يوميات جندي في “الجيش العربي السوري” يرويها محمد الحصني
Share
ظهور القائد الشهيد يامن طه التزة – الجزء الثاني (الزبداني)
رجعنا من إجازتنا، وكانت وجهتنا الجديدة الزبداني. انطلقنا إليها، وحط رحالنا في نقطة تجمع في إحدى شققها الفاخرة، ومن نقطة إلى أخرى وصلنا الى أحد أطراف المدينة. هنا كانت البداية لتكتيك عسكري كان جديدا علينا؛ كان يتم تقسيم المجموعات ودمجها بمجموعات لبنانية تابعة لحزب الله، وبالتالي تكون المجموعة الواحدة مؤلفة من خمسة سوريين وخمسة لبنانيين، وإذا كان الخمسة اللبنانيين يعرفون بعضهم شخصياً، كان السوريون يتعارفون للمرة الأولى. هذا التكتيك أربك مجموعاتنا المنسجمة فيما بينها وأضعفها
اخترقنا الخط الأول المؤلف من كتل أبنية وسقط في هذا الاختراق الشهيد حسن فندي؛ وهو شاب صغير السن من أسرة فقيرة من طرطوس. أصرّ القائد يامن والشباب على سحبه من أرض الخطر فشكلوا سلسلة بشرية وصلت إليه وتم سحب سلسلة المنبطحين من الخلف. لم يسبق لشباب حزب الله أن شاهدوا اندفاعاً جماعياً لسحب مصاب من منطقة خطرة بهذا الشكل، وكان بداية إعجاب متبادل.
تم اختراق الخط الأول ودخلت المجموعات في اليوم التالي وثبتت ليلتها في كتل أبنية متفرقة، كان نصيب البقية الباقية من مجموعة يامن الكتلة الأمامية في خط التماس، ولاحظنا وقتها أن المسلحين يتبعون تكتيكاً مختصره إحراق البيت المقابل لنا مما يمنعنا من الاستمرار ليلاً في التقدم ويربحون وقتاً.
لم يفهم يامن ما هو الداعي إلى تكتيك يؤدي إلى تقسيم المجموعات، وازداد غضبه عندما بدأ الاقتحام في اليوم التالي، وأخبره اللبنانيون أن عملنا يقتضي التأمين الخلفي فقط للمتقدمين. تقدم شباب حزب الله، وكانوا تحت قيادة شاب يدعى ساجد سرعين، وما هي إلا دقائق حتى سمعنا تبادلاً لإطلاق النار واستغاثات غير واضحة، ورجعوا يحملون شهيداً لهم. وقف ساجد وبانفعال أخبرنا: “يجب ألاّ نسمح لهم بفرحة النصر الحقيرة وأن نتقدم الآن من جديد ومن هم في المقدمة سيكونون معنا يداً بيد، ومن لا يريد التقدم فليرجع إلى الخلف.” أخبره يامن بعدم رغبته بالتقدم، فرد ساجد بغضب معاتباً بقسوة، وكان رد يامن أن مسؤوليته ليست تصحيح أخطاء الآخرين. وفعلا بدأنا بالرجوع ليوقفنا شاب من حزب الله سائلاً عن سبب هذا الموقف، أخبره يامن أنه لا يعمل إلا مع شبابه وليس معه منهم الآن إلا ثلاثة، وبقية المقاتلين لا يعرف إمكانياتهم العسكرية. رد الشاب (وكان اسمه كميل) “ومن يجمع لك شبابك من الخطوط؟” أجاب يامن: “أكون أول المقتحمين.” أخذ كميل قائمة الأسماء وفعلاً جمع معظمها خلال ربع ساعة. عندما شاهد ساجد عودتنا ابتسم بفرح طفولي قائلا: “عرفت أنك ستعود.” وعانق يامن بفرح محتفلاً وأعتذر منه وقبل جبينه. كان اللقاء بينهما بداية قصة صداقة بين يامن وساجد، وخاصة أن ساجد شاهد بعد أن تم جمع الممكن من مجموعة يامن محاولاتنا للتقدم. حيث دخلنا الكتلة الأولى وبدأنا بالمحاولة لدخول الثانية فتصدى لنا في زاوية مزعجة مسلح يحمل رشاش متوسط. ومُنيت كل محاولاتنا المشاغبة من يسار البناء للقضاء عليه بالفشل. أذكر أن يامن المجنون اندفع إلى سطح البناء وحاول الاشتباك معه، متجاهلاً خطورة التعرض لقناص ما. وكنت سوف أطلق عليه النار من الطابق السفلي لأنني شاهدت من ثقب في السطح بندقية تحملها يد، ولكن تبين على معصمها انشوطة تحمل العلم السوري الذي كان يامن يضعه على يده فعرفته.
أصرّ يامن بعد عبث المحاولات على التثبيت ليلاً في الكتلة الأولى، ووزع الشباب بمهام الحراسة، كان ساجد معنا وبيننا جندي وقائد ينفذ ويأمر.
