هل تكفي الراهنية؟ – نجيب نصير
Share
تكاثر الحديث مؤخراً عن “راهنية سعاده”، بناء على ما يجري من تناشط في ساحات التيارات السعادية، من حزب ” مؤسسة” وحزبيين فيما بينهم، وفيما بينهم وبين ” الخوارج”، وكذلك من تيارات هي قومية إجتماعية خارج “المؤسسة.” والسؤال عويص يدور حول مآل الأمة، وليس حول مآل النهضة الثقافية/ التفكيرية التي “اقترحها” المؤسس. وأقول “اقترحها”، لإنها لم تغادر موقعها، مذ تركها واستشهد. فالبعد العملاني لها، توقف عند هموم إعادة التأسيس ما بعد السعادي، والتي ما زالت تهيمن على الإدراك. هذه النهضة تتراجع كل فترة إلى درك، أدنى من سابقه لدرجة الإضطرار إلى إستعادة الراهنية، ودرجها في عملية التأسيس المزمعة. وهي على ما أظن تجريف لما تبقى من خزين النهضة الثقافي/ المعرفي، ووضعه في سياق العمل على القضية القومية.
لكن الراهنية ذاتها لا تحتاج إلى أبحاث وتعمق. فهي البدهية،التي تجعل كل شخص استمر في اعتناق السعادية مسؤولاً عن إنجاز وتفعيل قضية سعاده القومية. فأي مقارب لمآل الأمة السورية ضمن تطورات العصر، سيرى راهنية الحاجة الى هذه التكنولوجيا التي وضعها سعاده من أجل الهروب من الفناء على الأقل، ليبدو الإنشغال في البدهيات، مشابه تماما للمعارك الجزافية التي ينخرط فيها أبناء هذه الأمة دوماً من دون مصالح، ودون إية نية لتحقيق المصالح العادية، كبداية جامعة لشتات المجهودات القومية، المصبوبة بدهياً في حاصل التخلف على الأقل، وفي حاصل إستثمار هذا التخلف، من قبل الجهات الداخلية والخارجية. فإذا كان التخلف لوحده دون أية إستثمارات، طامة كبرى، وضربة قاضية، فإن البحش في ما تبقى من الخزين المعرفي وتسويقه على أنه قضية كبرى، يجب التفنن بالتغني بها، وكأنها البحصة التي تسند جرة، كجهد بديل عن العمل في القضية القومية مباشرة. هذا العمل الذي فاتنا منذ زمن طويل، نحن الذين انتظرناه طويلاً كي نعطي لأعمارنا معنىً. تلك الأعمار التي نهبت على مذبح إعادة التأسيس وتعميق إعادة التأسيس التي هي بالمختصر الممض، صراع على السلطة بين المتعاقدين، صراع غير شريف وليس من باب الفساد والإفساد فهذا شأن لوحده. ولكن من باب هذه الممارسة للسياسة الحزبية، بمعايير الواقع الإجتماعي المريض وتطوراته، حيث تبدو الراهنية في تحد خاسر، مع أي مهتم مبتدىء بشؤون السياسة والمجتمع اليوم.
فهل حقاً وواقعياً هناك راهنية لسعاده أكثر من راهنية للكواكبي مثلاً أو غيره من منتجي الثقافة والأفكار في ظل تحولات هذه الأمة التي لما تزل في طور الإقتراح. الأمة التي تحتاج أولاً لوجود العمل على قضيتها مما يجعلها حاضرة ميزان الصراع الاجتماعي. فهذا النوع المتردي للحركة الاجتماعية، التي وصلت بنا، ووصلنا بها، إلى هذه الأيام الأردأ من الأيام التي ثار عليها سعادة وعلى نظمها وقوانينها، لم تتغير قيد أنملة. بل صارت إلى أسوأ، دون إمساك أي خيط للعمل على القضية القومية، منذ مغادرته هذا العالم.
