سلسلة المدرحية علم وفلسفة -الحلقة السابعة
Share
النظرة الى الحياة والكون والفن هي واحدة من فلسفة العلوم الى فلسفة الحياة
نبدأ هذه الحلقة بما ذكرناه في نهاية الحلقة السابقة، وهو: “وكما أن الأكاديميين أدركوا ترابط فلسفة العلوم والعلوم والفنون وفلسفة الحياة، وإنها مسائل تؤلف قضية واحدة وليست مسائل منفصلة ومستقلة تماماً عن بعضها، فإن سعاده أيضاً قد نظر نظرة واحدة الى الحياة والكون والفن وليس نظرات مستقلة ومنفصلة الى كل من الحياة والكون والفن”. ولحسن حظنا فإن سعاده قد قدّم لنا نصّاً كاملاً يعبِّر تعبيراً واضحاً جداً عن وحدة النظر الى الحياة والكون والفن، أي الى فلسفة علم الاجتماع ثم علم الاجتماع ثم الفن ثم فلسفة الحياة، كقضية فكرية واحدة. كان ذلك بتاريخ 10-1-1947 في رسالته من مغتربه القسري في الارجنتين الى السوريين القوميين الاجتماعيين، يقول:
“في كل هذه المدة الطويلة، وبعد كل هذه المحن العظيمة، لم يضعف إيماننا بل قوي إيمانكم بي وإيماني بكم. آمنتم بي معلماً وهادياً للأمة والناس ومخططاً وبانياً للمجتمع الجديد وقائداً للقوات الجديدة الناهضة الزاحفة بالتعاليم والمثل العليا الجديدة إلى النصر، وآمنت بكم أمة مثالية معلمة وهادية للأمم، بناءة للمجتمع الإنساني الجديد، قائدة لقوات التجدد الإنساني بروح التعاليم الجديدة التي تحملون حرارتها المحيية وضياءها المنير إلى الأمم جميعها، داعية الأمم إلى ترك عقيدة تفسير التطور الإنساني بالمبدأ الروحي وحده وعقيدة تفسيره، من الجهة الأخرى، بالمبدأ المادي وحده، والاقلاع عن اعتبار العالم ضرورة، عالم حرب مُهلكة بين القوة الروحية والقوة المادية، وإلى التسليم معنا بأن أساس الارتقاء الإنساني هو أساس روحي – مادي (مدرحي) وأنّ الإنسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الأساس وتشيد صرح مستقبلها عليه. ليس المكابرون بالفلسفة المادية بمستغنين عن الروح وفلسفته ولا المكابرون بالفلسفة الروحية بمستغنين عن المادة وفلسفتها.
إن العالم الذي أدرك الآن، بعد الحرب العالمية الأخيرة، مبلغ الهلاك الذي جلبه عليه قيام الفلسفات الجزئية الخصوصية – الفلسفات الأنانية التي تريد أن تحيا بالتخريب – فلسفة الرأسمالية الخانقة وفلسفة الماركسية الجامحة، التي انتهت في الأخير بالاتحاد مع صنوها المادية الرأسمالية بقصد نفي الروح من العالم، وفلسفة الروح الفاشستية وصنوها الاشتراكية القومية المحتكرة الروح، الرامية إلى السيطرة به سيطرة مطلقة على أمم العالم وشؤونها – هذا العالم يحتاج اليوم إلى فلسفة جديدة تنقذه من تخبط هذه الفلسفات وضلالها. وهذه الفلسفة الجديدة التي يحتاج إليها العالم – فلسفة التفاعل الموحد الجامع القوى الانسانية – هي الفلسفة التي تقدمها نهضتكم”.
هذا النص هو أقوى وأوضح صورة عن ترابط فلسفة علم الاجتماع التي يسميها سعادة عقيدة تفسير التطور الانساني، أي عقيدة تفسير الحياة، وفلسفة الحياة التي يسميها تشييد المستقبل، مروراً بعلم الاجتماع الذي يسميه أساس الارتقاء الانساني.
