مشاهدات وحوادث في سوريا أسوريا: حتى متى هذا السكون؟-روز أنطون حداد
Share
روز أنطون حداد كاتبة سورية نهضوية، بدأت نشاطها الصحافي في مصر سنة 1903. وهي شقيقة المفكر النهضوي فرح أنطون وزوجة الصحافي والروائي نقولا حداد الذي أشار إليه أنطون سعاده في مقدمة كتاب “نشوء الأمم”. المقال المنشور هنا هو واحد من سلسلة نشرتها روز في مجلة “السيدات والرجال” بعد زيارة مطولة إلى سوريا سنة 1924.
لما كنا في مدة الحرب نسمع أخبار الظلم في سوريا، كنا نقول: مساكين السوريون ما أصبرهم على البلايا! يتحملون هذا الضيم بسكون وهدوء. وقد سمعنا من أخبار ضيمهم ما لا يكاد يصدق، فكان في فظاعته مضرب المثل. ولم يقم من الشعب شخص واحد يقطع خيط ذلك السكون ويرفع صوته بكلمة تذمر أو شكوى. وكنا نعلل هذا السكون المطلق بقولنا: إنه شعب بسيط ساذج ليس له قوة ولا معرفة يمكنه بها أن ينقذ نفسه.
ثم انتهت الحرب وانجلت عن نتائج الويلات التي حلت بالبلاد. فالبيوت تدمرت والأعراض انتهكت والنساء ترملت والرجال قتلوا أو نفوا والشعب برمته صامت خانع، فكأن البلاد كانت خلواً من السكان.
إنقضى ذلك الظلم وانتهى ذلك الجور، وخفقت الراية المعروفة براية الحرية فقلنا: حانت الساعة وجاء اليوم المنتظر يوم الفرج يوم ينكسر عمود السكون. فإذا بنا نرى جيوش المطامع تهجم وكل من كان ذا مطمح برز للميدان. وإذا النفوس لا تزال في ذلها والقلوب في صغارها والشعب في صمته لا يتكلم، ونحن نفسر هذا بقولنا: إن البلاد، والحمد لله، في أمن وسلام لم تشهد مثلهما في حياتها ــ أجل إن مدافن البشر كلها دور أمن وسلام، فإذا كان السكون المطلق يعد أمناً وسلاماً فبئس حياة لا يكون سلامها إلا موتاً.
أسوريا! إلى متى هذا السكون، بل هذا الموت؟
بحثنا عن عيوبنا تلطيف لفضيحتنا
اكتشف بكتريولوجي أن مياه بلده الصحي ملوث بميكروب مرضي خبيث. فإذا أذاع اكتشافه هذا جفل الأغراب الذين يقصدون إلى بلده للاستشفاء بمياهه المعدنية وانقطع مجرى الرزق عن أهل البلد الذين يتعيشون بما يكتسبونه من معاملة أولئك الضيوف. وإن بقي كاتماً هذا السر تعرض هؤلاء الضيوف لخطر المرض. على أن الذمة قضت عليه أن يفشي السر مهما ساءت العقبى على بلده.
ربما كان هذا موقفي الآن تجاه أمتي السورية. فإني أرى أن حديث مشاهداتي يسوقني بالرغم مني إلى موضوع ممقوت يمكن أن يحسب فضحاً لعيوب فينا أو بالأحرى تشخيصاً لأمراض قائمة في حياتنا الاجتماعية. فإن أغضينا النظر عنها وأغفلنا أمرها أودت بحياتنا، وإن بسطناها كنا نفضح أنفسنا بأنفسنا. ولكن الذمة والغيرة الوطنية تقضيان علينا باحتمال الفضيحة بغية الاستطباب من الأمراض.
وإذا كان الطبيب المعالج يشعر أنه يخدع عليله إذا كتم عنه خطر مرضه لئلا يستخف العليل بنصائحه، فجدير بنا نحن أن نبحث عن أمراضنا ونتحققها حتى نعلم أخطارها فنتوقاها. لذلك أشعر أن اقتصاري على بيان ما في البلاد من وطنية ونهضة وآمال بالشبيبة ورجاء بالناشئة وسكوتي عما فيها من عيوب ونقائص وكل ما هو من باب اللاوطنية، يعدان خداعاً أو تضليلاً بل قد يحسبان عليّ تمليقاً ورياءً.
فالحقيقة يجب أن تقال مهما كانت جارحة. ولا سيما لأننا نعتقد أن السواد الأعظم من أهل البلاد يحسنون الظن بما نكتبه من هذا القبيل.