كنّا نتمنى ألا يبقى سعاده راهنا بسبب تطور وإرتقاء “المجتمع” السوري الذي عمل عليه سعاده مباشرة في إحتكاك صراعي قاسي، تمسك فيه بهيبة المصالح القومية شكلاً ومضمونا. ولكن ومنذ استشهاده، كانت الحركة المجتمعية بما الحزب، تقوم بحراك سلبي، وتغرق في موجة تخلف عميقة، أدت إلى مجموعات من الهزائم الماحقة، في جميع الساحات، أهمها مسألة حقوق الإنسان، التي عانى منها سعاده شخصياً وأولاً، في سجنه ومنافيه وإعدامه، وذلك تأسيساً على أن القضية القومية، هي قضية حقوقية في المقام الأول.
ولكن ما الذي حصل فعلياً لهذه المسألة في ساحة عمل القوميين الإجتماعيين منذ استشهاد المؤسس؟ لقد غرقت هذه الحقوق في حقول الإستبداد الحزبي، الذي يفسر هذا الصراع المتوحش على السلطة في حزب يضعف مع كل عملية سيطرة قيادة منتصرة، على قيادة مهزومة، في تمثل غير سعادي لديمقراطية داخلية عجفاء، لينتحي كل ما نسميه الآن راهنياً، جانباً ومؤجلاً، ليصبح عديم الممارسة.
إن ترك الحزب لقضية حقوق الإنسان في كيانات الأمة، وهي الساحات التي عانى فيها القوميون الإجتماعيون من النقصان الفادح لهذه الحقوق فتح المجال، ليس مشاركته لإمجاد الإستبداد فحسب، بل انسحبت هذه الخصلة إلى بنيته الحزبية وحتى الثقافية. وبإسقاط هذه المهمة عن كاهل الحزب، تصير راهنية السعادية إلى فناء أو إلى تعطيل إلى أجل غير مسمى. فالقضية القومية برمتها، مبنية على حق الإنسان ببناء مجتمع، الذي يحقق مصالحة. وأي تقصير أو تأجيل لهذه الممارسة، يفتح الأبواب على ممارسات حقوقية مضادة، مثل حقوق الطوائف، والطبقات، وحقوق الشركات السياسية، التي تنتصر بمجرد غياب الحزب عن الفعل.
من باب آخر هو على تماس مع الراهنية بصورتها التي يتم تداولها الأن، والتي لا يمكن تصديقها، إلا إذا كان هناك تاريخ حزبي قام بإنجازات على طريق القضية القومية. فالراهنية تحتاج إلى تلك الإنجازت الملموسة التي يتفق على حصولها الأغلبية، خصوصاً في ظل تغيرات محلية وعالمية عميقة، شكلت أزمات جدية للوجود الإجتماعي المعاصر، تشكل أسئلة ملحة للعمل على القضية القومية، على أن تمثل استمرار سعاده، لمواجهتها والصراع معها. وهنا نستطيع أن نعدد حزمة ضخمة من اللاراهنيات، ليس بسبب تغيّر الأزمنة والأسئلة والأزمات فحسب، بل بسبب فراغ سجل القوميين الإجتماعيين من الإنجازات الإجتماعية الملموسة أيضاً. حيث كان الحزب منزوياً بعيداً عن الأزمات الإجتماعية، وكأن قضيته ليست قضية مجتمع وحقوقه، متبجحاً براهنية سعاده وسببيتها، بينما هذه الراهنية تُسائله، ماذا حققت بهذه الأفكار، قبل أن تصبح بحاجة إلى إثبات راهنيتها.
لقد حسم سعاده دائماً، أن القضية هي قضية عمل في المجتمع المعاصر، لفائدة المجتمع المعاصر. وهذه هي راهنيته، وليست في صلاحية فكره، لكل الأزمنة، ولكل الأزمات، التي نرددها بإحتفال شبه قبلي. العمل في المجتمع وللمجتمع، هذا ما نقص من أداء الحزب والقوميين الإجتماعيين. صحيح هو أن كثرة المسائل التي يجب أن يتفاعل معها الحزب مربكة، ولكن التفاعل معها هو السبيل الوحيد لجمع شمل القوى المجتمعية، وهذا ما يفسر الإحجام الشعبي عن الإلتقاء مع القوميين الإجتماعيين، مشاركتهم إنجازات تهم مصالحهم الإجتماعية، إذ أن سؤال بسيط هو ماذا فعلتم لمبادئكم، أو بمبادئكم، أو ماذا أنجزتم من تحولات إرتقائية داخل المجتمع الذي أنتم بصدد إقامته على مبادىء حقوقية واضحة ومعلنة وراهنة، من هنا أيضاً تبدو أطروحات الراهنية هذه مهزوزة.
