سورية والصراع على الدستور – مازن بلال
Share
منذ التدخل الروسي العسكري في سورية، طفت مسألة الدستور على مساحة الأزمة السورية. ففي العام 2015 بدأ مركز المصالحة في قاعدة حميميم بالدخول على خط المنافسة بشأن الدستور، وذلك بعد أن أنجز مركز كارتر مقترحاً لدستور سوري. لكن الفارق الأساسي هو أن هذه المسألة ظهرت في كل تحركات موسكو كأولوية لحل الأزمة السورية. وبغض النظر عن الملاحظات المطروحة بشأن رغبة روسية بإنجاز دستور جديد، إلا أن الواضح أن هذا العنوان جاء بديلاً عن أمرين: الأول هو إسقاط النظام، والثاني المرحلة الانتقالية.
عملياً نجحت روسيا في جعل الدستور أولوية في عملية التفاوض في جنيف. ومع التحولات العميقة عسكرياً وسياسياً في سورية، فإن هذه القضية تبدو الوحيدة المطروحة ما بين طرفي الأزمة السورية. فالرهانات العسكرية تتلاشى تدريجياً، بينما تبدو المرحلة الانتقالية حالة افتراضية لم يستطع ستيفان دي ميستورا، المبعوث الدولي بشأن سورية، من تحديد ملامحها وآلياتها طوال جولات التفاوض. وخلال آخر لقاء في جنيف، ظهرت مهمته ضمن إطار الدستور فقط وذلك بعد نجاحه في إيجاد وفد مشترك للمعارضة.
أجندة الدستور
كان تعديل الدستور في بداية الأزمة محاولة لاستيعاب الاضطراب الذي شهدته سورية عبر فتح مجال العمل السياسي. ولكن التعديلات لم تمس المساحات الخلافية بين أطراف الأزمة، وعلى الأخص مسألتي صلاحيات الرئيس وفصل السلطات. فالتغيير في الدستور كان إعلاناً عن فتح الحياة السياسية التي تفتقد أصلاً لبيئة حاضنة، وفي نفس الوقت استباق أي محاولات للمس بالشرعية عبر الدستور. وبالتأكيد فإن الحرب في سورية دخلت بعد ذلك ضمن مساحات أخرى لا علاقة لها بأي تحول سياسي داخلي، بل بإيجاد منظومة شرق أوسطية مختلفة عبر البوابة السورية. وهذا الشكل من الصراع غيّب الدستور إلى أن عادت التوازنات العسكرية على الأرض إلى الاستقرار النسبي في العام 2015.
عودة الدستور من جديد كانت تعني بالنسبة إلى موسكو على الأقل أن المرحلة الانتقالية لا يمكن أن تكون إسقاطاً للشرعية السابقة، وأن الدستور هو الذي يحدد أي عملية انتقال في الشرعية وليس الضغط العسكري الإقليمي والدولي. فالكرملين كان يريد للدستور أن يصبح ناظماً للعملية السياسية القادمة. والملاحظ هنا أن الطرح الروسي استند إلى أمرين:
الأول: استخدام ورقة الدستور في عملية الضغط حتى على العملية السياسية بذاتها، وهو في نهاية المطاف استخدم هذه الورقة في مؤتمر سوتشي وفرضها بشكل مباشر على المبعوث الدولي. وقد ظهرت اللجنة الدستورية كما أقرها مؤتمر سوتشي ضمن حصص بين المعارضة والسلطة مع أولوية واضح للسلطة، وخروج فريق كامل تدعمه السعودية من هذه اللجنة. فما حدث هو إسقاط للميزانين العسكري والسياسي على واقع اللجنة الدستورية. ورغم التسريبات الأخيرة حول الأسماء التي اختارها دي ميستورا، لكن من المستبعد أن تظهر “لجنة دستورية” خارج إطار المحاصصة السياسية التي برزت في سوتشي.