مرض الزلفى
ويسوؤني جداً أن أقول إن مظاهر اللاوطنية وشواهدها كثيرة في البلاد، بل هي غالبة على مظاهر الوطنية. فأجملها في بعض مواضيع رئيسية. وربما عدت الزلفى والتملق والرياء من أهم هذه المظاهر اللاوطنية.
ومن أمثلة ذلك أن بلدية إحدى القرى أو المدن الصغيرة ــ ولا نسميها ضناً بكرامتها ــ تجمّع في صندوقها مبلغ من المال. فتباحث أعضاؤها في وجه لإنفاق هذا المبلغ واقترح بعضهم أن ينفق على إنارة البلدة. وعارض البعض الآخر وطلب أن يبقى المبلغ في الصندوق ينفق على الزينة يوم يشرف الحاكم البلد بزيارة. وأخيراً تغلب حزب الزينة على حزب الإنارة.
فهل وطنية أردأ من هذه؟ يؤمن أفراد على مصالح البلد فيبددون مال البلد في سبيل تبييض وجوههم أمام الحاكم تزلفاً إليه واستعطافاً لرضائه عليهم شخصياً. ما هذه “لا وطنية” فقط بل هي خيانة.
وأتأسف أن أقول إن اندفاع الأهالي في التزلف والاستعطاف للحاكم بكل وسيلة ولو دنيئة لا مثيل له في بلد في العالم. وإسرافهم في الزينة والحفاوة لهذا الغرض أثقل جداً مما تحتمله حالتهم الاقتصادية. والغريب أنك فيما تراهم يشكون من سوء الحالة الاقتصادية العمومية وكساد التجارة ووقوف الحركة، تراهم ينفقون بإسراف في سبيل تكريم الحاكم وأصحاب النفوذ والحفاوة بهم.
هذا ناهيك عن التزلف “الثعلبي” الذي ينزح ماء الحياء من الجبين. فقد رويت لي حكايات من هذا القبيل لا تكاد تصدق لما فيها من بذل الشرف وقتل الإنفة وإذلال عزة النفس.
فبين تزلفنا وتملقنا تتضعضع حقوق الأمة والبلاد وتذهب قواها هدراً وتستحكم فيها أيدي الأجنبي. ومن ثم نصيح ونصخب أن الأجنبي اغتصب بلادنا.
معول البذخ الهادم
وربما عد الإسراف المستحكم الآن في البلاد أفظع “لا وطنية” من الزلفى. فلقد دهشني البذخ الذي شاهدته فيها حتى يتراءى لي أن البلاد في غنى ويسر يفوق غنى وادي النيل بل غنى أميركا، وأن الخير يتدفق عليها تدفق البحر على البر. وعهدي بسوريا خارجة من الحرب أفقر من الفقر ــ فعلى مَ هذا البذخ إذاً؟ ومن أين المال لهذا الإسراف والناس يهاجرون البلاد لضيق الحال فيها؟
ولست وحدي مدهوشة من جراء هذا البذخ بل الإفرنسيس الذين يقيمون الآن في البلاد مدهوشون كل الدهشة منه، لأنهم مهما بلغت سعتهم ووفر الخير لهم في بلادهم أو خارجها لا يسرفون هذا الإسراف. ولذلك يظنون أن في البلاد أموالاً كثيرة. وربما كان هذا الظن من أسباب تثقيل الضرائب وإغداق الماهيات الوافرة للموظفين والموظفات أيضاً.
والراجح في ظني إن لهذا البذخ المجاوز الحدود سببين أساسيين: الحرص على الكرامة والنفوذ بواسطة هذه الفخفخة الفارغة. الثاني تفشي داء التشبه بين القوم.
أما الأول فيدل على نقص كبير في الشخصية الحقيقية إذ يحاول الباذخون أن يكملوه بهذه المظاهر المموهة. وأما الثاني فيدل على ضعف نعرة الاستقلال الشخصي في الأنفس. فكأن الشخص الواحد لا يعتقد بصحة رأيه ولا بحسن ذوقه ولا بحقيقة مركزه فيقلد غيره، وأخيراً تنتهي سلسلة التقليد والتشبه باقتباس أزياء الأجانب وعاداتهم من غير تمييز بين صالحها وطالحها. وأرجو من القارىء والقارئة أن يعذروني إذا قلت أن الغلو في هذه التشبه “ولدنة أطفال” لا تعقل رجال.
