عصام المحايري.. مقاييس التقييم والحكم
Share
لا أزعم بأنني عرفت الأمين الراحل عصام المحايري عن كثب لفترات طويلة، مثلما عرفه آخرون من الذين كتبوا عنه وعن تاريخه، خصوصاً دوره في قيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي على مدى عقود. فما أن أُعلن خبر وفاته في دولة الإمارات العربية المتحدة حيث كان يقيم متقاعداً منذ سنوات، حتى ضجّت وسائل التواصل الاجتماعي بالتعليقات… الإيجابي منها والسلبي! وسبب عدم معرفتي المباشرة له يعود إلى أن نشاطي الحزبي لم يتقاطع مع قيادته الحزبية سوى في فترتين متباعدتين زمنياً وجغرافياً: الأولى في الوطن بين 1977 و1978، والثانية في المهجر البريطاني من 1987 حتى 1991.
كانت الجولة الأولى من الحرب الأهلية اللبنانية قد همدت سنة 1976 مع دخول “قوات الردع العربية” (القوات الشامية في الواقع) لضبط الوضع في ظل توافقات إقليمية وعالمية. يومها أُنتخب الأمين المحايري رئيساً لأحد جناحي الحزب المنقسم على ذاته، واحتفظ لنفسه بمنصب عمدة الدفاع وأصدر قراراً بتعييني وكيلاً لعميد الدفاع. وقد انتهت هذه المرحلة بخلاف في وجهات النظر حول الطريقة التي اتبعها لتحقيق “وحدة الحزب” بين جناحين كانت قد باعدت بينهما التحالفات والممارسات وبعض الاتجاهات المنحرفة عن العقيدة القومية الاجتماعية. غير أن هذا الخلاف بقي في سياق الاحترام المتبادل.
في أواخر سنة 1980 غادرت الوطن للعمل في لندن، حيث واظبنا على النشاط الحزبي كالمعتاد. وقد لعبت مديرية المملكة المتحدة المركزية دوراً حيوياً أثناء الغزو الصهيوني لبيروت سنة 1982. وأصبحت لندن صلة الوصل الأساسية بين مركز الحزب المتنقل في شتورا ودمشق وبين فروع عبر الحدود. وعندما أعلن الأمين المحايري سنة 1987 حالة الطوارئ الحكمية في الحزب، أصدر قراراً بتعييني مندوباً مركزياً لقارة أوروبا بصلاحيات رئيس الحزب (؟). وأنهيتُ شخصياً هذه المرحلة بشكل طبيعي عند مطلع التسعينات، بعدما تبيّن لي أن مركز القرار (أو مركز القوة) في الحزب، انتقل من الإدارة المركزية والمؤسسات الدستورية ليتركز بين أيدي القيادات العسكرية. وهكذا سيطرت الميليشيات المسلحة على مفاصل السلطة، مدعومة بانخراط بعض قياداتها في الحياة النيابية والحكومية في الكيان اللبناني.
ليس الهدف من هذه المقالة إصدار أحكام عشوائية متسرعة على القيادات الحزبية، وبالتحديد الأمين المحايري، خلال الفترتين اللتين كنتُ فيهما على تماس وثيق بمراكز القرار. فعملية التقييم الدقيقة سأتركها لمذكراتي التي قطعت شوطاً بعيداً في كتابتها. وكذلك لا أرغب في مجاراة الذين تنافسوا في تقييم الأمين الراحل سلباً أو إيجاباً. فهذه الأساليب نادراً ما تبدّل القناعات التي كوّنها الناس عن “القيادات التاريخية”… ولا شك في أن الأمين عصام المحايري واحد من تلك الشخصيات التاريخية التي ظلت مؤثّرة بشكل عميق على امتداد تاريخ الحزب منذ استشهاد سعاده الذي “خُطف” من دمشق تحت أعين المسؤولين المركزيين، ومن بينهم الأمين المحايري المنفذ العام لمنفذية دمشق!
أريد التعاطي مع هذا الموضوع من زاوية عامة تكاد تنطبق على كل القيادات سواء في الحزب السوري القومي الاجتماعي أو في غيره من الأحزاب والمنظمات السياسية وغير السياسية. القيادة هي مسؤولية أولاً وأخيراً. ولذلك فإن المسؤول، من حيث المبدأ، يجب أن يخضع للتقييم والمحاسبة وفق مقاييس متفق عليها. والشخص الساعي إلى تحمّل المسؤولية، خصوصاً في حزب نهضوي كالحزب السوري القومي الاجتماعي، مُلزم بقواعد دستورية ومناقبية تُعتبر الإطار الواضح لقيادته ولكيفية ممارسته السلطة. هذا من الناحية العملية، لكن من المفترض أن يكون للمسؤول برامج عمل مفصلة يتعهد بإنجازها خلال فترة توليه سدة المسؤولية والقيادة.
عملية التقييم والمحاسبة تتم على أساس مقاييس متفق عليها. والنتيجة التي يتم التوصل إليها تأخذ في الاعتبار الظروف الموضوعية والذاتية للمرحلة المعنية، والتي ليس من بينها “حسن النية” أو “سوء النية”. فهذه مسألة فرعية لا تغيّر شيئاً في التقييم أو في الحكم. عندما يتولى شخص ما، الأمين عصام المحايري أو غيره من الأمناء، منصباً قيادياً في الحزب السوري القومي الاجتماعي فإن سوء النية أو حسنها لا يصلحان مقياساً على الإطلاق. من حق القوميين الاجتماعيين الذين هم مصدر السلطات أن يطرحوا السؤال التالي: هل ترك هؤلاء المسؤولون الحزبَ الذي تولوا قيادته على مدى سنوات في وضع أفضل مما كان عليه في بداية عهدهم؟
إن الحكم بفشل أو نجاح أي قائد حزبي سيكون باطلاً ومشبوهاً إذا قام على قاعدة الولاء الشخصي أو الفئوية البغيضة. نحن ننظر إلى واقع القوميين الاجتماعيين اليوم، ليس بهدف الإدانة وإنما للكشف عن الخلل ومحاولة إيجاد الآليات المناسبة للإصلاح. ثمة شيء مؤكد ومكشوف لكل من يتعامل بشفافية مع أزماتنا الراهنة: لم يصل الحزب السوري القومي الاجتماعي إلى حالته الصعبة الآن، إلا لأن ممارسات بعض القياديين أخذته في مسار انحداري خطير… والحكم التاريخي والحزبي على تلك القيادات ينطلق (أو من الواجب أن ينطلق) من هذه الحقيقة الجلية وحدها!
ثمة مسؤولون مباشرون عن أزمتنا الموجعة… وهم بالتأكيد ليسوا القاعدة القومية الاجتماعية.