يتحول السؤال وهو حق من حقوق المواطنة إلى: إما أن هذا الفكر هو للملائكة ونحن بشر، أو أنه علينا إعطاء هذا الفكر فترة زمنية ليحقق إنجازات على طريق ممارسة مبادئه كوجود حقيقي على أرض الواقع، فإذا تجاوز هذه الفترة الزمنية ولم يحقق شيئاً فالفكرة غير صالحة.
هذا هو المأزق العميق الذي نحن فيه، المتأتي من عدم إمساكنا لرأس خيط العمل القومي، والبدء في ممارسته في المجتمع المحلوم به، وإلا تحول الفكر السعادي، إلى معادلات منطقية صحيحة، نستعيدها في كل مرة وننشرح ونتطمئن. وكفى المؤمنين شر العمل القومي، القائم علانية على كل هذه الراهنيات المدعاة.
لا أظن أن هذا التذكير المتراكم براهنية سعاده، يفيد بشيء، فلن يتوجه أحد مباشرة، إلى تطبيق هذا المبدأ الإصلاحي، أو ذاك الأساسي، ضارباً بعرض الحائط كل ما يعيق التطبيقات السعادية في حيز الواقع. فلن يبدأ أحد، لا الحزب ولا تياره ولا الأفراد، بإجراءات ضد الطائفية، مثلاً، ومفاعيلها ومؤسساتها وإجراءاتها وتقاليدها المرعية، ولا حتى فضائحها. بل سيركنون إلى الترحم على سعاده هذا إذا لم ينخرطوا في دعم الطائفية بما تحتاجه. عندها سوف نسأل ( وقد تساءلنا سابقاً) عن الراهنية وتطبيقاتها في الكثير من الأمور. فالرجل المطلوب أن يكون راهناً، قالها بوضوح جلي وتام ونهائي: لقد رفض الطائفية قولاً واحداً. واليوم نعود لنقول أولم يقل لكم؟ أنظروا أين اصبحنا! وكأن هذه المستخلصات، ستجعلنا نمارس العمل في القضية القومية. فسعاده لم يعد راهناً في أوساط المتعاقدين معه، ولا يعني شيئاً جدياً، أن يكون السبّاق إلى إكتشاف الأعطاب والسير مع رفقائه على درب تغييرها، فلم يكن ممن يتكتكون في المسائل التأسيسية، وهنا تعالو لنسأل أين راهنية سعاده في قانون الزواج المدني الأختياري مثلاً، مجرد مشروع صغير جداً في دروب العمل القومي، ما مصيره ما مآله؟
المشكلة الأكبر التي تواجه هذه التعويل على الراهنية، هي عقمها عن استجلاب المناصرين والمؤيدين والمتعاقدين، ليس بصفة شخصية طبعاً، فهذه ذابت مع بداية عصر الإتصالات، بل بصفة تيار مجتمعي له مكانته، وواجباته تجاه متحده، إذ لا ينفع حضوره المساير للقوى المتخلفة، المانعة لوجود المساواة، على التعويل على استراتجيا مختلقة أسمها “لا يصح إلا الصحيح”، فماذا لو الصحيح صح على يد داعش بإكتشافها سوريا الطبيعية كمكان لدولتها المتوحشة؟ أوليس هذا إثبات لراهنية سعاده؟
الراهنية وحدها لا تكفي، فالرجل كان على حق وصواب في آن معاً. وتراثه موجود واضح ومعلن. أما المطلوب فهو الشروع بالعمل على القضية القومية نفسها.