تداركوا صناعة البلاد قبل موتها
ولقد شاهدت في البلاد منسوجات حريرية وصوفية وقطنية أيضاً تصلح جداً للسيدات والرجال وتليق لأي الأزياء، ولها مزية المتانة فضلاً عن مزية الرخص. فالإعراض عنها والتهافت على المنسوجات الأجنبية ليس أنه “لا وطنية” مخجلة فقط بل هو غرور بالغ إلى حد الجنون.
وما يقال عن المنسوجات يقال أيضاً عن كثير من المصنوعات الأخرى من أحذية وأثاث ورياش إلخ. والعكوف على هذه المصنوعات الوطنية لا يحتاج إلا لقليل من تهوس بعض الوطنيات المعدودات قائدات حتى إذا ظهرن في لبسهن وفي رياشهن بالمنسوجات والمصنوعات والأزياء الوطنية أصبح ما ظهرن به “موضة” وما غايره شاذاً مخالفاً للمألوف. أفلا يوجد في البلاد بضع منهن يقدمن هذا الإقدام مرة فقط؟ والعبرة الخطوة الأولى.
في البلاد صناعات نافعة جداً وتغني عن كثير من المصنوعات الأجنبية التي أصبحت كالعلق تمتص الآن دم حياة البلاد. ولكنها واأسفاه أصبحت كاسدة بل أغلقت مصانعها ولم يبق إلا آثارها. فكان كسادها سبباً في ضيق حال العمال ومهاجرتهم البلاد مئات وألوفاً.
على أن إحياء هذه الصناعات يستلزم أمرين ليس أسهل منهما على أهالي البلاد إذا حلت فيهم الإرادة محل الغرور: الأول الامتناع ما أمكن عن المصنوعات الأجنبية والإقبال على المصنوعات الوطنية حتى ولو كان في هذا شيء من التضحية ــ ولو تعرفون كم يضحي الإنكليز والإفرنسيس والألمان إلخ مثل هذه التضحية حباً بوطنهم.
الثاني أن يهتم المتمولون والتجار في البلاد بإحياء هذه الصناعات بتنظيمها وبتثمير المال فيها.
بهذين الأمرين تشفى البلاد من فقر الدم الذي استحكم فيها وكاد يسل روحها من جسدها. هذه أعظم وطنية تظهر بها البلاد. وبهذه الوطنية تشرى البلاد أول شراء.
عالجوا مرض الكسل
وقد أشرت فيما تقدم إلى الكسل الذي جاء على الإسراف والتهافت على المصنوعات الأجنبية مكللاً لهامة إله التدمير. أجل إن هذا الكسل أو التقاعد عن العمل لغريب أمره في سوريا التي عرف أهلها بالنشاط والهمة والنخوة. والأعجب أن يصبح هذا الكسل داءً عقاماً فاشياً في البلاد كأنه الوباء.
على أن سببه واضح وهو قلة الأعمال بسبب كساد الصناعات والمتاجر أيضاً. والكسول يعدي جاره أو صديقه كسلاً ويلهيه بلهوه عن العمل حتى متى فرغت يد العامل من المال بتاتاً ولىّ وجهه باب المهاجرة الواسع ــ وهو باب خراب البلاد.
فعلاج هذا الداء ليس في أيدي الكسالى، إذ لا علاج في يد مريض، بل هو في يد المتمولين في البلاد من ذوي أملاك وتجار. وإذا كان هؤلاء المتمولون لا يهتمون بمعالجة هذا المرض ــ مرض الكسل أو العطلة ــ من قبيل الوطنية التي تستغيث بهم أولاً، فعليهم أن يهتموا من قبيل مصالحهم الخصوصية. لأنه إذا استمرت الأيدي العاملة تهاجر البلاد كلما نضبت من العيش، أصبحت أملاك الأغنياء المالكين بلا عمال يشتغلون فيها وكسدت حاصلاتها إذ قل من يستهلكها. وكذلك أصبحت متاجر التجار هباءً لأن جانباً من مروجي حركة الأخذ والعطاء نزحوا. فعمران البلاد يهم المتمولين والملاك أكثر مما يهم العامة. وتقاعد هؤلاء المتمولين يجر الخراب عليهم أولاً.
فترى مما تقدم بكل أسف أن داء الكسل مستحكم بكبرائها قبل صغرائها. والكل لاهون في ترفهم وقصفهم وبذخهم وقمارهم وطربهم ومرحهم كالمحموم الذي جعلته الحمى يهذرم ويهذي ويطفر مرحاً ظاناً أنه في فرح وهو على شفا الخطر من الردى.