الثاني: التعامل المرن مع عنوان الدستور لأن روسيا تريد تشريعاً يدعم مهمتها في سورية وليس العكس، فهذا الأمر لا يملك سيناريو نهائياً لأنه “حصان سياسي” يتعامل معه الروس بشكل حساس.
بالنسبة إلى الكرملين فإن الدستور هو آلية للحل السياسي؛ لكنها آلية للتوافق أكثر من كونها أداة تغيير عميق، في وقت تهتم الولايات المتحدة وباقي الأطراف بعمليات الاختراق للدولة وإيجاد توازن على مستوى المؤسسات التنفيذية وليس التشريعية. فالنظرة الغربية عموماً ترى أن تغيير التشريعات غير ممكن في ظل دولة تتبنى بالكامل موقف السلطة السياسية وتتماهى به. أما دمشق فهي تتعامل مع الموضوع كأمر واقع معتبرة أن قدرتها على استعادة زمام المبادرة على كافة الأراضي السورية هي الأساس، وهي التي ستحدد شكل الدستور القادم. فالصراع السياسي كما تراه الحكومة السورية يظهر فيه الدستور كعلامة فارقة، ولكنها بالتأكيد ليست نقطة العبور الأساسية نحو حل الأزمة.
التصورات الخاصة بالدستور
رغم الجدل الواسع الذي حملته مسألة الدستور إلا أن التصورات بهذا الخصوص ما تزال فقيرة. فالكل يدرك أن الاعتماد على التجربة السورية القصيرة منذ الاستقلال لا يقدم الكثير، فتجربة الجمهورية الرئاسية هي الأكثر حضوراً بينما الجمهورية البرلمانية كانت الأكثر اضطراباً. والمسألة الأخيرة أن الجمهورية الرئاسية بمختلف مراحلها أتت نتيجة تحركات عسكرية بالدرجة الأولى. وعندما تمسك بعض أطراف المعارضة بالجمهورية البرلمانية رغم عدم وجود كتل سياسية قوية لإنجاح هذا الشكل، فإن الهدف الرئيسي كان صلاحيات رئيس الجمهورية بالدرجة الأولى.
ما يحدث بشأن الدستور اليوم لا يتعلق حتى الآن بالبحث عن صيغ تمنع تكرار الأزمة السورية مستقبلاً، فهذا الأمر يتطلب عقداً اجتماعياً جديداً يتم على أساسه رسم ملامح دستور البلاد. ومن المستبعد أن تستطيع القوى المتصارعة تحقيق هذا العقد في ظل التأثير القوي دولياً وإقليمياً على معظم الأطراف. فالتوافق يبدو بعيداً نوعاً ما. كما أن أكثر الأطراف الدولية حرصاً على الدستور، روسيا بالتحديد، لا تحاول قراءة التوافق الاجتماعي. فهي تفهم هذا الأمر وفق صياغات فيدرالية أحياناً، أو ضمن الشكل الذي وفرته لها تجربتها في حربي الشيشان.
يبقى الرهان على القوى السياسية والاجتماعية في الداخل لقراءة طبيعة “الجمهورية” القادمة. فالدستور في النهاية هو تجربة متطورة تعتمد على إيجاد حالة أكثر من التوافق، وفي نفس الوقت لا يمكن أن تعتمد “المحاصصة” السياسية بقدر كونها رؤية إلى المستقبل. فالمحاولات السياسية التي تعمل على استخدام الدستور لإيجاد توازن سياسي إقليمي أو دولي؛ ستنهار عند أي خلل في التوازنات كما يحدث في لبنان على سبيل المثال. والمهمة الدستورية ستنتقل عاجلاً أم آجلاً باتجاه المجتمع في سورية. والتحركات الدبلوماسية اليوم ما لم تفتح نقاشات سورية داخلية فإنها ستبقى “لعبة دبلوماسية” بين القوى الدولية والإقليمية
مقال رائع جداً
فهمنا من خلاله الكثير
المزيد من تحليلاتٍ كهذه أمر مفيد
الشكر للأستاذ مازن بلال