في اليوم التالي أصر يامن على بداية الاقتحام صباحاً مخالفاً تكتيك الحزب بالعمل المسائي، وفعلاً بدأنا بالدخول فرداً فرداً، كنا نتفاهم بالعيون والأصابع لتغطية الزوايا الخطرة، ندخل من الطوابق والنوافذ والمسالك غير المألوفة. سقطت الكتلة الثانية والثالثة والرابعة حتى سيطرنا على تسع كتل تقريباً. جاء الأمر بالتوقف لأننا أخدنا أكثر من المطلوب، وحققنا ما كان مطلوباً أن يتم في عشرة أيام.
وبدأت بلحظتها أعمال التحصين وسد الثغرات، وبدأت ليلة متعبة لم يوفر فيها العدو نصف ساعة أو ساعة ليقوم بشغب يزيد من تعبنا وتوترنا، من قنبلة أمام إحدى الطلاقيات* إلى رشقة رصاص مجهولة المصدر تقترب منا وأفعال أخرى كهذه.
طلع الصباح علينا ونحن منهكون، وهنا بدأ القائد يامن يفكر ويفعل. الليلة التالية كانت الأمور معكوسة وبدأنا مبكرين مع أول الليل. من رشقة رصاص يرميها يامن وهو يركض على الطريق المكشوف، إلى قنبلة نرميها بعيداً أمام أحد النوافذ، إلى فتح النار بلا معنى وبغزارة من طلاقية محددة، إلى عبوة ناسفة أمام أحد الأبنية، إلى استهداف أحد المنازل بعد تكرار الملاحظات عن أصوات حياة في داخله وهكذا. وفعلاً مرت الليال العشر التالية بهدوء، ليصبح هذا السلوك تسليتنا الليلية طوال عشرة أيام. لنعلم فيما بعد أننا بهذه المهمة سيطرنا على نقطة تكاد تقطع الأوتوستراد بين دوار السيلاني وكورنيش بردى.
لابد من ذكر اسم عبد القادر أبو زيد وهادي الحسن اللذين كانا يد يامن اليمنى واليسرى في تلك الليال وخاصةً عندما يكون تنفيذ أي مهمة معقداً.
كان نجاحنا القوي في السيطرة السريعة وبيوم واحد وبدون إصابات، الأمر الذي كان يفترض أن يستغرق عشرة أيام، وراء تحليق اسم مجموعة يامن في سماء الزبداني وبين المجموعات المقاتلة ومن دوراتنا، خاصة أن معظم المجموعات فشلت في تحقيق مهامها أو كان نجاحها متواضعاً جداً. أصبحت مجموعة يامن محك للناقمين على مجموعاتهم فيطلبون النقل إلى مجموعة يامن، وكم طرد يامن منهم ليعودوا إلى مجموعاتهم مخذولين.**
كل هذا النجاح كان السبب وراء بداية الاتصالات مع يامن من قائد المحور إلى القائد ج. ص ليحاولوا اقناعه بالدخول في مهمة جديدة على محور جديد، خلافاً للمعهود في أن تبقى المجموعة التي نجحت في مهمتها في مكانها حتى يحين موعد إجازتها. كان يامن يرفض وهو يعلم الإرهاق المتراكم في عشرة أيام على مجموعته، ولكن اتصالاً حميماً من ساجد سرعين غير الموقف، فتم التفاوض على استراحة تسبق المهمة بيوم واحد، فالشباب بحاجة ماسة لحمام ساخن ونوم 24 ساعة، وبعد المفاوضات تم تقليصها ل 12 ساعة، وفي الواقع كانت 5 ساعات فقط، تحمم الجميع وتناولوا طعام الغداء وبدأت مهمة جديدة على محور جديد.
انقسمت مجموعة يامن إلى مجموعتين: مجموعة قليلة العدد خفيفة ومرنة بقيادة يامن، ومجموعة أكبر عدد بقيادة هادي الحسن. واتفقنا على العمل بشكل متجانب.
تركنا خلفنا على أحد المفارق الخطرة أبو زيد للتأمين، فتعرض لرشقات رصاص أصابته ولكنه رد عليهم وعالج نفسه، أبلغنا عن إصابته، وانسحب إلى المشفى. سيطرت مجموعتنا ليلاً على بناء طابقي وأغلقنا النوافذ والأبواب الخارجية. والمجموعات الباقية على أبنية بجانبينا. تابعنا في مساء اليوم التالي وتقدمنا إلى الأبنية المقابلة، ولكن سلوك غير مبرر بفوضويته على ميمنتنا عطل تقدمنا. وبقينا بقية الأيام في الكتل التي وصلنا إليها ونتمدد يميناً ويساراً وأماماً بهدوء وبلا اشتباك. وهكذا سقط دوار بردى حيث دخلت مجموعة يامن إلى الكتلة الأخيرة فيه، وعثرنا في بناء طابقي على بقية معدات مشفى ميداني وبقية صناديق ذخيرة فارغة لرشاشات متوسطة بينها علبتين عليهما كتابة باللغة العبرية. عثرت على العلبتين فأخذ مني شباب الحزب علبة وبقيت لي علبة محفوظة كهدية عند أصدقاء أحبهم.
