نحن و”الأنَاوات” والفساد
Share
الفينيق
لا يكاد يخلو موقع من مواقع التواصل الاجتماعي الخاصة بأبناء شعبنا من وصف لحالة او أكثر من حالات الفساد التي تعاني منها بلادنا من العراق الى المتوسط ومن طوروس إلى سيناء. لقد آلينا على أنفسنا يوم أسسنا الفينيق ان نعرض لمشاكل أمتنا وأن نساهم في تقديم الحلول لها. ولتقديم الحلول المناسبة لأزمة الفساد لا بد من فهم تركيبته منشأ ونمواً واستمراراً. من هنا، فإننا لن نكتفي بوصف حالات الفساد بل سوف نقوم بتحليل جذوره والأعمدة التي يقوم عليها بنيانه، ونفتح الباب واسعا للقراء لكي يساهموا في تقديم الخطوات العملية التي يمكن ان تقوض هذا البنيان.
مصدر الفساد هو النزعة الفردية الطاغية التي تستحل كل شيء في سبيل إرضاء نزواتها ورغباتها التي لا تشبع. في النزعة الفردية ليس هناك من “نحن”. هناك “أنا” مضخّمة خُلق العالم لخدمتها. وهذه “الأنا” ليست فرداً واحداً، ولا جماعة. إنها مجموعة من “الأناوات” تتآلف حينا وتتحارب أحيانا. ولكنها كالمنشار الساروق، تأكل من لحمنا في تآلفها واحترابها.
من هذه “الأنا” يُشيّد بنيان الفساد على عدد من الاعمدة الصلبة أهمها التشريع، والأمن، والقضاء، والمصارف و… المواطن الساكت. فالسياسيون الفاسدون يشّرعون بما يخدم نفوذهم ونفوذ الدائرة الضيقة من أصحاب الرساميل والاعمال على حساب موارد الحياة وحق المواطن في الحياة الكريمة. والقضاء الفاسد يحمي السياسيين الفاسدين من القانون. والجهات الأمنية الفاسدة تقمع الشعب حماية لهم من غضبه. والمصرفيون الفاسدون يهندسون سياساتهم المالية المتفقة مع التشريعات الفاسدة أساسا، بما يضمن تضخّم ثرواتهم على حساب صغار المودعين. والمواطن الساكت يدعم كل هؤلاء بصمته وخنوعه.
ويمكن لنا أن نضيف إلى هذه الأعمدة عمودين آخرين هما الاحتلال والمذهبية. فالمحتل يأتي بفاسد لا ذمة لديه حاكما واجهة خاضعا لإرادته. أما مع المذهبية، التي يتطلى وراءها الفاسدون، فتصبح محاربة الفساد اعتداء على الطائفة أو المذهب، والويل لمحاربي الفساد من غضب الطائفة والمذهب.
إنها دائرة تبدو مغلقة وعصية على الاختراق. نقول تبدو لأن العامل الوحيد القادر على اختراقها هو المواطن العادي، أنا وأنت، نحن. عفوا، عبارة استدراك، أنا وأنت، لم نصبح “نحن” بعد، إننا مجرد أنا وأنت.
هذا التمييز مهم. فالنزعة الفردية ليست حكرا على أعمدة الفساد آنفة الذكر. فهل يمكننا أن ننفي، بصدق، أننا في شكل عام لسنا سوى مجموعة “أناوات” أخرى ولكن مغلوب على أمرها؟ هل يمكن ان ننفي أننا لسنا “أناوات” تقف خارج جنة الفساد تنظر بحسرة إلى داخلها حالمة بالدخول إليها؟
بداية الخروج من دائرة الفساد هي في الاعتراف بأننا مصابون بلوثة النزعة الفردية وان الشرط الضروري لإنهاء الفساد هو خروجنا من هذه “الأناوات” إلى “نحن”. ولكن إي “نحن”؟
لا بأس، بل سيكون مفيدا جدا لنا، جميعا، ان نحدد ما نقصده بـ “نحن” مستعينين بذلك بما تركه لنا مؤسس فكرة الوجدان القومي، أنطون سعاده، في وصفه لشخصية الجماعة، حيث يقول في مقدمة كتاب نشوء الأمم:
“… إنّ هذه الشّخصيّة مركّب اجتماعي ـــــ اقتصاديّ ـــــ نفسانيّ يتطلّب من الفرد أن يضيف إلى شعوره بشخصيّته شعوره بشخصيّة جماعته، أمّته، وأن يزيد على إحساسه بحاجاته إحساسه بحاجات مجتمعه وأن يجمع إلى فهمه نفسه فهمه نفسّية متّحده الاجتماعيّ وأن يربط مصالحه بمصالح قومه وأن يشعر مع ابن مجتمعه ويهتمّ به ويودّ خيره، كما يودّ الخير لنفسه.”
أن يضيف وأن يزيد وأن يجمع وأن يربط وأن يشعر وأن يهتم، كلها كلمات تعني اللُحمة، ولكن أهمها على الإطلاق هي “ان يودّ الخير لابن مجتمعه كما يود الخير لنفسه”. إنه الرادع الأخلاقي والوجداني الأول في محاربة الفساد. إنه الرادع الشخصي.
من هذه المقدمة، وتأسيساً على مفهوم الشخصية الاجتماعية، تعلن مجلة الفينيق أنها قررت درس وسائل محاربة الفساد بما يعطي نتائج حسيّة. وأنها إذ تفعل ذلك تفتح الباب للقراء الكرام لكي يساهموا في هذه الدراسة عبر أفكارهم ومقترحاتهم. نحن لا نريد وصفا نضيفه إلى أوصاف، بل نريد ان نعرف كيف نهدم أعمدة الفساد آنفة الذكر؟ كيف نسترد المال العام المسروق؟ وكيف نصل إلى محاسبة الفاسدين ومعاقبتهم؟ هذا ما نريده، وهذا ما نعتقد ان الناس يطمحون اليه.