مفكرون من جزر الواق واق
Share
نزولاً عند نصيحة الأطباء في منطقتنا، المطلوب من الذين بلغوا سن التقاعد أن يلزموا بيوتهم، ويقتصروا على الضروري فقط إذا ما أرادوا الخروج إلى الحياة العامة. وفي الواقع هي أوامر طبية تأخذ شكل “النصيحة” كنوع من عدم جرح مشاعر الذين بلغوا من العمر عتياً… أمثالنا.
هذا الحجر المنزلي رتيب وممل بعد أن طالت موجة الوباء، ولا تبدو في الأفق بوادر نهاية لها. وزاد الطين بلة أن منظمة الصحة العالمية، التي نعتمد عليها ونثق بها، صرّحت على لسان رئيسها قبل أسابيع بأن الوباء ستتم السيطرة عليه بحدود سنتين. فما عاد أمامنا سوى الصبر الجميل والتمثل بالقول الشعبي المأثور: عيش يا كديش!
لكنني أملك سلاحاً سرياً لقهر الرتابة والملل، ريثما يتحقق ما تتوقعه منظمة الصحة العالمية. في مكتبتي الخاصة أكوام وصناديق تحتوي قصاصات وبيانات وكتيبات (لاحظوا أنني تجاهلت الكتب)، وقد تراكمت على مرّ السنين لأنني أريد العودة إليها في الوقت المناسب. ويجب الاعتراف الآن بأن ذلك الوقت المناسب ما كان له أن يهل عليّ لولا جائحة الكورونا والعزل المنزلي وأوامر الطبيب الديكتاتورية.
بات من الواضح الآن أنني أقضي معظم ساعات الرتابة والملل بين الأوراق والكتب وجهاز الكومبيوتر. قبل أيام وجدت في إحدى الزوايا صندوقاً لم يرَ نور الشمس منذ عشرين سنة تقريباً. فيه كتيبات متنوعة باللغتين العربية والإنكليزية، لفت نظري منها سلسلة صدرت سنة 1997 عن “منتدى عبد الحميد شومان الثقافي” في عمان. وهي تتضمن محاضرات لبعض المفكرين، استضافهم المنتدى شهرياً. وكان يدير اللقاء شخصية أكاديمية، وبعد كل محاضرة نقاش وتعليقات لعدد من الباحثين والأكاديميين.
المحاضرة الأولى كانت مع “المفكر الدكتور” أحمد صدقي الدجاني، وصدرت في أيلول سنة 1997 تحت عنوان “الأمة والهوية”. ولا يُخفى على القارئ اللبيب أن هذا الموضوع يحتل مكانة مركزية في صميم اهتماماتنا القومية الاجتماعية. كما أنه من الصعب تصور حدوث نقاش علمي لمفهوم الأمة ومفهوم الهوية من دون العودة، سلباً أو إيجاباً، إلى ما جاء به أنطون سعاده في مطلع ثلاثينات القرن الماضي. وللتذكير فقط، نشير إلى أن أبرز منظري الفكر القومي العربي أكدوا مراراً وتكراراً بأن أفكار سعاده في الشأن القومي تشكل قاعدة أساسية لبناء النظرية القومية بصورة عامة… حتى ولو اختلفوا في الغاية النهائية!
نعود إلى المحاضرة للتعرف إلى المشاركين: المحاضر أحمد صدقي الدجاني عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. مديرة اللقاء ليلى شرف الوزيرة الأردنية السابقة وخريجة الجامعة الأميركية في بيروت. وللنقاش كل من: الدكتور علي محافظة أستاذ التاريخ في الجامعة الأردنية، الدكتور أحمد ماضي أستاذ الفلسفة في الجامعة الأردنية، الدكتور إبراهيم عثمان أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأردنية.
لا شك عندي على الإطلاق في أن ليلى شرف، التي عاشت ودرست في بيروت، تعرف ولو الحد الأدنى عن الفكر القومي الاجتماعي. لكنها مجرد مديرة للقاء وليس من مسؤوليتها التدخل بهدف التصويب أو لفت النظر إلى الحقائق المخفية. كما أن المحاضر نفسه يملك الحرية الكاملة في إبراز ما يعجبه وتغييب ما لا يلقى هوى في نفسه. لذلك صال الدجاني وجال في مفاهيم الأمة والهوية، من دون أن يشير ولو بصورة عابرة إلى شروحات سعاده في الشؤون القومية. وهذا من حقه، طالما أنه مسؤول عن كلامه.
