هوامش في الهيمنة المضادة (1)
Share
محمد العملة
“أصبح من الآمن وضع برنامج سياسي، كانت الحداثة تحظره في السابق. لم يعد أحمقَ محكومًا عليه بالفشل كما كان من قبل. لأن كل شيء فيما بعد الحداثة، يبدو أحمقَ محكومًا عليه بالفشل، بما في ذلك أكثر جوانبها بريقًا. ليس من قبيل المصادفة أن أبطال ما بعد الحداثة هم النّزويّون والمتوحشون والمنحطّون؛ هذا قانون الأسلوب. على خلفية المهرجين في العالم، لا شيء ولا أحد يمكن أن يبدو قديما جدًّا، ولا حتّى التقليديون الذين يتجاهلون مقتضيات الحياة الحديثة”.
الخلاص من الغرب – ألكسندر دوغين
مقدمة في الأوراسيّة
في خطابه أمام الجمعية الفيدرالية في الكرملين، بعد نجاحه في ولاية ثالثة للرئاسة، عام 2012، ألمح الرئيس فلاديمير بوتين أنه حمل معه أفكارًا جديدة للسياسة الروسية، أفكار النخب المتأثرة باللساني الروسي “تروبسكوي” وأعمال ” ليف غوميليوف”.
أطمح في هذه المقالة أن ألقي الضوء بشكل موجز على الخط العام الذي باتت دوائر القرار الروسية تتخذه في التعاطي مع مسائل سياستها الداخلية والخارجية، الاستراتيجية الاقتصادية، الأمن القومي والتحالفات؛ لأجيب عن أسئلة راهنة حول العملية العسكرية في أوكرانيا، ولماذا يتعاطى الغرب مع الأمر بطريقة حذرة، ولماذا يتجه الخطاب الإعلامي لأن يكون “إنسانيًا بكائيًا”، ولماذا نهتم بهذا الحدث وما تأثيره في بلادنا؛ مستندًا وملخّصًا لأدبيات الحركة الأوراسية التي يقودها ألكسندر دوغين حاليًّا، وهو المفكّر الأبرز فيها، والشارح للأوراسية الكلاسيكية التي نشأت في عشرينيات القرن المنصرم، وتطورت قبيل انهيار الاتحاد السوفييتي تحت اسم “الأوراسية الجديدة”، التي بنى عليها “دوغين” ما سمّاه ” النظرية السياسية الرابعة”، مستخدمًا علم الجغرافيا السياسية كأداة.
الأوراسية دمج للمصطلحين، أوروبا وآسيا، وتمثل في علم الجغرافيا السياسية (الجيوسياسية) ذلك الفضاء الجغرافي بين أوروبا وآسيا المشتمل على أربع حضارات رئيسة: الصينية، الهندية، الإيرانية والروسية. لاحقًا تحولت الأوراسية بشكلها الجديد إلى حركة دولية، وباتت ترمز إلى نهج سياسي أيدولوجي يمكن تطبيقه في كل أنحاء الأرض، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصية كل نطاق جغرافي يراد تطبيقها فيه، ويمكن إجمالها بما يلي:
1. مراجعة أساسية للتاريخ السياسي والايديولوجي والعرقي والديني للبشرية، تقدم نظاما جديدا للتصنيف والترتيب والتقييم، يتجاوز تلك المعايير القياسية التي يفرضها النظام الرأسمالي الليبرالي.
2. ترفض نموذج ضواحي الوسط في العالم (المراكز والأطراف)، وتقترح أن الكوكب يتكون من مساحات المعيشة المستقلة والمفتوحة جزئيًا على بعضها البعض. هذه المناطق ليست الدول القومية أو القائمة بشكلها الحالي، إنما تحالف دول أعيد تنظيمها في اتحادات قارية أو إمبراطوريات ديمقراطية بدرجة كبيرة من الحكم الذاتي المحلي، على شكل عالم متعدد الأقطاب، يشمل نظاما معقدا من العوامل العرقية، الثقافية، الدينية والإدارية.
3. تنظر الأوراسية إلى الدولة القومية في واقعها الحالي على أنها شكل عفا عليه الزمن من تنظيم المساحات والشعوب، الذي كان نموذجًا للفترة التاريخية من القرن الخامس عشر وصولاً للقرن العشرين، وبدلاً من الدول القومية، يجب أن تنشأ تشكيلة سياسية جديدة تجمع في داخلها التوحيد الاستراتيجي لذلك الفضاء الجغرافي.