أمضينا بقية أيامنا السابقة للإجازة نتفكه على بعضنا منتشين بالإنجازات متمتعين بامتيازات مجموعة متفوقة في كل مهامها حتى لحظتها. أذكر أننا بمقدار محبتنا لساجد كنا نمقت بعض شباب الحزب والطريقة الوحيدة لتطفيش لبق من زيارة فرضت نفسها علينا أن يغمز يامن أيمن زويد الذي يبدأ بصوت لا يطاق يغني أغنية “يا حيف”* وأحدهم ينقر على الطاولة ويامن يترنم مدعياً الطرب. فيخاف الضيف الذي يعتذر ويخرج مسرعاً. وابتكرنا تسلية عندما يصادف أن نكون جالسين حول طاولة فتسقط قذيفة قريبة جداً ويعبق المحيط بالغبار، أن يفتح أحدهم زجاجة ماء ويسكبها تحت الطاولة وهو مرتجف الصوت (هي عدو؟) فينفجر الجميع ضحكاً.
انتهت المهمة وذهبنا إلى إجازاتنا وعندما عدنا عرفنا بانتهاء حقبة عملنا مع القائد ج. ص. وأنه تم إلحاقنا بالقوة التي هربت منها بسبب طبيعة تدريبها. كانت مفاجأة محزنة للجميع، وبدأت فكرة الخطر القادم على لسان أو عقول القسم الاعظم من الشباب.
ألحقنا بمهمة التثبيت في إحدى كتل الزبداني (بالقرب من جامع على بن أبي طالب) مع توصية من القائد ج. ص. بحق مجموعة يامن وإنجازاتها. علمنا وقتها باستشهاد القائد ساجد سرعين وأن اسمه الحقيقي علي خضر الوز. أذكر شرود يامن عندما سمع الخبر، وحدثني عن اندماج دم لبنان وسورية في معركة واحدة وكم سيوجع اسرائيل هذا الموضوع في الأيام القادمة. وأننا نواة النصر القادم إلى الشرق الملتهب والمتعب.
كانت كل أيام هذه المهمة عبارة عن حراسة ليلية ونهارية، وخاصة أن الهدنة في ذلك الوقت كانت فاعلة. إلى أن جاءت الأيام الأخيرة قبل إجازتنا وأخبرنا يامن أن يوم غد سيكون بداية لمهمة على كامل المحور، وأن مهمتنا السيطرة على كتلة بناء واحد. فتح الخريطة وأشار لخط العملية ولموقع البناء. وذكر “تنكيشة سنان” وفعلا مرت المهمة بسلاسة وكنا تقريباً المجموعة الأخيرة التي دخلت إلى الكتلة الأخيرة على يمين الكتل التي تمت السيطرة عليها. وأثناء مرور يامن أمام أحد الأبنية سمعنا طلقات وسقط أرضاً.
حُمِل إلى الإسعاف وبقيتُ مشتت الذهن إلى أن جاء الخبر أن إصابته ليست بخطيرة. عدنا عند الثالثة صباحاً لعدم إمكانية التثبيت في البيت الهدف، لم أقدر على النوم، وفي الخامسة والنصف صباحاً عرفت أن القائد يامن استشهد. كنت عاجزاً عن الرد على رقم والدته، ورقم حبيبته التي اتفقنا أنا وهو على أن نعرفها على حبيبتي. اتصلت أمه الساعة العاشرة، وسألتني “هل حقاً استشهد يامن”؟ أكدت لها الحقيقة، فأجابتني باكية أنها تريدنا جميعاً أن نزفه عريساً.
لم يكن ثمة خطأ عسكري. لم نرتكب أي خطأ في تحركاتنا. المهمة حقا كانت سهلة جداً.. ولكن ..!
إذا كان القائد آخر من ينام وآخر من يأكل، إذا كان القائد يملك مقدرة ذهنية مميزة على التمييز بين النصر والهزيمة أمام خطر الموت فيملك الحق والثقة المطلقة في تحريك أجساد وأرواح مقاتليه، إذا كان القائد بأخلاق الأطفال البريئة مع الطيبين وبدهاء وحنكة ملوك الشر مع الأشرار، إذا كان القائد كل ذلك فهو يامن طه التزة.
اليوم، وأنا على قيد الحياة ومتزوج ممن أحببت ولدينا طفلة صغيرة. لا أفهم ولا أعرف، لماذا كان يامن من استشهد وليس أنا.
________
* الطلاقية: فتحة كبيرة في الجدار يمر من خلالها الجنود، أو فتحة صغيرة يطلق من خلالها الجندي النار على العدو.
** كان يامن يكلف كل قادم جديد بمهمة، فيتبين له أن القادم عبارة عن هارب من مجموعته لا اكثر وليس مقاتلاً شجاعاً فيطرده.
* أغنية لشخصية سورية معارضة اتهمت الدولة السورية أنها كانت تطلق النار على المتظاهرين.
استشهد يامن بتاريخ 9/9 /2015 وسبقه بالشهادة ساجد سرعين بتاريخ 20/ 8/ 2015.