سكون قادة الأمة
لقد تألفت شركتان أو مصلحتان للنقل السريع بالسيارات بين سوريا والعراق. أليس مخجلاً أن تكون إحدى المصلحتين إنكليزية والأخرى فرنساوية، وأولئك المتمولون السوريون لاهون بمفاخرة بعضهم بعضاً بالقصف والترف كما تفاخر الزيزان والنملات بالقصائد؟ فقد يمرُّ ربيع الخير فتجد الزيزان أنفسها خالية من زاد الخريف والشتاء، فإذا ذهبت إلى النمل تستجدي منها أو تستعير طعاماً قالت لها: كلي من القصائد التي كنت تغنينها في أيام الحصائد. كذا تقول الشركات الأجنبية يوم تستحوز على ثروة البلاد وحين يتزاحم أهل البلاد متوسلين إليها أن تمنحهم فضلة مسترزقاتها لكي يتعيشوا.
في العام الماضي ورد إلى إدارة المجلة كتاب من كبير من كبراء دمشق ومما جاء فيه قوله:
“… تأثرت جداً… لسبب واحد وهو فشلي في تأسيس شركة المنسوجات الوطنية حيث عدت في آخر يوم عقدت فيه الجلسة الأخيرة التي انحلت فيها الشركة قبل أن تتأسس… وعزمت على أن انقطع في إحدى القرى وابتعد عن ضوضاء هذا العالم…”.
والمفهوم جيداً من هذا الخطاب أن كاتبه متقد غيرة وطنية. ولكن لهيب وطنيته لم يستطع أن يتغلب على ثلوج اللاوطنية المتناثرة عليه من حوله فأطفأته، حتى أنه فضل أن ينزوي في إحدى الضياع متألماً من استفحال اللاوطنية في البلاد.
لا اعتدال في الوطنية
على أن هذا الانزواء لا يعد نجاةً من مسؤولية الوطنية، بل بالأحرى يعد “لا وطنية”. وهذا الوطني الكبير لا يقدر أن ينتحل عذراً البتة في اعتزاله العمل مهما كثر اللاوطنيون من حوله وتغلبوا عليه. واعتزاله الجهاد لا يعد تجنباً للانكسار، بل يعد انحيازاً إلى جانب اللاوطنيين وهو شر من الانكسار. ذلك لأنه لا وسط في الوطنية.
الوطنية المعتدلة والوطنية المتطرفة
وهنا يسوقني الحديث إلى موضوع ذي شأن كثيراً ما طرقته الألسنة أمامي وهو “هل في الوطنية اعتدال”؟
كثيراً ما سمعت القول أن فلاناً وطني معتدل وفلاناً وطني متطرف. وإلى الآن لم أفهم ما الفرق بينهما: لا أدري كيف يكون الوطنيون درجات، ولا أقدر أن أتصور نفسي أو غيري إلا أحد شخصين أما وطني أو “لا وطني” ولا وسط بينهما. فمن لم يكن متطرفاً في الوطنية كان “لا وطنياً” إذ لا اعتدال في الوطنية.
إن الوطنية كما تعلمناها من الأمم الحرة وكما درسناها في تواريخ الشعوب المستقلة تقضي أن يبذل الوطني حياته لأجلها. ولما كان لا مطمع بعد الحياة، والحياة هي منتهى المطامع، فمهما عمل لأجل الوطنية لا يعد تطرفاً. وإنما أي تقصير في العمل لأجل الوطن يعد “لا وطنية”. لهذا لا معنى للقول “بالوطنية المتطرفة” و”الوطنية المعتدلة”، إذ لا وسط بين الوطنية واللاوطنية.
وإنما أنبه إلى التهور في دعوى العمل لأجل الوطن ــ وأعني به التهور الذي يؤذي الوطن. فهذا لا يعد وطنية بل رعونة عمياء. ولا تصح دعوى الوطنية إلا حيث ارتكزت على التعقل مع الاستعداد للتضحية النافعة.
فلذلك نعود إلى موضوع “الفشل” الذي شكا منه الوجيه الدمشقي، ونقول إن الفشل ليس سبباً كافياً لقتل الوطنية. فما دامت هناك غيرة وإرادة فاستئناف الجهاد واجب والتخلف عنه ضعف و”لا وطنية”. والفشل مرة أو بضع مرات ليس دليلاً على العقم. وكثير من الأعمال التي تمت مرّت على عدة ضروب من الفشل وعلى عديد من مختلف التجارب والامتحانات. والظاهر أن “الفشل” في شرقنا داء “كالكسل”، وقانا الله جائحة الدائين.
حزيران 1924