4. لقد تم تطوير المشروع الأوراسي على شكل فلسفة سياسية قائمة على أساس تعددية الحضارات، معاداة الإمبريالية، معاداة الحداثة، بنية روسيا ذاتها وخصوصيتها الثقافية والدينية والعرقية، إلى جانب الإضافة المهمة للعناصر الثقافية التي استعارها الروس من المجتمعات الآسيوية المحيطة بهم.
5. معاداة الحداثة التي تنادي بها الأوراسية، تعني تلك الحداثة التي كانت نتاجًا للحضارة الأوروبية الغربية، والتي أخذها الأميرِكان (الأنجلو-ساكسون) للوصول إلى مجتمع ما بعد الحداثة.
6. تعرف الأوراسية في القرن الحالي نفسها على أنها التمسك بتغيير العولمة، وترفض رفضًا قاطعًا الشمولية المفترضة للأطلسي وأميرِكا.
7. لا تنكر المعتقدات التي رفضها عصر التنوير ومنجزات الحداثة في أوروبا الغربية، نتحدث عن الدين والامبراطورية والثقافة، لكن الأوراسية في الوقت نفسه تتبنى أفضل إنجازات الحداثة على نطاق واسع، من بينها التقدم التكنولوجي، الضمانات الاجتماعية وحرية العمل.
8. الأوراسية نقيض للعولمة والعلامة التجارية الأطلسية (ما بعد الحداثة)، التي تنظر إلى كل من التقاليد والحداثة على أنهما عفا عليهما الزمن، وخاليتين من المعنى. لكن مفهوم “ما بعد الحداثة” بصيغته الأوراسية يعزز تحالف التقاليد والحداثة باعتبارهما دافعا للبناء نحو الخلق والنمو.
9. عالمية الغرب في نظر الأوراسية خطأ جسيم؛ لأنها في الواقع ظاهرة إقليمية بحتة، تتظاهر بمكانتها العالمية لأنها محمولة على الإمبريالية، وبالتالي فإن الحداثة الأوروبية (الأورو-مركزية) وما بعد الحداثة الأمريكية (العولمة) ظاهرتان غربيتان، لأنهما نتاج أيضا لهذا المكان وتحملان طبيعة إمبريالية.
10. العولمة ظاهرة أحادية البعد، تحاول إضفاء الطابع العالمي على الرؤية الغربية فيما يتعلق بكيفية إدارة التاريخ البشري بشكل أفضل. إنها توحيد مختلف الهياكل الاجتماعية، السياسية، العرقية، الدينية والقومية في نظام واحد، وهي عملية غالبًا ما ترتبط بالقمع والعنف (الشمولية). إنها اتجاه تاريخي لأوروبا الغربية، وصل إلى ذروته من خلال هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية.
11. ترى الأوراسية أن الحضارة الغربية قامت ببناء نظامها الخاص على أساس علمنة المسيحية الغربية (الكاثوليكية والبروتستانتية)، مما أدى إلى إبراز قيم الفردية، الأنانية والمنافسة، التقدم التقني من أجل الاستهلاك والاستغلال الاقتصادي. إن هذه الحضارة وصلت للعالمية ليس على العظمة الروحية، بل على القوة المادية القاسية.
12. الأوراسية تقليدية، نظرتها نحو الوجود والأبدي، والماضي جزء من الأبدي؛ لذلك هي نقيض للحداثة التي ترفض الأبدي وترى الزمن بشكل خطٍّ تصاعدي، وتصنف الأفكار بمعياريتها هي فقط.
الجغرافيا السياسية
ترى الأوراسية أن روسيا في كل سياقاتها التاريخية الإمبراطورية والأرثوذكسية والشيوعية، قدمت نفسها كنقيض للحضارة الغربية، ولذلك فإن الأوراسية تقوم على النقيض تمامًا من الليبرالية الديمقراطية. بالتالي فهي تنظر للدولة كقوة من أجل عقيدة سامية، وليست الدولة كما تدعو الليبرالية كوسيلة لتعزيز الرفاه والحريات الفردية.
بشكل عام، يقسم دوغين الحضارات إلى نوعين: الأرضية (تللوريّة)، والحضارات البحرية الأطلسية (ثالاسوقراطية)، ويحاجج بأن هذين النوعين في صراع أبدي مستمر. الأرضية (التللورية) تعني أنه يمكن تفسير نمط عيش مجتمعها وثقافته من خلال الأرض التي يقيم عليها، وتتصف بأنها شمولية محافظة، متعلقة بالقديم والروحاني، ترفض القيم الحضارية البحرية (الثالاسوقراطية) وتصفها بالتّقلب؛ لذلك هي ترفض أيديولوجيا الحداثة والليبرالية، وتعبر عن موقف استراتيجي ملأ الفراغ في التفكير العسكري والأمني.
