في قلب الضباب
Share
قصة من تأليف الكاتبة الإيطالية آدا نيجري
ترجمة: حنان علي
رفعت ريموندا ياقة معطفها الضيق، لفّت شال الفراء حول رقبتها وأنفها، ثمّ زلقت يديها داخل الموفة، طأطأت هامتها لأسفل، لتنطلق كسبّاحٍ يُداهِم مياهًا راكدة. بشراسة شقّ الضباب طريقه، كمّم الوجوه وخنق الأنفاس. تلاشت هياكل المنازل ومنعطفات الشوارع، اندثرت تحت كتلة من الأبخرة في مشهد يفيض بالحلم! حلم مشؤوم محفوف بالمخاطر. سارع الدثار الناعم الكث من الضباب بطمر التصدعات، كاتمًا الأصوات، حاجبًا قامات الأمكنة. عربة نقل شاردة عبرت ببطء، مظللة المكان بأشباحٍ غامضةٍ في الظلام، لا نذير لعبورها سوى الأجراس المعلقة بأعناق الخيول. لكن! أيّ سعادة يخلقها الضباب لريموندا؟ أيّ ثقة ودرايةٍ بملامح الطريق!
ندوبٌ مروعة وشمت الجهة اليمنى من الوجه، منذ تعثرت فتاة العاشرة فوق جمراتِ الدار المتقدة. يا للمفارقة فالبنت الصغيرة جللها الزمن بفتنةٍ وبراءةٍ وعاطفة، وكأنّما أُبدعتْ لترتمي في أحضان الحب لولا نصف القناع المتغضن الملصق جانبًا والمشوه لابتسامتها بتنافرٍ لا يمكن ترميمه. إلا أنّ الابتهاج الفائض بروحها وحيويتها المفرطة، جعل العائلة والأصدقاء متيقنين من لامبالاتها بما ألمّ بمظهرها، فالوحش لا يشعر بمدى فظاعته! كم كانوا مخطئين! جميعهم عدا والدتها التي سبرت بمقلتي أمومتها كمّ الهشاشة بلبّ الابنة الضعيفة المترددة التي تحاول خداع نفسها لتهدئة خجلها وحزنها وحسرتها. لا حقيقةٌ تُحجب خلف الأصبع، فلا ريب أن الفتاة خارج سلوان النوم، بين أخطر المهام أو أبسطها، سواء كانت بمفردها أو محاطة بالآخرين، لم تقضِ لحظة واحدة من حياتها دون مكابدة قهرها الرجيم أمام النظرة الرهيبة لذاتها التي لا تجيد النفاق. لعله السبب بعدم احتفاظها بأي مرآة في غرفتها، أو الداعي لارتدائها قبعات مصنوعة من اللباد أو قلنسوات من القش اللين المتقوس بغزارةٍ فوق جبهتها. حتى الوشاح الصفيق المزخرف بالزهور، فشل بإخفاء آثار الندوب المريعة. جوف الليل ليس مترعًا بالكوابيس على الدوام، لكن وثبة مذعورة ما برحت توقظها بقلبٍ مرتعد، لتمضي اللحظات محدقة بالظلام بعينين غافلتين ووعيِ يقظٍ متوقدٍ بصورة وجهها. وأسفاه! ستأفل الظلال المحببة مع رحيل الليل، ليعود الضوء مع نظراتِ الشفقة أو السخرية أو اللامبالاة أو المراوغة القاتلة.
يمكن لبعض المآسي أن تقنص مخلوقًا مترعًا بالجمال والحيوية، مطارِدة إياه عازمة على قتله، قبل أن تغير رأيها فتتركه في التراب جسدًا هامدًا. لكن الطريدة الحرة، تحاول النهوض ببطء، سليمة معافاة، لتعود إلى الحياة جذلة باستعادة قوتها، متجرعة الطاقة والأمل كأن شيئًا لم يكن. مآسٍ أخرى؛ الصامتة منها، الصماء، الدؤوبة التي لا هوادة فيها تجتاح المرء كالسرطان، حيث لا مفر ولا خلاص.
يبدو أن ريموندا عاشت في هذه الولاية لتكشف عما لا يمكن إخفاؤه: العلامة على وجهها! العزلةُ ما كانت تشعر به، الإهانة من وصمة العار! الحاجزُ الهائلُ عن الجميع. لم يتناهَ لمسامعها طوال سنواتٍ أربع سوى همسات العشق بين رفاقها في المدرسة الفنية. بدا الأمر كما لو أن الفتيات الصغيرات محكوم عليهن بالمتعة وسط عفن المستودعات أو بين عبقِ الحبر في المكاتب. كل واحدة منهن، الغرّة كفاكهة فجة، لم ينبت بداخلها سوى الرغبة في الحب. بدا أنّ دراسة الحساب والرسم والفيزياء والقواعد ليست أكثر من حجج واهية لمواجهة مصاعب الحياة وتلبية إرادة أسرهنّ، بغية ارتشاف غرائزهن البضّة، مطلقين ألقاب مواربة لحاجتهن لتبادل العشق.