لكن ماذا عن لجنة المناقشة المكونة من ثلاثة أساتذة جامعيين، في الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع؟ هل يُعقل أن تغيب عن أذهانهم (الأصح عن ألسنتهم) الحقائق العلمية في حوار فكري على هذا المستوى؟
نعم يُعقل!
لم تصدر عن هؤلاء الدكاترة أية إشارة إلى آراء سعاده في الهوية والقومية ونشوء الأمة. وما كنت لأقف طويلاً عند هذا الكتيب، لولا ما قاله الدكتور أحمد ماضي في مداخلته: “أذهب إلى أن العرب المعاصرين لم يولوا الأمة والهوية الاهتمام اللازم. وقد يفسر ذلك بأنهما من المفاهيم البدهية من وجهة نظرهم، علماُ بأنهما ليسا كذلك. وأظن أن الماركسيين العرب هم الذين اهتموا بموضوع الأمة متأثرين بتعريف ستالين لها. وأذكر بهذا الخصوص كتاب “الأمة العربية” للدكتور سمير أمين، وكتاب “قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري”. وفي المجال الأكاديمي التاريخي اذكر كتابين للدكتور ناصيف نصار هما : “مفهوم الأمة بين الدين والتاريخ” و”تصورات الأمة المعاصرة: دراسة تحليلية لمفاهيم الأمة في الفكر العربي الحديث”، وكتاب الدكتور عبد العزي الدوري : “تكوين الأمة العربية”.
يؤسفني القول إنني لم أقرأ من قبل نصاً تقريرياً بهذا الحجم الصغير يحتوي هذا الكم الكبير من المغالطات المقصودة. فالدكتور ماضي يبدأ بخطوة أولى عرجاء، فإذا به يتعثر بكل خطواته التالية. هو يزعم بكل ثقة “أن العرب المعاصرين لم يولوا الأمة والهوية الاهتمام اللازم”! ترى هل كان سعاده الذي قامت فلسفته على قاعدة الوعي القومي ينتمي إلى عالم آخر وزمن غير زمننا، بحيث أخرجه الدكتور ماضي من “العرب المعاصرين”؟
تُظهر لنا الفقرة المذكورة أعلاه أن هذا الأستاذ الجامعي المسؤول عن “تثقيف” أجيال من الشباب، إما أنه لم يسمع بسعاده (وهذه مصيبة معرفية) أو أنه تجاهله عن سابق تصور وتصميم (وهذه مصيبة مناقبية أشد وأدهى). ونحن نعتقد بأن الاحتمال الثاني هو الأرجح، ودليلنا في ذلك أن الدكتور ماضي يستشهد بكتب الدكتور ناصيف نصار. وأي قارئ لتلك الكتب يعرف أن أفكار سعاده مطروحة للنقاش في معظم مؤلفات الدكتور نصار.
وهنا نلقي السؤال المُحرج: لماذا تجاهل الدكتور ماضي أفكار سعاده؟
قليل من البحث في الإنترنت، مع بعض الاتصالات الهاتفية… وبات عندنا الخبر اليقين: الدكتور ماضي درس في الأتحاد السوفياتي بمنحة من الحزب الشيوعي. إذن تكشفت الأسباب وانفضحت النوايا. لكن ماذا عن الآخرين، ما هي مبرراتهم في التغييب المتعمد لأهم مفكر معاصر كتب في مسائل الهوية والقومية والأمة؟
لا شك عندي في أن “المفكرين” الخمسة المشاركين في المحاضرة هم على معرفة نسبية بأفكار سعاده في موضوع “الهوية والأمة”. لكنهم اختاروا التجاهل والتعمية إنطلاقاً من مواقف مسبقة هي نقيض البحث الأكاديمي الحر. إنها حزازات الصدور التي تعمي البصر والبصيرة… وهذه لا علاج لها ولا لقاح، تماماً مثل جائحة الكورونا!