في هذا النص الواحد وهذه القضية الفكرية الواحدة ثلاثة أضلاع أو ثلاث محطات ومسائل فكرية هي: عقيدة تفسيرالتطورالانساني، ثم أساس الارتقاء الانساني، ثم تشييد المستقبل.
1 – بالنسبة لعبارة عقيدة تفسير التطورالانساني بالمبدأ المادي أو الروحي، نسأل : ما معنى تفسير الحياة بالمبدأ، وكيف يكون تفسير الحياة والتطور الانساني بالمبدأ، وهل المبدأ يفسِّر، وهل التفسير بحاجة لمبدأ وعقيدة كي نقول عقيدة تفسير التطور بالمبدأ؟
لكي نحصل على جواب يجب ان نعرف أن كلمتي عقيدة ومبدأ تعنيان فلسفة، وأن التفسير يعني علم أو هو من وظيفة العلم ، فتصبح عقيدة تفسير التطور بالمبدأ المدرحي التي ذكرها سعاده في النص الوارد فوق، تصبح موضوعاً ينتمي الى فلسفة العلوم الانسانية وليس الى العلوم نفسها. ولأنه لا يوجد إجماع حول أي مبدأ يجب تفسير الحياة به فإن سعاده قد دعا العالم الى التسليم معنا تسليماً. فلو كان الموضوع علميًا فقط لما احتاج سعاده لدعوة الأمم الى التسليم معنا، بل لكانت الأمم سلّمت معنا بدون دعوة، كما يسلِّم الجميع بالحقائق العلمية دون الحاجة لدعوة من أحد.
2 – أما عبارة إدراك الأساس فهي حتماً تعني معرفة القواعد والحقائق الانسانية، بعد استعمال عقيدة ومبدأ التفسير المدرحي للوصول الى هذه المعرفة، وهذا ينتمي الى دائرة علم الاجتماع.
3 – أما عبارة تشييد المستقبل فبديهي أنها تعني فلسفة الحياة، أي الفلسفة المعيارية – الوجوبية – الاخلاقية، أي المبادئ التي نشيِّد بها المستقبل.
هكذا نرى كيف أن النظرة الى الحياة والكون، والفن المعبَّر عنها في هذا النص الواحد، تبدأ من فلسفة علم الاجتماع مروراً بعلم الاجتماع نفسه وصولاً الى فلسفة تشييد المستقبل ، لذلك قال سعاده إن الانسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الاساس وتشيد صرح مستقبلها عليه.
إن نظرة سعاده الى الحياة والكون والفن هي نظرة واحدة تعالج قضية واحدة تبدأ من فلسفة علم الاجتماع، أي من عقيدة تفسير الحياة الانسانية والتطور الانساني وعوامله ومبادئه الاولى، وصولاً الى فلسفة الحياة أي تشييد المستقبل وبناء حياة أفضل على الأساس العلمي للاجتماع وحقائقه العلمية، وكل ذلك لا يتمّ إلّا بالفن، فالفلسفة المعيارية هي أعلى مراتب الفن.
إن طلاب الفلسفة قد قرأوا كثيراً عن علاقة العلم بالفلسفة وأيهما أساس للآخر، واطّلعوا على نظريات تتكلم عن حاجة العلم للفلسفة وحاجة الفلسفة للعلم، ودرسوا “سائر فروع الفلسفة”، قبل العلم وبعده، لكن أحد الدارسين، وهو الدكتور عادل ضاهر، يبدو أنه قد التبس عليه الأمر. ففي كتابه “المجتمع والانسان” وبالتحديد في الفصل الحادي عشر تحت عنوان سعاده والمادية التاريخية، يحتار ويتعجّب، حسب ما هو يقول، كيف أن سعاده يخلط بين ما هو علمي (تفسير الحياة) وما هو فلسفي معياري (تشييد المستقبل) ولا يعرف إذا كان هذا النص هو نص علمي أو نص فلسفي!! (ضاهر كان يناقش قول سعاده الذي أوردناه من رسالته الثانية الى القوميين الاجتماعيين).
يقول الدكتور ضاهر: “سعاده يتحول من الشأن الوصفي الى الشأن المعياري بشكل محيِّر للدارس” (ص 210).