في وقت لاحقٍ، داخل ورشة التصوير حيث عملت ريموندا ككاتبة، لم تر شيئًا سوى الحب، أوهام الحب وخداع الحب. كانت البائعات بجفونهن المكحلة ورموشهن الطويلة، بضفائرهن المنسدلة بأسلوب عصري حول وجوههن، بملابسهن الأنيقة وكعوبهن العالية، لا يتوانين عن مغازلة شباب المكتب بدلالٍ واهتياج. في حين يحضر الرجال لأبوابهن في المساء، راغبين بمرافقتهن إلى المنازل. شرر متطاير وأمواج متضاربة خلقت جوًا خانقًا وساحرًا حول ريموندا المسكينة، المنزوية تمامًا عن أي ذبذبات مبهجة. بدت الفتاة مستسلمة مدركة أن قوانين الحياة الطبيعية لا تجري عليها، مخفية الإذلال والرغبة المهزومة والمرارة في داخلها كثعابين متلوية. مضت حد رغبتها بالتعامي، لعلّ الكمه يخفيها عن عيون الآخرين، كطفلٍ يخبئ رأسه خلف ذراعه. بل ذهبت أبعد من ذلك منشدة راحتها بالظل، في عباب الضباب الكثيف لأمسياتِ نوفمبر، هناك حيث تغرف إحساسًا حارقًا بالحرية والثقة بالنفس.
بوهجه الأحمر الباهت، جرح مصباح الغاز كثافة الضباب، كاشفًا عن المنعطف الملتوي من شارع فيا سولفرينو إلى طريق بونتاتشيو. انزلقتْ ريموندا بالقرب من الجدران، كاشطة الطوب بأصابع حيوية مطمئنة، حين همس صوت ذكوري خلفها:
آنستي…
لم تستدر متابعة السير الحثيث. فلم يتبعها أحد من قبل! لا أحد، حتى تلك اللحظة على الأقل!
آنستي…
كان الرجل يتبعها حقًا خطوة بخطوة، متمتمًا بكلمات مبعثرةٍ لطيفة. لأول مرة تصغي ريموندا لكلماتٍ مماثلة، أو لنقل! المرة الوحيدة! يا للصوت الرجولي المخملي الدافئ! رعدة ضربتْ أوتار حواسها.
بالتفاتة سريعة ونظرة جانبية، لمحت شابًا طويل القامة بملامح طمسها الضباب. لن يبصر هذا الغريب وجهها، ولن يصيبه الاشمئزاز مع رؤية نصف قناعها المشوه. حجابٌ كثيف، ضبابٌ خالد، ساعةٌ خادعة، جمال آنيّ للحظاتٍ مُثلى قد لا تتكرر مرة أخرى.
لم تقل شيئًا، تأملتْ: “دعيه يتكلم، دعي هذا المجهول يقترب، يمكنكِ الإحساس بأنفاسه المعطرة، برائحة سجائره على رقبتك”.
آنستي…
ما اسمك؟ تمهلي قليلاً. أخبريني ما اسمك الجميل.
آنستي …
لا رد مسموع: بالأحرى، إعلان عن موافقة وجلة. تباطأت قليلاً، وباضطراب رفعت يدها لإخفاء فمها وذقنها. انضم الضباب وفصلهما في الوقت نفسه. ظلال عابرة، أشباح سوداء خيالية في وهج مصابيح الغاز، سرعان ما ابتلعها الظلام. هاهي مدينة ميلان السفينة الهائلة الغارقة تجود لريموندا أخيرًا بإحساسِ الأوجاع الحلوة. كاشفة النقاب عن أنوثتها الحقيقية وقلبها المرتجف بفرحٍ صامتٍ خشية أن تنتهي الساعة الفاتنة النادرة. حين أدركت أن مائة خطوة فقط تفصلها عن باب منزلها في كورسو غاريبالدي، وبلحظة من عدم اليقين اتكأت بصمت على الحائط مرسلة لذاك المجهول دعوة بالتقدم. هرع الغريب بجذب الفتاة الصغيرة إليه، باحثًا بنهمٍ عن فمها، قبّلها عبر النقاب وبدهشة كبيرة أصابت الرجل، بادلته ريموندا القبلات. كانت تسرق الحب، نعم! أدركت لصوصيتها مستمتعة بلملمة أنوثتها المكبوتة، محررة ما خُزِّن في أعماقها من أحلامٍ ورغبات، من توقٍ إلى المودة، وتدفق للحب، من شبقٍ وشخصية سريّة ليس لها الحق في الوجود تحت ضوء الشمس القاسي. مع انفصال الشفاه الجائعة وتوقف القبلة السرمدية، شعر الرجل المذهول، المخمور، المنبهر بالفتاة الصغيرة تنزلق من قبضته كسحليةٍ تجرعتها الظلال. لم يحاول أن يتبعها، فمن الصعب التعرف على أي شخص على بعد متر واحد بخضم كتلة الأبخرة المتصاعدة.
حينما عثرت على مدخل المبنى ارتقت السلمٍ المتعرج المعتم. ثمّ قرعت جرس منزلها المتواضع. بقلقٍ استقبلتِ الوالدة طفلتها المشتتة الانتباه، المترنمة بصوتٍ مبحوح: “لن أشارككم العشاء الليلة.. رأسي يؤلمني.. أود أن أرتاح، آسفة ” ثم اقتحمت غرفتها مغلقة الباب. على فراشها في الظلام، بذراعين معقودين فوق صدرها وعينين جميلتين فاغرتين، تلوت ارتعدت، أعادت تذوق طعم القبلة الفريدة، ضحكت متكورة في فراشها، متوسلة للرب ألا يأخذ ذكرى تلك اللحظة.. ثمّ بكتْ!
في قلب الضباب: قصة مأخوذة من كتاب العزلة (Le Solitarie) المجموعة القصصية الأولى لـلكاتبة الإيطالية آدا نيجري، عن نساء مهمشات يكافحن بوجه الفقر والاستغلال والوحدة. كتبتُ القصة بالإيطالية ومن ثمّ ترجمت إلى الإنجليزية.