قبيلة الكناغرة- وفوضى المفاهيم
Share
هل سبق لك أيها القارئ العزيز أن تابعت كيف ينتقل حيوان الكنغارو الأسترالي من النقطة (أ) حيث يقف إلى النقطة (ب) حيث يوجد طعامه؟
بدلاً من أن تسرع إلى “غوغل” بحثاً عن جواب لهذا السؤال الفضولي، دعني أوفّر عليك الوقت والجهد. إنه ينط نطاً ولا يسير سيراً. لا يلتزم الخط المستقيم المؤدي إلى هدفه، إنما ينط من النقطة (أ) إلى النقطة (ج) ثم إلى النقطة (ر)، وبعدها يرجع إلى النقطة (أ). وأخيراً بعد لف ودوران ونطنطة عشوائية، يصل في نهاية الأمر إلى غايته المنشودة عند النقطة (ب).
ليس هذا التصرف مستهجناً عند الكنغارو، فذلك جزء من غريزته الحيوانية. لكن الغريب والمستغرب أن نقرأ لكتّاب يزحمون وسائل التواصل الاجتماعي بنطنطات فكرية لا نعرف أين تبتدئ وأين تنتهي، وما هو المقصود منها! وقد أطلقتُ على هؤلاء لقب “قبيلة الكناغرة” (على وزن مفاعلة، وهو تصريف لغوي صحيح).
أحد أبناء القبيلة الميامين كتب قبل مدة، والأصح نطنط بطريقة حرّكت مشاعري وأثارت حماستي للتعليق، لعل وعسى يحصل الإدراك بأن أقصر طريق بين نقطتين هو الخط المستقيم.
نحن نؤمن بالفكر القومي الاجتماعي، ولذلك نستخدم مفردات خاصة بنا عندما نريد أن نعبّر عن مفاهيمنا المحددة. ولا نفعل ذلك لأننا نرغب في مخالفة الآخرين أو التمايز عنهم… أو حتى الأستذة عليهم. أبداً قطعاً بتاتاً. للمفردات في قاموسنا القومي قيمة معرفية دقيقة، لأننا نعتقد بأن التعيين شرط الوضوح. كما أن المفردة بحد ذاتها تحمل مضموناً يتجاوز المعنى اللغوي الحرفي. فما كانت القبائل النازحة من شبه الجزيرة العربية، على سبيل المثال، لتجد عبارة أدق من “الهلال الخصيب” لوصف الطبيعة المعطاء مقارنة بالصحارى الجرداء التي نزحوا منها. فالكلمتان البسيطتان تستوعبان أبعاداً جغرافية واقتصادية واجتماعية تمثل هوية قاطني “الهلال” وهوية المتطلعين للنزوح إليه.
وفي معظم الأحيان، تكتنه المفردات قيماً اجتماعية تاريخية، وسياسية طبعاً. الضفة الغربية أم يهوذا والسامرة؟ الخليج العربي أم الخليج الفارسي؟ لواء الإسكندرون أم محافظة هاتاي؟ ولسنا وحيدين في هذا المركب الخشن: أيرلندا الشمالية أم مقاطعة آلستر؟ جزر المالفيناس أم جزر الفوكلاند؟ إقليم الباسك الفرنسي أم إيبارالد؟ وغيرها كثير. ولكل مفردة منها تاريخ موغل في القدم ومعمّد بالدم، تاركاً بصمات غائرة في وجدان كل اللاعبين فوق تلك المساحة الجغرافية.
فلسطين بالنسبة إلينا هي جنوب سورية، وننادي الجمهورية السورية باسم الشام. أما لبنان فهو “الكيان” الذي خلقه الحنرال غورو الاستعماري قبل مئة سنة بالتمام والكمال، وألبسه حلة دستورية طائفية فضفاضة. ولم تستطع كل عمليات الترقيع اللاحقة على مدى قرن من الزمن أن تخفي حقيقة أن “لبنان غورو” دولة فاشلة منذ لحظة ولادته.
نقول “الكيان” لأن لبنان خُلق بطريقة التلقيح الاصطناعي، وولد قيصرياً بصراع فرنسي ـ إنكليزي. وأريد له أن يكون ملاذاً طائفياً يبرر الملاذات الطائفية الأخرى. هل نسينا الخطط الفرنسية لدويلات الدروز والعلويين والسنة… ناهيك عن الملاذ اليهودي في فلسطين؟
قولنا “الكيان اللبناني” لا يُقصد به الإساءة إلى “الكيان” أو “الدولة”. كان سعاده واضحاً إلى أبعد الحدود عندما أعلن في خطاب عودته إلى الوطن سنة 1947 “إن الكيان اللبناني هو وقف على إرادة الشعب اللبناني. وقد أثبت الحزب في جميع مواقفه أنه يضع إرادة الشعب فوق كل اعتبار في هذا الصدد”. ونحن جزء أصيل من هذا الشعب.
مفردة “الكيان” تعبّر لنا عن مفهوم سياسي نشأ مع إعلان دولة “لبنان الكبير”، ولا علاقة لها بشعور المواطنية والانتماء الوطني الحقيقي الذي يخفق في صدور القوميين تجاه كل كيانات الأمة. أردنا أن يكون لبنان “دائرة ضمان لينطلق الفكر منها يعمّم الإخاء في الأمة”. في حين أن الذين انتفخت أوداجهم وهم يرددون شعارات رنانة عن لبنان الأبدي السرمدي الأزلي، هم أنفسهم الذين انتفخت جيوبهم وحساباتهم على حساب تعب المواطن وعرقه ودمه.
الذين أعمتهم العصبية الطائفية هم أعداء لبنان. القادة السياسيون يوغلون في إثارة الحزازات والنعرات، لإشغال الناس بها، بينما هم منهمكون في نهب ثروات البلد وتحويل “الكيان” إلى دولة فاشلة. إن سقوط الدولة والمجتمع في لبنان لا علاقة له باستخدام مفردات بعينها. فهذه المزاعم هي حرف للأنظار عن الأسباب الحقيقة. إن شعبنا، ونخص المثقفين بالتحديد، يتحمل مسؤولية كبيرة عن هذا الفشل وهذا السقوط.
تمعنّوا في هذه العبارة التي كتبها سعاده في تشرين الثاني سنة 1937: “وقد اعتاد الشعب هذه المحاكاة وهذا الميعان، حتى فقد كل ثقة بنفسه، وفقد كل فكر مستقل وكل حرية في التصرف. وهذا هو السبب في قبول الناس الأكاذيب التي ولدّها المغرضون ليطعنوا بها الحزب السوري القومي. فقبلت كرامتهم القومية هذه التهمة الباطلة قبولها الشيء العادي المؤيد بالعرف. ولم يجدوا في الأمر ما يستدعي أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث فيه ودرس أسسه التي نشأ عليها والعوامل القومية التي استمد منها حيويته ونظامه”.
ترى لو أعطي المواطن اللبناني الخيار بين واقع الدولة الفاسدة الفاشلة وبين “كيان” يكون نطاق ضمان للفكر الحر، فماذا يكون الخيار؟
أنا متأكد من شيء وحيد حتى الآن: قبيلة الكناغرة التي لا تدري ما هو الخط المستقيم، ستظل تنطنط على غير هدى إلى ما شاء ا
كالعادة. مشوّق للقراءة