“نجد أن سعاده لم يميز في بعض الحالات بين تحفظاته على المادية كمذهب معياري وتحفظاته حول المادية كنظرة في تفسير التاريخ” (نفس الصفحة).
“نجد سعاده يقفز من شؤون غير معيارية الى شؤون معيارية بشكل يرجح لنا عدم وجود تمييز واضح لديه بين هذين النوعين من الشؤون” (نفس الصفحة).
وفي الصفحة 211 يمعن الدكتور ضاهر في حيرته ويقول:”هنا يظهر أن سعاده يرفض التفسير الروحي والتفسير المادي للتطور التاريخي إنطلاقاً من رفضه للغايات التي يستهدفها الموقف الروحي وللغايات التي يستهدفها الموقف المادي. وإذا كان فهمنا قول سعاده على هذا الشكل فهو غير متماسك (يقصد قول سعاده) لأن الاسباب التي يشير إليها هذا القول كأساس لرفض الموقف الروحي أو الموقف المادي هي أسباب لرفض هذا الموقف فقط إذا كان موقفاً معيارياً. ولكن ما يُفهم من قول سعاده هو أنه يرفض الموقف الروحي والمادي من حيث كون كل موقف منهما يعبِّر عن نظرة معينة في تفسير التاريخ” (أي الموقف العلمي الوصفي أيضاً).
ويتشبث الدكتور ضاهر في أحكامه واستنتاجاته وحيرته ويقول: “مهما يكن من أمر خلط سعاده بين الشؤون المعيارية والشؤون غير المعيارية فمما لا شك فيه هو أن نظرة سعاده المدرحية اتخذت في كتاباته أشكالاً مختلفة يجب التمييز بينها: فسعاده يهيء لنا أحياناً أن المدرحية هي عقيدة أي فلسفة معينة للفعل (أي لتشييد المستقبل)، ويهيء لنا أحياناً أخرى أنها نظرة معينة في تفسير التاريخ، وفي حالات أخرى نجده يشير الى المدرحية على أنها نظرة في كيفية بناء وتنظيم المجتمع”. ويزيد في نفس الصفحة ويقول: “فعندما نخرج من إطار الوصف والتفسير العلميين الى إطار التأمل الفلسفي والاخلاقي ونقع فريسة النظرة القبلية – المثالية التي تحاول أن تُخضِع فهمنا للواقع وتعاملنا معه لافكار مسبقة صادرة عما نتوهم أنه الواقع وليس عما نعرف أنه الواقع”.
لسنا هنا في معرض مناقشة الدكتور ضاهر أو الرد عليه، لقد أوردنا ما قاله كي نبيِّن أن بعض المدارس الفلسفية، خلافاً لسعاده، تعتبر مسائل فلسفة العلم والعلم وفلسفة الحياة أنها مسائل منفصلة مستقلة ولا تؤلف قضية واحدة. حتى أن البعض مثل الدكتور ضاهر لا يتورع عن القول: “إن من يتبنى موقفاً مادياً بالمعنى الوصفي العلمي قد يتبنى موقفاً لا مادياً بالمعنى المعياري، وهذا ينطبق على كارل ماركس…”!
كأن سعاده، وهو المطّلع على مختلف المذاهب والمدارس الفلسفية، كان يتوقع حدوث سوء فهم وسوء تفسير لنظرته الى الحياة والكون والفن من قِبَل من كوّن نظرته في مدارس فلسفية تتعارض نظرتها تعارضاً أساسياً مع نظرته، فقال:
“إن بعض طلبة الفلسفة من الرفقاء تُرِكوا بلا تعليم عقدي ليقبلوا تعاليم المدرسة العقدية الأولى التي يدخلون لتعلّم الفلسفة فيها، فدرسوا المذاهب الفلسفية الكلاسيكية وما عُرِضَ عليهم أو وُجِّهوا إليه من مذاهب اخرى إلاّ الفلسفة القومية الإجتماعية. فهذه لم يكن بقربهم من يهتم بتوجيههم إليها، فلم يكن لها مكان في أفهامهم، وكونوا نظرتهم أولياً ونهائياً على غير نظرتها وأصولها. ومن البديهي أن يكون إنتاجهم في هذه الحالة في غير اتجاهها وفي غير نظرتها…”.
