آخر مرة أرى فيها شمس الحرية، ولو عاد بي الزمن.. لما غطيت وجهي، لنظرت بكل ما أوتيت من بصر إليها حتى أخبئ نورها كل تلك الأيام. صحيح أننا نراها كل صباح.. لكن الشمس خارج السجن لا تشبه التي هنا.

اعترفت بذنبي، وأخبرتهم بأنه لا نية لي في المكوث في تايلاند، وبأنني أهرب من الحرب وأبحث عن مستقبل ووطن وإلى ما كل ذلك من كلام تشوبه الدموع. هدؤوا من روعي.. وطمأنوني أنهم سيوفرون لي “الغذاء والسكن”. وما إن بدأت بالتماسك والوقوف بصمود.. حتى حدث انقلاب في تايلاند، وحكموا كل الموقوفين عرفياً. وكان نصيبي من ذلك الحكم هذين العامين.. وما وعدوني به فعلاً من “غذاء” لا يؤكل.. و”سكن” بهذا الشكل.

نظرت حولي مجدداً.. فأفزعني لمعان عيني الضابط التايلاندي عبر القضبان، كان ينظر إلينا كالصقر حتى يتأكد بأن البوم لا ينام.. ويحافظ على مهمته الأمنية كما يجب. وكزت الواقف بجانبي ليفتح عينيه جيداً. فإن رآنا الضابط نائمين سيرشقنا بالماء البارد كالعادة، وسنحمل كره باقي المساجين في اليوم التالي، ناهيك عن عقوبات إضافية.

ذهب الضابط.. ونجونا من بعض الشتائم ورشقات الماء. حككت جلدي بعنف وتحسست عظامي المختلطة بالجلد، بعد ذوبان ما تبقى من لحم بينهما. حوّلت نظري في السجن مجدداً، ولكن هذه المرّة إلى “أبي سامر”.. كنت أحاول ألا أنظر إليه، حتى لا يؤثر بقراري.. لكنني لم أستطع. ها أنا استسلم أخيراً وأنظر إليه. كنت أعرف أنه لم ينم بعد، فأبو سامر لا ينام. يستلقي على جنبه ويبدأ البكاء بصمت حتى الصباح على ابنه ذي العامين في الخارج. كانت دموعه واضحة لي رغم الكثافة البشرية حوله. لا شيء يحجب دموع أب يبكي على ولد عمره عامين، قد أودع ملجأ أيتام بسبب القبض على أبيه وأمه. هذا شيء أقل من بديهي. هزَمْتني يا أبا سامر وجعلتَني أنظر إليك. هذا ليس عدلاً.. فكيف سأتخذ قراري وأنا أنظر إليك؟

كنت أعرف أنه يستجديني بصمت لأتخذ قراري النهائي بخصوص ابنه سامر. فمنذ عرف أنني سأخرج وهو يرجوني لأعتني بابنه إلى حين خروجه أو خروج زوجته. أي عاقل يعرف بأنني لن أبقى في تايلاند يوماً واحداً بعد خروجي. لذا أمسك بي بعنف هذا الصباح ورجاني وعينه في عيني حتى أوافق.. وها أنا ما زلت أتجنب النظر إليه مجدداً حتى لا أوافق.

بصراحة.. هذا كان السبب الرئيسي لآخذ وضعية البومة اليوم. أردت الاختيار بين مستقبلي ومستقبل ذلك الطفل. هل أبقى في هذا البلد لأعتني بذاك الصغير؟ أم أمضي لأجد وطناً جديداً وأترك سامر لعائلة تايلاندية تتبناه.. فلا يجده أبواه يوماً؟ تخيّل أن تكون هذه خياراتك بعد عامين من السجن في هذه الكهف؟

هذه الخيارات أصعب من السجن ذاته.

لكنني سأتخذ القرار. أعرف بأنني سأتخذ القرار.

يا إلهي..

ها أنا أنظر إلى أبي سامر من جديد.

يبدو بأنني اتخذت القرار.

  • النهاية –

 

Print Friendly, PDF & Email
Twitter0
Visit Us
YouTube
YouTube
LinkedIn
Instagram0

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *

Contact Us


Please verify.
Validation complete :)
Validation failed :(
 
Thank you! 👍 Your message was sent successfully! We will get back to you shortly.