في تقديمه للأوراسية، يطرح دوغين فكرة نشوء عالم متعدد الأقطاب، مضاد لشمولية القطب الواحد وهيمنة الأطلسية الأمريكية. سياق يقسم العالم إلى أربع مناطق رئيسة، وأحزمة زوال لتحقيق التوازن المطلوب، وفرض تعددية الأقطاب.
هذه الرؤية يفصلها دوغين في النواحي الدينية، الثقافية، القومية، تقسيم السلطات والاقتصاد، لكننا لن ندخل في تفصيلاتها للأحزمة المقترحة، وسنكتفي بالحديث عن الحزام القاري الأوراسي الذي ينبغي لتحقيق وجوده أن يتم:
● إنشاء المحاور الكبرى بين موسكو وكل من دلهي، أنقرة، طهران وبكّين.
● التعامل مع منطقة القوقاز بسياسة أنصاف المحاور، بمعنى تجاوز التعقيدات في هذه المنطقة واللعب على وضع محاور بين مختلف الأقاليم القوقازية وموسكو من جهة، وبين المحاور الكبرى مع الأقاليم القوقازية من جهة أخرى.
● اندماج دول آسيا الوسطى في تحالف استراتيجي واقتصادي مع روسيا الاتحادية، والتركيز على أوجه التشابه الإثنية الدينية مع محوري أنقرة وطهران.
● معضلة السيادة مقابل الحكم الذاتي. السيادة في الرؤية الأوراسية غير ممكنة وخطيرة. إنها بحكم تعريفها تفترض وجود منطقة معزولة، ذات استقلالية تامة، وفي حالة الاتحاد الروسي بفسيفسائه الغنية؛ تكون السيادة رديفًا للتخلي عن وحدة روسيا، والحل يكمن في مبدأ الحكم الذاتي الذي يضمن الاعتراف بالتجمعات كأعضاء مكتملي العضوية في كيان جماعي، يُنظَر فيها إليهم كهويات دينية وقومية مميزة، ويمنع الحركات الانفصالية والنزاعات الحدودية. يعيب دوغين على النظام الحالي بطئه في الانتقال من السيادة إلى الحكم الذاتي، ويطلب تنفيذ هذا الأمر الاستراتيجي بشكل فوري في النقاط الساخنة في داخل روسيا وحولها، وهو ما أعتقد أنه بدأ في جورجيا 2008، ثم القرم 2014، وإقليم الدونباس حاليا.
● الأهم من هذا كله هو العمق الجيوسياسي في منطقة “ما بعد الاتحاد السوفييتي”، والتي تشترك في العديد من السمات مع روسيا. يقول دوغين أن مثلث ” موسكو- كييف – أستانا” هو الضامن لقيام الاتحاد الأوراسي، وتحقيق استقراره، وأن حل المسائل العالقة مع كييف ضرورة ملحّة. يمكننا أن نفهم الآن سبب العملية العسكرية الخاصة لروسيا الاتحادية في عمقها الأوكراني الجيوسياسي.
ينطبق الكلام السابق على دول العالم الحالية في المناطق الواقعة خارج الاتحاد الأوراسي أيضا، إذ ليس أمامها إلا خيار من ثلاثة: التصفية الذاتية بأن تندمج بشكل كامل في إطار العولمة الأطلسية، أو أن تناهض العولمة مما يترتب عليه عزلها تمامًا، والخيار الأخير أن تندمج في كيانات إقليمية كبيرة بناء على قواسم مشتركة (الخيار الأوراسي).
إن الأوراسية تضع نفسها في مواجهة النظام أحادي القطب المهيمن منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، وتقدم نفسها كحل أخير أمام الأورو-مركزية، الإمبريالية، الليبرالية الديمقراطية وما بعد الحداثة؛ ولذلك قدمت الحركة الأوراسية فهمًا أيديولوجيًّا فلسفيًا للأوراسية، سمّوه “النظرية السياسية الرابعة”.
إذا كنّا نتحدث عن نظرية رابعة في السياسة، فما هي النظريات الثلاث الأخرى؟ ولماذا نحتاج أصلا لنظريّة رابعة؟!
“يتبع”