سعاده والحزب والأخلاق: نظرة سريعة
Share
رأى سعاده أن البعث القومي في سورية غير ممكن عملياً خارج نطاق مؤسسة تدرك جوهره عملياً وتفهم ميدانه الخاص. وقد تكون هذه المؤسسة موجودة فعلاً في بعض المجتمعات، أما في المجتمعات المتخلفة فلا بد من إيجادها. المؤسسات السورية، مثلاً، كانت وما زالت قديمة وتفتقر للكفاءة، وهي خارج نطاق الوعي القومي ومحصورة في وضع هامشي يعتمد أساساً على العشيرة أو الطائفة أو العائلة. وحتى في عصر التغيير السريع، فشلت في إبداء أي سلوك ثوري، وتراجعت إلى نشاطات آنية.
الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي تأسس عام 1932، كان رد سعاده على هذا الافتقار للمؤسسات. جسد الحزب في تأسيسه وعمله نضج الاتجاه العام الذي أخذ يتجاوز المطالب المحدودة والمتضاربة للجماعات المختلفة ويتبلور ضمن المستوى السياسي القائم والتفكير الضيق. بالإضافة إلى الافتقار في المؤسسات القائمة، كان الوضع الاجتماعي والاخلاقي في البلاد يعاني من البؤس المادي والتخلف والظلم والتفكك السياسي. اي ان الامة كانت تفتقر الى ابسط قواعد البعث القومي – المؤسسات والقيم الأخلاقية في الجماعة – على عكس العديد من المجتمعات التي كانت تتوفر فيها هذه العناصر ولو بدرجات متفاوتة.
وكان سعاده قد وصف الظروف التي اكتنفت تأسيس الحزب. كما يلي:
“في ذلك الوقت كانت السلطة الأجنبية تضبط كل حركة وكل شاردة وواردة في البلاد. وكانت الجاسوسية متفشية ومنتشرة في كل الأوساط. وكانت الخيانة أيضاً منتشرة وتصدر من كل جهة تقريباً بلا حساب ولا مسؤولية، لأن معنى الحياة المجتمعية في بلادنا كان مفقوداً بالكلية. مقاصد الحياة كانت مقاصد الأفراد، وفي الكثير مقاصد العائلات المتكتلة. أما الحياة المجتمعية، الحياة القومية ومصيرها فلم يكن هنالك من كان يظن أو يحسب نفسه مسؤولاً عنها” (المحاضرات العشر).
كانت المشكلة الرئيسية في تلك المرحلة هي كيفية تجاوز السياسات الطائفية والعائلية المتحجرة – وبكلمات أخرى، كيفية الانتقال من الواقع الموضوعي للفتور السياسي إلى الذاتية الثورية. برأي سعاده، استلزم هذا التحول تغيراً أساسياً في المواقف السياسية: من “المفهوم الفردي” الخصوصي إلى “المفهوم القومي”، بحيث ترفع المسائل المثارة إلى نقطة تصبح فيها المصلحة القومية هي الأساس لكل تصرف أو سلوك سياسي. كان الحزب هو القوة التي أمل سعاده أن تحقق هذا الهدف. ففي الوقت الذي شجعت فيه المؤسسات القائمة نظرة خصوصية ضيقة قادت، في الغالب، إلى التركيز على المصالح الفئوية، كان الحزب السوري القومي الاجتماعي حركة تعبر عن رفضها لتلك النظرة واستبدالها بنظرة جديدة قائمة على منطلقات قومية اجتماعية وقواعد مناقبية ذات قيمة معنوية وأدبية في النهوض القومي. لذلك كان وصف سعاده للحزب على “إنه فكرة وحركة تتناولان حياة أمة بأسرها“. (المحاضرات العشر)
وبالفعل، ما ميز الحزب السوري القومي الاجتماعي عن الأحزاب والتنظيمات السياسية القائمة في سورية، هو توكيده على “الكليات” وليس “الخصوصيات”. تملكته رغبة جامحة في البقاء دوماً كطليعة حقيقية للقضايا القومية والاجتماعية، بدل التلهي بالمشكلات والحلول الطارئة، او السعي ورا ْالمكاسب الآنية الصغيرة، والملذات التي لا يمكن أن تحقق الطمأنينة الا للافراد المنتفعين.
الموضوع الحيوي بالنسبة لسعاده لم يكن استبدال نظام سياسي بآخر، أو المسارعة لإيجاد نظام جديد يمكن أن ينتجه المجتمع وهو في وضعه الحالي. الموضوع لسعاده هو تغيير كامل حياة الأمة التي توقف تقدمها منذ وقت طويل، وتقلصت الإمكانية الموضوعية لتحركها باتجاهات جديدة، وذوت حتى التلاشي تقريباً.
