ما بدي خوّفكن…ولكن-الفينيق
Share
مقابلة جورج غانم مع مرسيل غانم عن الحراك الشعبي في لبنان مثيرة للاهتمام. إنها تقدم عرضا معقولا للأحداث مبنيا على استقراء أحداث تاريخية تصل به إلى نتيجة مفادها، “ما بدي خوفكن … ولكننا أمام تباشير حرب أهلية.” لن ندخل في مناقشة السرد التفصيلي للمقابلة بل ما يضعه السيد غانم من منطلق للحراك والوضع الإقليمي والدولي. فعلى هذين الأساسين يبنى مطالعته ويتوصل إلى النتيجة آنفة الذكر.
يقيم السيد غانم المقارنة بين انفجار الحراك المطلبي في لبنان سنتي 1972 و1975، كمدخل للقضاء على سلاح منظمة التحرير الفلسطينية الذي كان مُستهدفا إقليميا ودوليا آنذاك، مع انفجار الحراك المطلبي اليوم، وسلاح حزب الله المستهدف هو الآخر إقليميا ودوليا، ليصل إلى تحذير من حرب أهلية “يرى تباشيرها.” صحيح أن هناك أوجه شبه عديدة بين ما حدث قبل الحرب الأهلية سنة 1975 واليوم، ولكن هناك أوجه اختلاف عديدة يجب النظر إليها قبل استخلاص النتائج.
الفارق الأول أننا نعتبر أن الشعب في لبنان قد تعلم من تجربة الحرب الأهلية. لا ننفي وجود رؤوس حامية بين بعض التنظيمات الطائفية التي تَحِنّ إلى حربٍ كانت من قوادها أو مستفيدة من مآسيها. ولكننا نعتقد ان هذه الرؤوس هي أقلية بين أقليات وأن الناس تنبذها. حديث أسامة رحباني مع MTV نموذجا. هناك أقلّيتان من أقلّيات لبنان قد نزفتا كثيرا بعد الحرب الأهلية اللبنانية بحيث أن حجمهما السياسي لا يتفق مع قوتهما العددية، بل أصبح هذا الحجم مرهونا باتفاق الطائف. أية مغامرة عسكرية قد تكون نهايتها وخيمة على كليهما.
الفارق الثاني، هو تجربة حزب الله نفسها بالمقارنة مع منظمة التحرير الفلسطينية. إن فلسطين هي أرض قومية بالنسبة لنا، ولكن الفلسطينيين لم يكونوا يقاتلون في متحداتهم الفلسطينية، بل من الجنوب اللبناني. لقد حدثت أمور كثيرة بين تمركز منظمة التحرير في الجنوب، سنة 1969، وتاريخ الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982 أدت إلى نفور قسم كبير من الجنوبيين من منظمة التحرير. لقد بدأت عملية التحرير منذ ساعات الاحتلال الأولى، مع رصاصات خالد علوان، ودماء استشهاديي الحزب السوري القومي الاجتماعي وغيره من التنظيمات. ولكن الذين حرروا الجنوب سنة 2000 كانوا أهل الجنوب أنفسهم. ونحن لا نعتقد أنهم في وارد إدارة بنادقهم صوب الشمال، ولا في وارد الانصياع للإملاءات الغربية، ولا في وارد انتزاع سلاحهم.
منظمة التحرير – سنة 1975 – كانت منظمة فاسدة ومفسدة. كانت فاسدة في تحالفاتها العربية وفي اعتمادها على أموال الدول الخليجية التي كانت تريد إقفال ملف المسألة الفلسطينية. ومنظمة التحرير كانت فاسدة في تحالفها مع الإخوان المسلمين. وكانت فاسدة في إفسادها للعديد من رموز الحركة الوطنية اللبنانية وشراء ذممهم بالمال. منظمة التحرير كانت غبية في افتراقها عن الشام في مدريد وتوجهها إلى أوسلو، واعتبارها ان مفتاح حل المسألة الفلسطينية هو بيد الأمريكان.
