يوميات جندي في “الجيش العربي السوري-الجزء الثاني- يرويها محمد الحصني”
Share
فترة التدريب – الجزء الثاني
لمن يرغب في قراءة الجزء الأول، تجدونه على هذا الرابط
نعم، نحتاج أثناء الحرب من حلفائنا إلى السلاح والقرار السياسي الصادق، لكننا نحتاج أكثر إلى خبراتهم القتالية وتجاربهم، وبالتالي تدريبهم. ومهما تبجّحنا بقدرات جيشنا السوري وخبراته القتالية، تبقى تكتيكات حرب العصابات شبه مجهولة بالنسبة له وقديمة الأفكار لعدم اضطراره إلى خوض تجارب معاصرة. هل أفشي سرا إذا قلت إننا تدربنا على أيدي مدربين ايرانيين طوال خمسين يوم، وما أقوله يعرفه الكثير؟ كنا أربعة وأربعين مقاتل سوري. المفاجأة الجميلة هي أنه كان معنا شباب من محافظة الحسكة، فازدادت تشكيلتنا السورية غنى وتبادلا للخبرات والصداقة، وكان السؤال الذي يتردد بيننا: “كيف بدأت الاحداث في مدينتك؟” لتكون الأجوبة متشابهة بشكل مؤلم.
كان التدريب يتضمن يوميا قليلا من الرياضة (على غير المتوقع)، قليلا من النظريات الحربية، وليلاً ونهاراً كثيرا من التطبيق. إنما ثمة تنويعات جميلة، كذهابنا مثلا في إحدى الليالي إلى قاعة الدرس، عرض خلالها المدرب مجموعة من مقاطع اليوتيوب عن الجيش أو المسلحين في أرض المعركة، وقد أصيب فيها أحدهم. فنسأل بشكل شبه أفرادي: “أين ارتكب الخطأ؟”
أثناء التدريب، عندما ينال التعب منا وينتقل من الجسد إلى النفس، كان المدربون يذكروننا بقول القائد الخميني: “قطرات العرق اثناء التدريب توفر قطرات الدم أثناء المعركة”. هكذا تعلمنا أن نحترم التعب ونتجاوز النزق.
كان هم المدربين الأساسي والملخص النفسي لتدريبهم في كل الدروس أن نستوعب فكرتين اثنتين: الأولى، أن نحترم خصوصية تضاريس أرض المعركة في التقدم والانسحاب، لأن التضاريس مساتر طبيعية يمكن أن نبتكر فيها الكثير. أما الثانية وهي أهم من القوة الجسدية، فهي الإبقاء على يقظة العقل والتفكير مهما تعب الجسد، لأن على العقل أن يبقى المحرك الأوحد لئلاّ نصبح شهداء. وقد نجح المدربون نجاحا جيدا في الفكرتين، حيث غُرِستا مع نهاية الدورة في روحية الجميع بشكل ممتاز.
كان تدريبنا منقسما بوضوح إلى ليلي ونهاري. لكل قسم أسلوبه وطريقة عمل تنبع من خصوصيته، إنْ في الصمت والعتمة والاستتار أو في التمويه والتعاون. كان الزحف والقفز بين الانفجارات الليلية والانتشار الدفاعي الصحيح إحدى تسليات مدربينا شبه اليومية خلال الليل. وكان في كل درس جديد عبرة ضرورية. لكن ثمة مواقف محزنة، كتلك التي كنا نشاهد فيها تدريبات عناصر الجيش يتنقلون أثناء المعركة، فاذكر وبأسف كيف كنا بعدها نحصى عدد الشهداء الذين يركضون بدلا من الزحف او القرفصاء، أو يتقدمون بدون تغطية نارية من زملائهم. عندها كنا نعلم الفارق بالنسبة لما نتعلمه.
جرت احد المواقف الصريحة مع قائد مدربينا وقد زارنا ليطمئن على أحد مصابي التدريب فسمع هواجسنا المبطنة ومفادها ان إيران تستغل الأزمة في سورية لتبيعنا امتيازات نووية او ما شابه. اذكر أن “ابو فاطمة” اعترف بان قسما من الإيرانيين تعب من هموم إيران الخارجية ويريد العمل والتجارة والمال، وقسما آخر يعلم أن الأميركيين لن يتركوه وشأنه. لكن القائد في ايران يقول أن امريكا هي العدو والشيطان الاكبر، وعندما يقول القائد أنه يجب على أبو فاطمة أن يموت يعني أن أبو فاطمة يجب أن يموت.
كسب المدربون احترامنا فصرنا سعداء في الدروس ووددنا متابعتها دون استراحة، خاصة التطبيقية منها. مثال على ذلك، وتطبيقا لدروس التسلل، كنا نخبر المدربين عندما يطلبون منا الذهاب إلى نقطة محددة لجمع معلومات عنها إننا في منطقة عسكرية سورية وثمة جنود مسلحين ليلا كحرس، ولديهم كلمة سر، وأن عدم معرفتنا لها يودي بنا إلى الهلاك. فكانت سعادتهم كبيرة لان درس التسلل سيحقق المطلوب تماما. وفعلا صرنا نتسلل إلى مختلف أنحاء المنطقة ونتجاوز كل أنواع الحرس ونجمع المعلومات. فأصبحت الثقة بالنفس معززة بعوامل الواقع والعمل.
يصعب علي أن اختصر تجربة طويلة وثرية في مقال صغير، إلا أن أهم نتائج هذه الدورة أنها عززت الثقة في أوامر قائد المجموعة فتعلم الجميع معنى وسبب الأمر. كما أنها علمتنا أن المعركة لعبة، نعم قذرة، لكنها لعبة قاسية الشروط. واقدر أن أقول، بعد عدة سنوات حرب، إن الاقتناع بهذه الفكرة تشكّل سلامة للمقاتل ليواجه مصاعب الحرب النفسية وضغوطها. أما الحديث عن التأثير المذهبي ففي الحقيقة، وتدوينا للتاريخ، لم نتعرض إلى أية دعاية أو إذاعة ثقافية شيعية، لا بل كان مدربونا يطلبون منا تلاوة آية العصر يوميا في نهاية كل درس ووجوهنا باتجاه الغرب. وإذا كان من دربنا هم من مقاتلي الحرس الثوري الإيراني فهنيئا لهذا الشعب بمقاتلين هم في غاية الأخلاق والتواضع والذكاء. هل شعرت بالندم على هذا الطريق الشاق؟ أبدا. لقد غلبت الموت في العقل، وأثبتت تتمة التجربة أنني تغلبت عليه في النفس. وكلي فخر بتجربتي وبشركائي فيها، نصراً أو هزيمة.