إن سعاده لا يخلط أبداً، إنه يدرك ما هو العلم وما هي الفلسفة، وهو العالم والفيلسوف معاً، ولكنه يدرك أيضاً أن فلسفة الحياة – فلسفة تشييد المستقبل – الفلسفة الوجوبية المعيارية، هي جزء من نظرة شاملة الى الحياة والكون والفن، وأن هذه النظرة لا بد أن تبدأ من عقيدة تفسير الحياة والتطور الانساني مروراً بإدراك الأساس العلمي لهذا التطور وصولاً الى عقيدة أو فلسفة تشييد المستقبل. وبكلام أكثر بساطة نقول إن سعاده يدرك أن الفهم العلمي لحقائق الحياة والاجتماع، هو الخطوة الاولى الضرورية للوصول الى تكوين نظرة فلسفية صحيحة وصالحة لبناء المستقبل. ففي النص الذي أثبتناه فوق إشارة واضحة على ذلك وهي: إن الانسانية المتفوقة هي التي تدرك هذا الاساس وتشيد صرح مستقبلها عليه.
وسعاده نفسه قد نبّه في مقدمة كتابه العلمي نشوء الامم على هذه المسألة عندما قال:
“إن درساً من هذا النوع يوضح الواقع الاجتماعي الانساني في أطواره وظروفه وطبيعته ضروري لكل مجتمع يريد أن يحيا. ولا تخلو أمة من الدروس الاجتماعية العلمية إلا وتقع في فوضى العقائد وبلبلة الافكار”. وعندما تكون فوضى العقائد وبلبلة الافكار ناتجة عن عدم الدرس العلمي للواقع الاجتماعي الانساني في أطواره وظروفه وطبيعته، فبديهي أن يكون هذا الدرس ضروري للوصول الى العقيدة – الفلسفة الصحيحة التي تبني المستقبل، وهذه الفلسفة يجب أن تكون متفقة ومنسجمة ومتوافقة مع الحقائق العلمية التي يتوصل اليها هذا الدرس.
رغم ذلك، ورغم أن الدكتور ضاهر قرأ هذا القول وأثبته في كتابه (صفحة213) فإنه عاد واعتبر “إن من يتبنى موقفاً مادياً بالمعنى الوصفي العلمي قد يتبنى موقفاً لا مادياً بالمعنى المعياري، وهذا ينطبق على كارل ماركس…”!! فما الحاجة الى المعرفة الوصفية العلمية إذا لم تكن هي الاساس الذي سنبني عليه فلسفتنا المعيارية؟!
إريد هنا أن أستشهد بقول وفكرة للدكتور عادل بشارة وردت في مقدمة كتاب سيصدر له قريباً، يقول:
“…مشكلة النزوع إلى تجزئة سعاده إلى أجزاء صغيرة ومناقشة أفكاره بشكل مستقل عن بعضها البعض. إنها طريقة اختزالية مفرطة تستثني أحياناً عناصر مهمة من نظام المفاهيم الخاص به أو تعطي الأولوية لبعض هذه المفاهيم على حساب مفاهيم أخرى. وهذا الأمر واضح في النزوع لمناقشة سعاده كمجموعة من قطع بانوراما من الألغاز دون معرفة مسبقة بالصورة الكاملة أو القدرة على إعادة تجميع أجزاء اللغز معاً وفي النزوع إلى تقسيم اللغز والتركيز على بعض القطع في تجاهل تام لبقية القطع الأخرى. ويتم في كلتا الحالتين، تشويه حضور سعاده بشكل خطير والنيل من اتساع وتماسك أفكاره”.
لعل تعبيرالنظرة (الواحدة) الى الحياة والكون والفن الذي انفرد به سعادة وامتاز به عن غيره من الفلاسفة، لعل هذا التعبير هو الفيصل في إثبات أن مسائل فلسفة العلوم ثم العلوم ثم فلسفة الحياة والمستقبل هي مسائل تؤلف قضية واحدة وليست مسائل منفصلة ومستقلة تماما عن بعضها.
يتبع في الحلقة الثامنة.