حزب الله، بالرغم من تحفظنا الكبير على مذهبيته، التي يراها عنصر قوة، ونراها عنصر ضعف، يتعاطى بمستوى مختلف من المسؤولية مع حليفه الإقليمي، إيران، ومع حلفائه في الشام وفي لبنان.
الفارق الثالث والكبير هو تعثر مخططات الغرب في الشام نفسها، وهذه ناحية أغفلها السيد غانم بالكلية. لا شك أن الحرب التي خاضتها إسرائيل والغرب على الشام كانت متعددة الأهداف، ولكن أهمها كان تغيير النظام في الشام والقضاء على حزب الله. هذان الهدفان فشلا، وفشلت أدواتهما من داعش إلى النصرة إلى المليشيات الكردية وجميع من تحالف مع الأمريكان. ولهذا الفشل تبعات سلبية وإيجابية. السلبية منها، في تقديرنا، هو بعض ما نراه في لبنان لناحية زيادة الضغط الاقتصادي والاجتماعي أملا بضرب حزب الله. أما الإيجابية فهو أن ما حدث في الشام يفتح الباب أمام نمط جديد من العلاقة بين الشام ولبنان ربما هو المطلوب لإنقاذ لبنان من محنته.
الفارق الرابع هو في استهدافات الحراك. ليس التهديد هنا، كما كان يصوّر سنة 1975 موجها ضد “المسيحين” بل ضد الشعب اللبناني كله. وليس “المسلمون” هم الذين يطالبون بزيادة امتيازاتهم، كما كانت النغمة قبل الحرب، بل اللبنانيون كلهم يطالبون باسترداد ما سرق منهم عنوة. ولم يعد خوف المواطن اليوم من “عدوه” في الطائفة الأخرى، بل نقمته على سارقه لأية طائفة انتمى. الصراع اليوم هو بين السارقين والمسروقين. نقطة على السطر.
خامسا، من أهم مطالب الحراك تغيير النظام اللبناني. إن هذا النظام هو البيئة التي ينمو فيها الفاسدون كالفطر. بالتالي فإن الحراك يعي أن المطالبة باسترداد المال يجب ان يرافقه تغيير في النظام برمته. تغيير النظام لن يكون سهلا، ولكنه ليس مستحيلا. إن الطبقة السياسية والمذهبية المتحكمة بالبلد سوف لن توفر وسيلة لوقف الحراك. فإن نجحت، فإنها سوف تنكل بالقائمين عليه عبرة لمن اعتبر. إن هذا الصراع يجب أن يستمر حتى يحقق أهدافه المنشودة.
الوضع صعب، ونحن نضيف إلى ما تفضل به السيد غانم من صعوبات صعوبتين متعلقتين باسترداد المال المنهوب. الصعوبة الأولى هي أننا لا نشك لحظة ان معظم ثروات النّهابين موجودة اليوم في حسابات سرية داخل ملاذات ضريبية تحت أسماء شركات وهمية. ولمن يرغب بالاستزادة حول هذا الموضوع يمكنه مشاهدة فيلم The Laundromat. الصعوبة الثانية، هي أن الدول الغربية التي تمتلك القدرة على استرداد هذه الأموال لن تحرك ساكنا في هذا المجال. فالناهبون عملاؤها على مرّ عقود وهي لن تضحي بهم إلا مرغمة.
الوضع صعب، صحيح. ولكن في رؤيتنا أن من سرق المال العام عليه إعادته. فهذه مسؤوليته، ومسؤولية زوجته وأولاده وأقربائه وكل من انتفع منهم. كيف؟ نحن لا نظن ان الشعب الذي استطاع ان ينفض اثقال قرن كامل من العبودية لطبقة سياسية مذهبية مجرمة، سوف يعدم الوسائل الضاغطة على هؤلاء لاسترداد ما سرقوه.