حدد سعاده نضال الحزب السوري القومي الاجتماعي في مرحلتين: ليس فقط تدمير المعاني والمعايير القديمة في الحياة اليومية، بل لا بد من بناء أخرى جديدة مكانها. وهذا استلزم إنشاء بنى سياسية تسلسلية في مجال الوجود اليومي للشعب. الغاية من هذه البنى أو الخلايا الحزبية هو غرس الوعي القومي في الشعب، وطرح التحدي لكل قيود النظام القائم. هنا، تصور سعاده تفاعلاً جدلياً بين الحزب والشعب: الحزب يفشي في الشعب وعياً قومياً ثورياً، ويتلقى بالمقابل دعماً مادياً ومعنوياً هو بحاجة إليه. لذا، وقف الحزب السوري القومي الاجتماعي بين النخبوية والجماهيرية. النخبوية تعني وجود نواة سياسية منفصلة تمامً عن محيطها، مع احتفاظ نواة صغيرة من هذه النخبة بكل المبادرات. والجماهيرية تعتبر المشاركة الشعبية الأداة الحقيقية للتغيير الثوري. ولما كان الحزب يمثل حياة جديدة بقيمها ومناقبها الخاصة، يرى سعاده أن عليه أن يهدف إلى تطوير نفسه بحيث يتمكن من إعطاء التعبير المؤسسي عن النظام السياسي الجديد الذي يسعى لإقامته. قال:
“القصد الأساسي في الحزب السوري القومي الاجتماعي هو توحيد اتجاه الأمة الموجودة مصغرة في الحزب. وإذا قلنا أن الأمة هي الحزب السوري القومي الاجتماعي وأن الحزب السوري القومي الاجتماعي هو الأمة، لم نقل إلا الحقيقة الحرفية المجردة، لأن الأمة هي هيئة تحقق فيها الوعي وحصلت النظرة الفاهمة الواضحة الصريحة إلى الحياة والكون والفن“. (المحاضرات العشر)
كانت فرضية سعاده الرئيسية هي أن التحول الفردي في السلوك والأساليب، يجب أن يبدأ من إدراك أن البعث القومي، وخاصة في بداياته، هو مسار عقائدي قبل كل شيء آخر. ولهذا السبب، دعا القوميين الاجتماعيين إلى مناقشة المواطنين عقائدياً بدلاً من الخوض في السياسة، وكإجراء معاكس للوضع السياسي القائم. نجم الهجوم على السياسة من الارتياب العميق بالأساليب السائدة والاتجاه القائم، فقد كانت مجردة من القيم وتقوم على الدهاء والهرطقة: “السياسة التي تسخر من آمال الشعب ورغباته وتحتقر الأمة”. وكتعبير حقيقي عن النهضة، يترفع سعاده عن هذا النوع من السياسة باستبداله بنوع آخر يقوم، بالدرجة الاولى، على مبدأ الاخلاق: “كل خطة سياسية وكل خطة حربية مهما كانت بديعة ومهما كانت كاملة لا يمكن تحقيقها إلا بأخلاق قادرة على حمل تلك الخطة“. (المحاضرات العشر)
والأخلاق التي نادى بها سعاده تقوم على العناصر الآتية:
- صحة العقيدة
- شدة الايمان
- صلابة الارادة
- مضاء العزيمة
هذه العناصر الأربعة، التي تكون الاطار العام لنظام النهج في الحزب، ترتبط ارتباطا” عضويا” بنظام الفكر والشكل بحيث لا يمكن ولا يجوز العبث في اي منهم. وبقدر تماسك نظام النهج تظهر قوة التنظيم والتزام الحزب بغايته المحددة في العقيدة والمبادئ.
إن الحزب وجد لأجل اهداف ذات طابع أخلاقي، ما يفرض أن تكون الممارسة السياسية أيضا أخلاقية. إلا أن الواقع يكشف خلاف ذلك تماما”، سواء تعلق الامر بالممارسة السياسية على مستوى المجتمع أو على مستوى العلاقات داخل الحزب، حيث يسود منطق القوة والخداع وهضم الحقوق والسلطوية والتلاعب بالتضحيات.. وكأن العمل الحزبي لا ينجح إلا إذا أُبعدت القيم الاخلاقية.
فاذا سلمنا أن الحزب وجد لأجل تحقيق اهداف أخلاقية منعدمة او شبه منعدمة في اوساط الشعب، فأخلاقية الغاية تفرض أخلاقية الوسيلة. كما أن ارتباط العمل الحزبي بالاخلاق يسمح بالتطور والازدهار نتيجة بروز الثقة بين القيادة والصف الحزبي، فينمو الشعور بالمسؤولية ويتفانى الافراد في العمل. بالمقابل، ان غياب الاخلاق وابتعادها من العمل الحزبي والسياسي يوّلد انعدام الثقة والانقسامات والركود، مع ما فيها من ضرر على الامن والاستقرار وإهدار للامكانيات، وهذا كله يجعل الحزب يتحول الى أداة قمع وسيطرة واستغلال.
نحن اليوم بأشد الحاجة الى القيم الاخلاقية التي وضعها سعاده، وهذا لا يتم بالكلام بل بالفعل. والفعل يتطلب عمل دؤوب وجهود متواصلة وهمة عالية والتزام ببطولة العقل من اجل إنقاذ الحزب.
إن الحرب على العابثين الذين انتهكوا القيم الاخلاقية السعادية وتمكنوا من تحويل الحزب الى مجرد حزب سياسي عادي من اجل مكاسب آنية ومصالح فردية لا تمت للنهضة بأي صلة، ستكون “أشد حروبنا وأكثرها ألما ومرارة” (سعاده).